مقالاتمقالات مختارة

صلاح الدين هو الحل .. بقلم د. علي العمري

قبل ثلاثين عاماً قدَّم العلامة الشيخ (أبو الحسن الندوي) -رحمه الله- محاضرة عن القدس برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وكان مما قال فيها: “إن الحل لقضية الأقصى هو عودة صلاح الدين”.

وقطعاً يريد الشيخ الندوي فكر صلاح الدين، ومنهج صلاح الدين، وخُطَا صلاح الدين في تحرير القدس والأقصى.

وحول هذا المفهوم قال المؤرخ والأديب (خير الدين الزركلي) يخاطب الأمة:

هَاتِيْ صلاحَ الدينِ ثانيةً فينا وجَدِّدِي حِطِّينَ أو شِبْهَ حِطِّينَا

إن الندوي والزركلي وسواهم ليسوا ممن يتغنَّى بالتاريخ، أو يُطالبُ بتعجيل خروج المهدي كما يُقال. لكنهم يفهمون أن من يُطالب بعودة عمر، هم من وجدوا صلاح الدين!، وهو المعنى الذي لخصه (د. أحمد خيري العُمري) في كتابه الرائع (استرداد عمر).

إن الجميع يعرف أنه لن يعود عمر بشخصه وفضائله وتاريخه ومجده، ونزول القرآن موافقاً لعدد من آرائه واجتهاداته، لكن الجميع يعرف أنهم عندما يطالبون بعودة عمر فينا، بفكره، ومنهجه، وهَمـِّه، وهِمته، ورسالته، وجميل صفاته، فإنهم يراهنون على تلامذة خرجوا بعد حين على خطاه، أمثال نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وعز الدين القسام، وأحمد ياسين، ممن رأى فيهم الناس المضيَّ على السَّنَنِ نفسه في العلم والعمل.

وفي فترة الحملة الصليبية السابعة على الشام، خرج (لويس التاسع) مخاطباً النصارى في الكنيسة بباريس مطالباً الأسقف ورجال المال أن يدفعوا ضريبة للحرب على المسلمين، ثم ناشدهم الوقوف في الصفوف الأولى حتى تدور المعركة وتحقق غايتها.

وفي المقابل وفي التوقيت نفسه خرج الإمام (الصالحي) قاضي (جَبَلة)، وجمع العلماء والوجهاء والتجار، وكان قبلها قد شارك مع عدد من الجند في مواجهة عسكرية على أطراف الشام، وبعد أن جمعهم في المسجد، قال لهم من شعر الأبيوردي:

مَزَجْنَا دِمَاءً بالدُّمُوعِ السَّواجِمِ فَلَمْ يَبْــقَ مِنَّا عَرْضَة ٌ لِلَمـــراجِــــــمِ

وَشَرُّ سِلاحِ المَرْءِ دَمْعٌ يُفيِضُهُ إذَا الحَرْبُ شُبَّت نارُها بِالصَّوارِمِ

إن الإمام (الصالحي) يُشرِّح في هذين البيتين الواقع، ويصف العلاج الناجع.

لقد أدرك أن أكبر خطر أمام عملية التحرير والمقاومة والحريات والدفاع عن كرامة الشعوب واستقلال الأرض، ألا يبرز القادة والقدوات في ميدان العمل، ولذلك مزج مع إخوانه القادة دماءهم بدموعهم ونزلوا لعرصات القتال، وحين رآهم الناس لم يبق أحد ينال منهم، وينشغل بشتمهم، بل هم وأبناؤهم والأقربون منهم نالهم الأذى، واكتشف الناس أنهم كانوا من ضمن الجنود البررة الذين نافحوا عن الحرية والكرامة، فزاد هذا الواقع من رصيد حبهم، والثقة بهم، والولاء لقضيتهم.

ثم إن الإمام (الصالحي) توجه في خطابه للناس بأن شر ما يقدِّمه الإنسان القليل، وبيده الكثير!، أو أن يُقدم ما يُقدِّمه كل الناس وهو يستطيع تقديم الأولى والأهم والأعز، إذ ماذا يفيد إذا الحرب شبت نارها بالصوارم، وفيها لمعات السيوف، وهناك من يفخر بتقديم الإغاثة والمعونات الإنسانية، وبيده تقديم السلاح والمـُهج!! وفي ذات السياق يقول المتنبي:

عَــجِبْتُ لـمَــــنْ لَهُ قَــــــدٌّ وَحَـــــــدٌّ وَيَنْبُو نَبْــــــــوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ

وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي فَلا يَذَرُ المَـــــــــــــطيَّ بِلا سَنَامِ

وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ

فمن أراد أن يكون صانعاً للمجد، محركاً للحياة، عليه أن ينزل للساحة، ويدخل في العمق؛ لأن التأثير كما يقول (سيبويه): له عمقٌ ودُخول.

