صفة حج النبي ﷺ كأننا نراه
بقلم د. عليّ محمد الصّلابي (خاص بالمنتدى)
شاءت حكمة الله تعالى أن يكون في الدين بعض العبادات أفضل من بعض، فأنزل الله تعالى إلينا بعضاً من العبادات وجعلها أعظم شعائر الدين، بها قوامه وعليها مداره، وهذه العبادات ما تسمى بـــ (أركان الإسلام)، وهي خمسةٌ تنوعت صور أدائها فمنها ما يؤدى كل يوم خمس مرات وهي الصلاة، ومنها ما يؤدى كل سنة، مثل صيام رمضان وبعض أنواع الزكاة، ومنها ما يؤدى مرة واحدة في العمر وهو شعيرة الحج. وهو فريضة من أقدس فرائض الإسلام وشعيرة عظيمة من شعائره الكبرى، وعبادة متميزة من عباداته الأربع، وركن أساس من أركانه الخمسة، وقد دل على فرضيته القرآن الكريم، والسنة المستفيضة المتواترة عن رسول الله التي نقلتها الأمة جيلاً عن جيل إلى يومنا هذا، كما دل عليه الإجماع المتيقن من جميع مذاهب الأمة. [الحج والعمرة، د. يوسف القرضاوي، ص 12].
وهو عبادة متميزة لأنها عبادة بدنية ومالية، فالصلاة والصيام عبادتان بدنيتان والزكاة عبادة مالية، والحج عبادة تجمع بين البدنية والمالية، لأن الإنسان يبذل فيها جهداً ببدنه، ويبذل فيها ماله. [الحج والعمرة، د. يوسف القرضاوي، ص 12].
وفي كل مظهر من مظاهر الحج وفي كل مجال من مجالاته، تتجلى فيه العبودية لله ويظهر أثرها بارزاً ملحوظاً، ففي أداء الشعائر والتلبس بالطاعات من تجرد عن الثياب وحسر عن الرؤوس وفي الطواف بالبيت واستلام أركانه وفي موقف عرفات ومزدلفة ومنى في ذل وخضوع وتضرع وخشوع، وفي رمي الجمار والذبح أو النحر وما إليه في جميع ذلك مظهر العبودية لرب العباد وبارئهم، وإفراد له بالعبادة وحده دون سواه، تلك العبودية هي سر علة الوجود وهدفه الأسمى. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 – 58]» [الإيضاح في مناسك الحج والعمرة، ص30].
أولاً: مواقيت الحج والعمرة:
المواقيت جمع ميقات، والمراد بالميقات في الحج والعمرة: الوقت والمكان اللذان يحرم الحاج منهما وينشئ النية فيهما. [القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص 208].
المواقيت نوعان: زمانية ومكانية.
النوع الأول: الزمانية، للحج خاصة، أما العمرة فليس لها زمن معين لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) (البقرة: الآية197) وهي ثلاثةٌ شوال وذو القعدة وذو الحجة. [مناسك الحج والعمرة، محمد بن صالح العثيمين، ص20].
النوع الثاني: المكانية: وهي خمسة بتوقيت النبي – صلى الله عليه وسلم – على النحو الآتي:
1 – ذو الحليفة: والمسافة بينها وبين المسجد النبوي 13 كيلو، ومنها إلى مكة 420 كيلو، وهي ميقات أهل المدينة ومن أتى على طريقهم.
2 – الجحفة: وهي ميقات أهل الشام، وهي الآن خراب وسميت الجحفة؛ لأن السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام، وقد كانت قرية كبيرة اسمها مهيعة. والناس يحرمون اليوم من رابغ؛ لأنها قبل الجحفة بيسير، تقع عنها غرباً ببعد 22 ميلاً، ويحاذي الجحفة من خط الهجرة الخط السريع من المدينة باتجاه مكة وبين هذه المحاذاة ومكة 208 كيلو. وتبعد رابغ عن مكة 186 كيلو.
3 – قرن المنازل: ويسمَّى الآن: السيل الكبير، ومسافته من بطن الوادي إلى مكة المكرمة 78 كيلو، ويحرم منه أهل نجد، وحجاج الشرق كله: من أهل الخليج، والعراق، وإيران، ومن مرَّ عليه من غيرهم.
