صفقة القرن بين هيرتزل وكوشنر
بقلم جهاد صقر
فهم عقلية الطرف المقابل واستيعاب الزمن -ماضياً وحاضراً- مبدآن أساسيان من مبادئ نجاح عملية التفاوض ودراسة فرص الاستثمار وعقد الصفقات واستشراف مستقبلها، وبغير ذلك يكون الطرح الاستثماري غير واقعي.
وفي طرحه الراهن لمشروع صفقة القرن نيابة عن أطراف ومصالح مختلفة عربية ودولية، وعلى أساس إضفاء الشرعية على جريمة اغتصاب ارض فلسطين بشكل نهائي، لم يأت جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي ترامب بجديد هذه المرة، فقد سبقه إلى ذلك ثيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية رئيس الوكالة اليهودية في مثل هذا الشهر حزيران/ يونيو من العام 1896، أي قبل قرن وربع بالتمام والكمال.
المشترك بين صفقة الأمس وصفقة اليوم ليس فقط الشعار والمضمون “فلسطين -وطناً قومياً لليهود- مقابل المال”، بل في المفارقات العديدة التي لا تخطئها العين بين عرض الأمس بواسطة هيرتزل وعرض اليوم بواسطة كوشنر.
وأولها مثول خجول لهيرتزل في إسطنبول عاصمة الشرق آنذاك -بعد 33 محاولة من الوساطة والرجاء- بين يدي سلطان عثماني هو عبد الحميد الثاني الذي ضمت رعيته أكثر من ثمانين قومية موزعة على قارات ثلاث احتلت منها فلسطين منزلة القلب، يقابل ذلك مثول ذليل لمندوبي أكثر من عشرين دويلة عربية –استدعي جلهم بمكالمة هاتفية على عجل- وقوفاً بين يدي كوشنر في منامة البحرين وسط مياه الخليج الفارسي -لا العربي- وفق تعبير أمريكي لا تنقصه الرمزية.
وثانيها سياق تاريخي متمثل في اعتراف المندوبين العرب مسبقا -سراً أو جهراً وعلى مدى عقود- بأرض فلسطين وطنا قوميا لليهود، مقابل هامش ضئيل للفلسطينيين لا يتجاوز التمنيات بدويلة فلسطينية صغيرة مع عودة رمزية للمحظوظين من أقارب المسؤولين.
ولك أن تقارن ذلك برفض السلطان مجرد مناقشة صفقة هيرتزل من حيث المبدأ بالقول: “لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض، لأن هذه الأرض ليست ملكٌ لشخصي بل هي ملكٌ للدولة العثمانية. نحن ما أخذنا هذه الأراضي إلا بسكب الدماء والقوة ولن نسلمها لأحد إلا بسكب الدماء والقوة. والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين”.
وثالثها الثمن المعروض مقابل الصفقة وتعاطي مختلف الأطراف مع ذلك الثمن، ذلك أن المعروض على السلطان آنذاك رشوة شخصية بمليوني جنيه إسترلينية إضافة لسداد جميع ديون الدولة العثمانية مع دعم الخزينة بمبالغ إضافية، تم رفضها من حيث المبدأ. وفي المقابل لم يتجاوز حجم الرشاوى المعروضة -كقروض ومعونات- على من ورث أراضي الدولة العثمانية من دويلات سايكس-بيكو ما يغطي ديون دويلة واحدة، والكل بانتظار المساومة.
أما القوانين الصادرة في عهد السلطان قبل وبعد تقديم عرض هيرتزل فمنعت وأبطلت عقود شراء أراضي فلسطين لصالح اليهود أياً كانت جنسية المشتري، أما حال الخلف من الأنظمة العربية -ودون الدخول في التفاصيل- فتراوح ما بين تجارة بالقضية وحصار وتجريم المقاومة ونزع سلاح الفلسطيني للحيلولة بينه وبين الذود عن الأرض، ومن ثم تسليمها قطعة قطعة، ناهيك عن الإقرار -سراً وعلنا- بحق الغزاة فيها، وبالتالي تسريب ما خف حمله عن طريق وسطاء وعملاء، إلى تمويل البعض مشاريع تهويد في القدس والخليل وغيرها، والمراجع والأمثلة حول ذلك ما بين زمني هيرتزل وكوشنر كثيرة، وأقلها ما نقلته القناة الإسرائيلية العاشرة عن محمد بن سلمان ولي العهد السعودي -الممول الرئيس للصفقة- أمام رؤساء منظمات يهودية التقاها بنيويورك يوم 27 آذار/ مارس 2018 :قوله: “في العقود الأخيرة أضاع الفلسطينيون الفرصة تلو الأخرى ورفضوا مقترحات السلام التي قدمت لهم، وقد حان الوقت كي يأخذ الفلسطينيون تلك المقترحات ويوافقوا على المجيء إلى طاولة المفاوضات، وإلا فعليهم أن (يخرسوا) ويتوقفوا عن الشكوى”! أما وزير خارجية البحرين -أصغر دويلة عربية- فيهدد الفلسطينيين في تصريح متلفز:”على الفلسطينيين القبول بصفقة القرن وإلا فسنضطر للتدخل بالقوة لفرض صفقة القرن.”!