“وهذا وصف دقيق واصطلاح صغير لمعنى كبير، فشأن محرك الحياة أن (يدخل) ليملك محاور التشغيل وعُقد السيطرة، وليس هو المتفرج أو المراقب له من خارج أو المتسمِّر على كرسي يشاهد خبرها من خلال روايات الإعلام لأخبار (الداخلين)، بل يكفيه أن يعلم أن (عبدالرحمن) قد دَخَل المدار الإبداعي، وجَسَر، وكان صقراً، لا حَمَامة، فَمَلَكَ الأندلس وبقيت دهراً في يد أبنائه”، كما يقول الأستاذ: محمد أحمد الراشد.

وبتحليل هذا العمق والدخول في نموذج الساحة الفلسطينية رأينا الآثار العجيبة التي تبنَّى تتبعها المفكر (د. عبدالوهاب المسيري) -رحمه الله- في كتابه المحرَّر: “من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية – أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني”، ومن ضمن وقفات (د. المسيري) في الكتاب:

1- وصف أحد الكتاب الموقف من المقاومة الفلسطينية بقوله في عبارة دالة على فقدان الإحساس بالأمن في إسرائيل: صغيرة هي المسافة بين الخوف والذعر، والجمهور الإسرائيلي يعيش بين هذا وذاك (معاريف: 11/2/2002م).

2- من النكت الشائعة الآن في إسرائيل، ما يقوله مستوطن لصديقه: سأحضر إلى منزلك بالأوتوبيس، وأمنيتي أن أنجح في ذلك!. (الجيروساليم بوست: 1/1/2002م).

3- ظهر في إسرائيل ما يسمَّى (حضارة البقاء في المنزل)، وهي أن يفضل الناس البقاء في المنزل، ولا يذهبوا إلى المطاعم إلا نادراً، ولذلك فمعظم المطاعم فتحت خدمة (تيك أواي). وحتى حينما يذهبون إلى مطعم لا يجلسون في الموائد التي توجد في وسط المطعم، بل يفضلون الجلوس وراء العمود (مارتن آسر أون لاين: 26/3/2002م b.b.c).

4- بيَّنت (يديعوت أحرونوت: 14/2/2002م) أن شركات الأدوية أفادت بأن هناك ارتفاعاً بنسبة (50%) في استهلاك المهدئات والمسكِّنات.

5- نشرت كل من (هآرتس وبنئيم: عدد 17 صيف 2001م) عن ظاهرة يسميها علماء النفس ظاهرة (العجز المكتسب). وهو سلوك سلبي ينشأ من إدراك أنه لا وسيلة لتجنب آثار مؤلمة، ومن عدم اليقين بخصوص أي شيء. وفي التقارير المنشورة في القنوات والصحف الإسرائيلية أخبار مضحكة أكثر!.

وبعد؛ فإن السَّير على (خُطَا صلاح الدين) ليس عنواناً عبثياً، ولا طرحاً تقليدياً، بل هو في حقيقته تأصيل لفكرة منطق المقاومة، واستمرار المقاومة، وثمرة المقاومة. وما فعلته (حماس) وفصائل الجهاد الإسلامي المباركة في المعركة الأخيرة أنها أبرزت القيادات والجنود الذين ساروا على خطا صلاح الدين، فأعادوا الثقة للأمة الإسلامية، كما كشفوا عن العديد من الأزمات التي مُني العدو الإسرائيلي بها. ولو كان (د. المسيري) حيًّا، لأضاف في طبعة جديدة من كتابه المزيد من الغم النفسي، وارتفاع معدلات الخوف، وأزمة الاقتصاد، وهروب المستوطنين الصهاينة!.

إن المشروع الإسرائيلي قائم كما يقول أحد زعماء الصهاينة على نظرية: “إن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بمزيد من القوة”. أما في المشروع الإسلامي فإن منطلق العزة والمنعة والحماية والأمن والأمان من المفهوم القرآني: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

وقبل قوة السلاح والتمكُّن والتطور ما استطعنا – وقد فعلتها حماس – تكون قوة الإيمان التي تمضي بأتباعها في كل نفق، وعلى كل جبل، كالعاصفة تدمر كل شيء بأمر ربها، تدمر الاحتلال وأوتاده وأعوانه، وتطهر الوادي المقدَّس بشبابه وصغاره من أرجاس القراصنة الصهاينة، ومن سار على دربهم من الفراعنة.

ومن كان على خطا صلاح الدين يوقن أن من يَطلبُ الموتَ توهب له الحياة الخالدة، والشهادة الكاملة.

والطريق معبَّدٌ للأمة لتتحرك، فالنور قد سطع، والبرهان الفلسطيني قد ظهر، وخطا التاريخ قد كُتبت، والعاقبة للعاملين المخلصين.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى