صفحات من قيام العلماء بواجبهم نحو جراحات المسلمين وانتصاراتهم
من كتاب (من محكمات الدين الانتصار للمؤمنين)
بقلم د. محمد يسري إبراهيم (خاص بالمنتدى)
صفحات من قيام العلماء بواجبهم نحو جراحات المسلمين وانتصاراتهم:
إن علماء المسلمين يتحمَّلون- ومن قديمٍ- عِبئًا كبيرًا في نصرة أمتهم، وقضايا كافة بحمد الله تعالى.
إن العلماء الربانيين هم الهداة الحداة لأمتهم، يحملون همَّها، ويفرحون لفرحها، ويتألمون لألمها، يستنهضون همة أمتهم بمواقفهم تارةً، وبفتاويهم أخرى، وبحضورهم في جهادها ثالثة!
لقد جاهدوا أعداءها بأنفسهم، كما جاهدوهم بألسنتهم وأقلامهم، ولقد قادوا نضالها ببطولات نادرة، واستشهد منهم في ساحات الوَغى خَلق كثير!
فإذا وقع من المسلمين خَلقٌ في الأَسر، خاطبوا الأعداء في فكاك أسرى المسلمين، بل وأَسرى أهل الذمة أيضًا!
ولمَّا خاطب ابن تيمية التتار في افتكاك أَسرى المسلمين، قَبلوا أن يطلقوا أَسرى المسلمين دون من أخذوا من نصارى القدس، وقالوا: هؤلاء لا يطلقون، فقال لهم ابن تيمية: بل جميع من معكم من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فإنا نفتكهم، ولا ندع أسيرًا، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة([1]).
ولمَّا تضعضع المسلمون في الأندلس أمام الصليبيين، أفتى الإمام ابن رشد الجد (520هـ) أن الجهاد لأهل الأندلس في زمنه أفضل من حج الفريضة الذي لا يتوافر فيه آنذاك شروطه بحسَب رأيه؛ لأن الوصول إلى مكة بأمانٍ غير حاصلٍ في ذلك الزمان([2]).
وفي عصرنا الحالي: أفتى عددٌ من علماء المسلمين بمقاطعة السِّلع والبضائع التي تنتجها بلادٌ محاربةٌ للمسلمين في نبيهم ﷺ، وكان لها أثرٌ عظيم في نصرة النبي ﷺ.
وأفتى طائفة أخرى بمشروعية العمليات الجهادية الاستشهادية ضد العدو الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، ومسرى النبي ﷺ.
وأفتوا بحرمة التنازل عن شيءٍ من أرض فلسطين، وأن مَن فعل ذلك، فقد خان أمانته، ولا يلزم الأمةَ هذا العقدُ الباطل في قليلٍ، ولا كثيرٍ.
وهكذا، فإن العلماء تُناط بهم مسئولية بيان الحق، وإظهار الحكم الشرعي بما ينصر الأمة، ويُقوِّي سَعْيها في وجه التحديات الواقعية.
كما أن عليهم أن يدافعوا الشبهات التي قد يُروِّجها بعض المُغرضين عن المسلمين المستضعفين المحتاجين للنصر والنصرة، حيث يُشاع في حق المستضعفين أنهم عصاة، أو مبتدعة، أو لهم أجندات واتفاقات خاصة.
وحيال تلك الشبهات فإن العلماء يقرون ما يلي:
أولًا: إن الرحمة والتراحم صفة عظيمة للنبي ﷺ، ولأمته، ولأتباع دينه، وهي من خصائص شريعته التي بُعث بها ﷺ.
وقد قال تعالى:
[الأنبياء: 107].وقال ﷺ عن نفسه: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»([3]).
وقال أيضًا ﷺ: «لَا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ»([4]).
والرحمة تشمل الخَلق كافة، وقد قال شُرَّاح الحديث: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم، المملوك وغير المملوك…([5]).
ولا يوجد ما يمنع من الإحسان إلى الكافر بشرط ألَّا يكون ممن يقاتل المسلمين؛ لعموم قوله تعالى:
فإذا جاز هذا الإحسان والبر للكافر غير المحارب، فكيف بالمسلم الذي له حقوق واجبة على غيره من المسلمين!
ثانيًا: كل مَن ثبت إسلامه بيقينٍ، فله أصل الولاء الموجب للمحبة والنصرة، وبقدر ما هو عليه من السنة والاتباع.
ومَن اجتمع فيه خيرٌ وشرٌّ، واتباع وابتداع، وُولي بقَدر ما فيه من السنة والخير، وعُودي بقَدر ما فيه من البدعة والشرِّ.
فيُوالَى لإسلامه وما هو عليه من الدين والصلاح، ويُنكَر عليه ما هو مُتلبِّس به من الشر والابتداع.