4 – يلملم: وفيه بئر تسمى السعدية، ويلملم وادٍ عظيم، ينحدر من جبال السروات إلى تهامة، ثم يصب في البحر الأحمر، ويبعد مكان الإحرام منه عن مكة المكرمة 120 كيلو
5 – ذات عرق: يقع عن مكة شرقاً بمسافة قدرها 100 كيلو، وهذا الميقات مهجور الآن؛ لعدم وجود الطرق عليها. [مناسك الحج والعمرة في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة، ص168]
ثانياً: أركان الحج:
أركان الحج هي ما لا يصح الحج إلا بها، ولا تجبر بدم، كما في بعض الواجبات، فلا يصح حج المسلم إلا بالإتيان بها جميعها.
وهي خمسة أركان:
أولاً: الإحرام، لقول رسول الله ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات”.
ثانياً: الوقوف بعرفة، لقول رسول الله ﷺ: “الحج عرفة”.
ثالثاً: الطواف بالبيت، والمراد به: طواف الإفاضة، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
رابعاً: السعي بين الصفا والمروة، كما جاء في الحديث عن رسول الله ﷺ: “اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم”.
خامساً: حلق الشعر أو التقصير. [منهاج الطالبين، النووي، ص90. ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، الرملي، (3/ 321)].
وزاد كثير من العلماء ركناً سادساً، وهو: ترتيب الأركان على الصفة التي جاءت عن النبي ﷺ، لقوله: “خذوا عني مناسككم”. [مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، الشربيني، 2/285].
ثالثاً: صفة حج رسول الله ﷺ:
أراد رسول الله ﷺ الحج العام العاشر للهجرة، وأخبر الناس بذلك فتجهزوا وكان ذلك في شهر ذي القعدة، وسمع بذلك أهل المدينة ومن حولها فقدموا يريدون الحج مع رسول الله ﷺ فاجتمع خلائق كثيرة جداً
وخطبهم قبل ذلك خطبةً علَّمهم فيها الإحرامَ، وواجباتِه، وسننه، ثمَّ سار وهو يلبِّي، ويقول: «لبيك اللَّهُمَّ لبيك، لبَّيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد، والنِّعمة لك، والملك، لا شريك لك» والنَّاس معه يزيدون، وينقصون، وهو يقرُّهم، ولا ينكر عليهم، ولزم تلبيته، ثمَّ مضى حتَّى نزل بـ (العرج) ثمَّ سار حتَّى أتى (الأبواء) فوادي (عسفان) في (سَرِف) ثمَّ نهض إلى أن نزل بـ (ذي طوى)، فبات بها ليلة الأحد، لأربع خلون من ذي الحجَّة، وصلَّى بها الصُّبح، ثمَّ اغتسل من يومه، ونهض إلى مكَّة فدخلها نهاراً من أعلاها، ثمَّ سار، حتَّى دخل المسجد، وذلك ضحىً [السِّيرة النَّبويَّة ، للنَّدوي ، ص 387]، فاستلم الرُّكن(ﷺ) ، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثمَّ نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السَّلام. فقرأ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125].
فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الرَّكعتين: ثمَّ رجع إلى الرُّكن ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ * ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، ثمَّ خرج من الباب إلى الصَّفا، فلـمَّا دنا من الصَّفا؛ قرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].
وبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتَّى إذا رأى البيت؛ استقبل القبلة، فوحَّد الله، وكبَّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، ثمَّ دعا بين ذلك، قال مثل هذه ثلاث مرَّاتٍ، ثمَّ نزل إلى المروة، حتَّى إذا انصبَّتْ قدماه في بطن الوادي؛ سعى، حتَّى إذا صَعِدَتَا؛ مشى، أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصَّفا، حتَّى إذا كان اخر طوافه على المروة؛ قال: «لو أنِّي استقبلتُ من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عُمْرَةً، فمن كان منكم ليس معه هَدْيٌ؛ فليحلَّ، وليجعلها عُمْرةً».