طرح يفترض أن تعاطي الجانب العربي مع صفقة كوشنر لن يتجاوز فرضها قبل الاقتتال على نصيب الكعكة الأكبر رغم ضآلة المعروض أساسا، فالمسألة ليست مسألة مبدأ.
و رابعها خطأ تاريخي تقع فيه صفقة القرن بنسختيها هيرتزل السابقة وكوشنر الراهنة وما جاء بينهما من مشاريع، ألا وهو مخاطبة من لا يملك ببيع ما لا يملك.… خطأ ينم إما عن مزيج جهالة ورغبة في القفز على حقائق الجغرافيا والتاريخ معا.
إن مشروع صفقة القرن بثوبه الجديد ما هو الا إقرار بإفلاس الرؤية التوراتية بمنحة فلسطين الربانية التي استند إليها عرابو المشروع الصهيوني، ووعد بلفور الصادر عام 1917 عن بريطانيا العظمى، والوعود التي قدمتها الدول العربية باستعداد كامل للاعتراف باسرائيل والتنازل عن حق العودة ضمن مبادرة السلام العربية عام 2002، وقانون يهودية الدولة الذي أقره مؤخرا الكنيست الإسرائيلي؛ مشاريع لم تنجح بإضفاء الشرعية المطلوبة على جريمة اغتصاب أرض فلسطين التاريخية، وإلا لما أعاد القوم طرح صفقة القرن مجدداً بعد 125 عاماً من طرحها لأول مرة.
ليس الهدف من صفقة كوشنر الاقتصادية التطبيع أو الاعتراف الرسمي العربي بالكيان الصهيوني، أو الانتقال الى التعاون السياسي والاقتصادي والاستراتيجي والاستخباري والسياحي والرياضي بين الجانب الرسمي العربي والصهيوني لأن كل ما تقدم قائم على المستوى الرسمي على الأقل.
الهدف المنشود لكوشنر ودولة الكيان تمدد كامل وسيادة على المنطقة من خليجها لمحيطها وليس فقط من فراتها لنيلها، بالاستفادة من التشظي والترهل الفلسطيني والعربي والإسلامي الراهن… تمدد يستمد المشروعية من إجماع شعبي -فلسطينيا اولا ثم عربيا وإسلامياً- كما يحلم كوشنر وداعموه!
أي جنون أوصلهم للتصديق بإمكانية توقيع الشعوب وثيقة تنازلها عن الحقوق التاريخية المتعلقة بفلسطين التراب والإنسان ومستقبل الأجيال؟ هل آمن القوم بواقعية تسويق الأمر على الشعوب العربية والإسلامية على قاعدة “أن تفضلوا… باع الفلسطينيون أرضهم فلم المكابرة إذاً”، أم أن السقف تصويت برلمانات قائمة قوامها التزوير أساسا للتوقيع نيابة عن الشعب؟
أما المفارقة الخامسة فتتعلق بالمآلات باعتبار أن أهل صفقة القرن -بنسختيها- لم يقدموا ما يثبت الوعي والاعتبار من سنن التاريخ كما يبدو. فمن هيرتزل الصحفي الذي آمن بحتمية مشروعه الصهيوني رغم جنون الفكرة، إلى المدلل كوشنر الذي لا يملك سوى سيف والد زوجته، بجانب المال وتجارة العقارات – بياع أراض بالعامية – والتي ورثها عن أسرته، أفاد كلاهما من صلات وثيقة بعالم نفوذ المال والسياسة، حيث أمكن شراء كل شيء تقريبا بحفنة دولارات، وهو ما منحهما -على ما يبدو- الجرأة لمحاولة تمرير صفقة أكبر من حجمهما وأعوانهما… صفقة بوزن تاريخ وجغرافيا ومستقبل فلسطين والأجيال المتعاقبة عليها.
أكثر من قرن من الزمان ولم يعِ القوم بعد منطق السلطان أن الأرض لا تباع ولا تشترى.
قرن كامل عجز فيه القوم عن شراء ذمة -وبالتالي- قطعة أرض فلسطيني أصيل رغم عشرات الملايين من الدولارات المعروضة في كل مرة. لم يدرك القوم سر الإخفاق والفشل في كل محاولة؛ فحيث لا يجدي الترغيب والترهيب يمكن التخلص من كل من يقول “لا” في كل مرة، والسلطان -رحمه الله- لم يكن الاستثناء الوحيد على أية حال. فطالما ظل ضمير الإنسان -كحال فلسطين- غير قابل للمساومة، فلن يدرك تلك الحقيقة من حُرم الاثنين -الضمير والأرض- أياً كانت الصفقة.
(المصدر: عربي21)