ومع هذا، ففي زمن الالتباس للشرائع، والاندراس للشعائر، وغلبة الجهل، وانتشار البدع، يغلَّب التعليم، والدعوة، والرِّفق، والحِلْم، والصبر، والصفح، وتنتظر فَيْئة الخلق إلى الحق، ولا يصلح مُلاحقة الناس على جهلهم بالأحكام، ولا التسلُّط على رقابهم بالفتاوى العَجلى، ولا تغليب الهجر والزجر الذي يُفضي إلى غير مقصودهما من ردع المبتدع المستهتر، والزجر عن مشابهته في حاله.
ثالثًا: عند تدافع المصالح وتعارضها، يطلب تحصيل أعلاها بتفويت أدناها.
وعند تدافع المفاسد وتزاحمها، يطلب درء أعلاها بارتكاب أدناها.
ولهذا، يجب في حالات نصرة المستضعفين من جهال المسلمين أن يعرف خير الخيرين ليُقدَّم، ويعرف شر الشرين ليدرأ.
ولا مقارنة بين كافرٍ أصليٍّ يجثم على صدور العباد، ويستنزف خيرات البلاد، وبين مسلمٍ ولو كان مبتدعًا.
ولا مقارنة بين مَن يستبيح بيضة أهل الإسلام، وينتهك حرمات المسلمين من الكفار أعداء الدين، وبين أحدٍ من أهل قِبلة المسلمين!
ولهذا، ما عطلت مصالح الجهاد لأجل ظلم أو فسق أو بدعة حاكم.
قال ابن تيمية ♫: «والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، والنبي ﷺ دعا الخَلق بغاية الإمكان، ونقل كل شخصٍ إلى خير ممَّا كان عليه بحسَب الإمكان…»([6]).
وقد جاهد أئمة الحنابلة في زمانهم مع صلاح الدين مع ما كان بينهم وبين الأشاعرة من مواقف شديدة، وذلك: كالإمام الموفق ابن قدامة المقدسي، وأخيه الإمام محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي.
رابعًا: التعاون مع الكافر الأصليِّ على نصرة المظلوم، وتحقيق العدل، وإغاثة المنكوب والملهوف، ونحو ذلك من أعمال البر- جائز، ما لم تكن مفسدة أعظم.
وقد شهد النبي ﷺ حِلف المطيبين، وقال: «لَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ».
وقال ابن القيم ♫ عن فوائد صلح الحديبية: «ومنها: أن المشركين وأهل البدع والفجور، والبغاة والظَّلمة إذا طلبوا أمرًا يعظمون فيه حرمةً من حرمات الله، أجيبوا إليه، وأُعطوه، وأُعينوا عليه»([7]).
وعليه فإن «نصرة المظلوم، وردع الظالم من أيِّ جنسٍ كان- واجب شرعًا، وعقلًا، وفطرةً»([8]).
والأمر بإغاثة الملهوف، وتفريج كَرب المكروب، وإعانة المنكوب، والإحسان إلى المحتاج ولو كان كافرًا أو حيوانًا، كلُّ ذلك متواتر في نصوص الشريعة.
وإذا كان في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ، فإن كبد المسلم العاصي أو المبتدع في إغاثتها والإبقاء على مهجتها أجر كثير، وخير كبير.
وعلى العلماء أن يُعلموا العامة والخاصة أن عليهم بذل ما تيسَّر لنصرة المستضعفين، ولو كان الميسور من ذلك قليلًا، فإن الميسور من الخير والمعروف لا يسقط بالمعسور.
وقد قال نبيُّنا ﷺ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»([9]).
ودعاء المسلم لإخوانه برفع الضراء، والبأساء، ونزول النصر من السماء- مستجاب، وفي الحديث: «لَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ»([10]).
وبصدق النية والعزم يبلغ العبد ما لا يبلغه بسعيه وعمله.
وفي الحديث: «إِنَّ بِالمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، أو قال: «إِلَّا شَرَكُوكُمْ فِي الأَجْرِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ»([11]).
وهذا مما يتأسَّى به المسلم ويتعزَّى، فإن نصرة أهل الإسلام كما هي باليد واللسان، فهي بالقلب والجنان.
اللهم نصرًا عزيزًا، وفرجًا عاجلًا، وعافية لكل أسير مسلم، وشفاءً تامًّا لكل مريض مسلم، ورحمة ومغفرة ورضوانًا لكل ميت مسلم، إنك أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
_______________________________________________________________
([1]) الرسالة القبرصية (ص 26).
([2]) جهود علماء الأندلس في الصراع مع النصارى، لمحمد أبا الخيل (ص150 – 159).
([3]) أخرجه الدارمي (15) ، والبيهقي في الشعب (1339).
([4]) أخرجه البخاري (7376)، ومسلم (2319).
([5]) فتح الباري (13/557)، والكلام لابن بطَّال.
([6]) الفرقان بين الحق والباطل، لابن تيمية (ص45).