بقلم المصطفى خرشيش
بعد نشر المقال الأول الذي تحدث فيه الكاتب عن “أوجه الاتصال بين الأدلة والأحكام عند الأصوليين وصلتها بالتعلُّم” – يأتي هذا المقالُ في هذا السياق؛ ليرصدَ روابطَ الصلات بين الأدلة والدَّلالة، مع ربط كلِّ ذلك بالتعلم؛ ذلك أن هذا الأمر هو الذي سيُفضي بطلابنا إلى تصورِ أجزاء العِلم الواحد على أنها بِنْيَةٌ واحدة، تجمعها روابطُ عديدة في شكل بنائي متين، تُشكِّل في منتهاها عِلمًا قائمَ المَظانِّ والمصطلحات والمنهج.
وأنا أتصور أن كلَّ عِلمٍ هو بمثابة الشجرة ذاتِ الفروع الكثيرة والأغصان المتفرقة، فإذا ما نظرتَ إلى أعلاها حسِبتَ كلَّ غصن لا يجمعه بأخيه رابطٌ، وإذا ما نظرت إلى أسفلها أدركتَ أنه رغم ذلك الاختلاف، فإنها يجمعها جِذْعٌ واحد متين مستوي السُّوق ومتجذِّر في التراب.
وبمثل هذا التصور الكلي الجامع لشتات العلم وأجزائه، يحصُل المقصودُ من المطلوب، ويسهُل الاستيعابُ على الطالب الدؤوب.
أمَّا فيما يرتبط بإدراك تلك العَلاقة، فإنه لا بد أن نضعَ أمام أعين القُرَّاء الأفاضل الكرام مفهومَ كلٍّ من المصطلحينِ المقصودين بالبحث والدراسة:
فالدليل معناه: “ما يُتوصَّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوبٍ خبري”[1] والدلالة تعني: “فَهم أمرٍ من أمر، أو كَون أمرٍ بحيث يُفهم منه أمر”[2].
فالدلالة من خلال هذا التعريف نوعان:
النوع الأول: يكون واضحًا وجليًّا، ويُفهم من ظاهر اللفظ، وهذا هو المشار إليه في المفهوم بـ: “فهم أمر من أمر”.
فيما النوع الثاني: يكون غيرَ واضحٍ من مدلول اللفظ الظاهر، ولا يُدرك إلا بالتأمل واستعمال النظر، وهو المرتبط بالشطر الثاني من التعريف: “كون أمر بحيث يفهم منه أمر”؛ بمعنى أنه قابلٌ لأن يُفهم منه أمر؛ لكن لا بد من النظر والتأمل.
من ذلك نستفيد أن العلاقة بين الأدلة والدلالة هي أن الدلالة تُؤخذ من الأدلة وتُستنبط منها؛ فهي المصدر الأول لها؛ ذلك أن “طرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة”[3]
فالدلالة تُفهم من الدليل؛ فالعلاقة بينهما هي علاقة لفظٍ بمعنى، وعلاقة تلازُم؛ فلا دليلَ بدون مدلول، ولا مدلول بدون دليل؛ إذ لا يُتصوَّر وجودُ معنى بدون لفظ، ولا لفظ بدون معنى، إلا ما أُهمل في العربية كما يقول النحاة؛ ذلك أن علاقة اللُّزوم بينهما تظهر بجلاء ووضوح، غير أن دلالة اللفظ فيها ما هو واضح، وفيها ما هو خفي.
والتعريف الذي ذكرناه في الدليل يَنُمُّ عن هذا الارتباطِ الوثيق بين الدليل ومدلوله، وأن الدليل من خلاله يكشف عن مدلوله؛ فإن المطلوب الخبري ما هو إلا معنى للدليل، يتوصل إليه المجتهدُ بعد التأمل والنظر الصحيحين.
والمقصود أساسًا من الدليل المُستدَلِّ به هو معناه نفيًا أو إثباتًا، وإلا فلا فائدة منه حينها، وليس بالضرورة أن نُثبِت معنى من نفس الدليل بذات الدليل؛ لأن هذا يحصل من النص القطعي؛ بل قد نثبتها من طرف دليل خارجي على إثبات معنى النص الأول، وهو الغالب في الظني.
وفي عملية التعليم لا بد أن يتمَّ ربطُ الدليل بمدلوله الذي يُفهم منه؛ وذلك من أجل استخراج المعنى الصحيح، ويتم ذلك نتيجةَ التدبُّر المتأني فيه؛ من أجل فهمه واستخراج المعنى المقصود منه.
ذلك أن “من مواد الأصول الفقه، فإنه مدلول الأصول، ولا يتصور درك الدليل دون درك المدلول”[4].
فإدراك الدليل يُفضي إلى درك المدلول.
والطالب الجامعي لا يجب أن يقِفَ مع ظواهر النصوص؛ بل لا بد من الغوص في معانيها، واستنطاق مدلولاتها؛ حتى ينفُذَ إلى أعماقها، وهذا هو المظنون فيه باعتباره قد امتلك مجموعةً من المعارف قبل وُلُوجِه الجامعة.
قد لا نُعمِّم هذا الحكم على الجميع؛ لأن هناك من لم يدرُسْ أصول الفقه قبل المرحلة الجامعية، وهم أولئك الذين قدِموا من التعليم العام، فهؤلاء في الغالب الأعم حصيلتُهم في هذا الفن قليلة؛ إن لم نقُلْ: شبه منعدمة.
والأستاذ في درسه يجب أن يُركِّزَ مع الطالب على التدرب على استخراج المعاني من النصوص، وذلك بربط الدليل بمدلوله وضوحًا وخفاء؛ فالأصوليون حدَّدوا مجموعة من المفاهيم الدلالية التي تُعرف بواسطتها معاني الألفاظ؛ من ذلك مثلًا: المفهوم والمنطوق، والعام والخاص، والمطلق والمقيَّد، وواضح الدلالة وخفيها…، وكل ذلك إنما من أجل ضبط علاقة الدليل بمدلوله، بعد معرفة نوع الدليل وطبيعة مدلوله.
والناظر المُتبصِّر إنما ينظر بمراتب الدلالة – واضحها وخفيِّها – إلى النص؛ حتى يستطيعَ بذلك التصنيف للمعاني والألفاظ من جهة، ويضمن وضوح الرؤية وحصول التصور الصحيح من جهة ثانية؛ ليكون تنزيل النص في النهاية صحيحًا.
———————————————————–
[1] الإحكام في أصول الأحكام؛ للآمدي (تــ: 631هـ)، تحقيق: عبدالرزاق عفيفي، دار المكتب الإسلامي، بيروت – دمشق – لبنان، ج: 1، ص: 9.
[2] مذكرة في أصول الفقه؛ للشنقيطي (تـ: 1393هـ)، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط: الخامسة، 2001 م، ص: 62.
[3] المستصفى؛ للغزالي، ص:7.
[4] البرهان في أصول الفقه؛ للإمام الجويني، ج1، ص: 7.
(شبكة الألوكة)