وأقام بمكَّة أربعة أيام: يوم الأحد، والإثنين، والثَّلاثاء، والأربعاء، فلـمَّا كان يوم الخميس ضُحىً؛ توجَّه بمن معه من المسلمين إلى منىً، ونزل بها، وصلَّى بها الظُّهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ومكث قليلاً حتَّى طلعت الشَّمس، وأمر بِقُبَّةٍ من شَعَرٍ تُضْرَبُ له بِنَمِرَةَ، فسار رسول الله(ﷺ) ولا تَشُكُّ قريشٌ إلا أنَّه واقفٌ عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهليَّة، فأجاز رسول الله(ﷺ) حتَّى أتى عرفةَ، فوجد القُبَّةَ قد ضُرِبت له بنَمِرَة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشَّمسُ؛ أمَرَ بالقصواء، فرُحِلَتْ له، فأتى بطن الوادي، فخطب النَّاس.
ثمَّ أذَّن، ثم أقام، فصلَّى الظُّهر، ثمَّ أقام، فصلَّى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيئاً، ثمَّ ركب رسولُ الله (ﷺ) ، حتَّى أتى الموقف، فجعل بطنَ ناقتهِ القصواءِ إلى الصَّخَرَاتِ وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتَّى غربت الشمس، وذهبت الصُّفْرَةُ قليلاً حتى غاب القُرْصُ.
فلـمَّا غربت الشَّمس؛ أفاض من عرفة، وكان يلبِّي في مسيره ذلك، لا يقطع التَّلبية حتَّى أتى المزدلفة، وأمر المؤذِّن بالأذان فأذَّن، ثمَّ أقام، فصلَّى المغرب، ثمَّ صلَّى العشاء، ثمَّ نام، حتَّى أصبح، فلـمَّا طلع الفجر صلاَّها في أول الوقت، ثمَّ ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدُّعاء والتَّضرُّع، والتَّكبير، والتَّهليل، والذكر، حتى أَسْفَرَ جِدّاً، وذلك قبل طلوع الشَّمس.
ثمَّ سار من مزدلفة، فأتى جمرة العقبة، فرماها راكباً بعد طلوع الشَّمس، وقطع التلبية. [صحيح السِّيرة النَّبوية، للنَّدوي، ص 389].
ثمَّ رجع إلى مِنىً، فخطب الناس خطبةً بليغةً، .ثمَّ انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثاً وستين بدنةً بيده، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنين عمره، ثمَّ أمسك وأمر عليّاً أن ينحر ما بقي من المئة، فلـمَّا أكمل(ﷺ) نحره استدعى الحلاق، فحلق رأسه، وقسم شعره بين مَنْ يليه، ثمَّ أفاض إلى مكَّة راكباً، وطاف طواف الإفاضة، ثمَّ رجع إلى منىً من يومه ذلك، فبات بها، فلـمَّا أصبح؛ انتظر زوال الشَّمس، فلـمَّا زالت مشى من رحله إلى الجمار، فبدأ بالجمرة الأولى، ثمَّ الوسطى، ثمَّ الجمرة الثَّالثة – وهي جمرة العقبة – وخطب الناس بمنى خطبتين: خطبة يوم النَّحر، وخطبة ثانية في ثاني يوم النَّحر، وهو يوم النفر الأول، وهي تأكيد لبعض ما جاء في خطبتي عرفة، ويوم النَّحر بمنى. [السِّيرة النَّبويَّة ، ص 390].
هذه حجة النبي ﷺ بتفاصيلها تجلي لنا الصورة كأننا نراه ﷺ، وأكمل الخير أن يتابع الحاجُّ النبي صلى الله عليه وسلم في كل أفعاله وأقواله وأحواله، حتى ينال الفضل العظيم والخير الكثير، إلا إذا منع ذلك بعض الموانع التي تحصل في عصرنا هذا نتيجة أسباب قاهرة مثل الزحام الشديد وغيره.. مما يمنع المسلم من الإتيان بكل ما ورد عن رسول الله ﷺ في حجه، ولكن لا شك أن للحاج الذي نوى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل أفعاله ثم لم يستطع لبعض الظروف أجر نيته في الخير كاملة إن شاء الله تعالى، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر. [صحيح البخاري، 06/08]؛ فكان لهم الأجر بسبب نيتهم مع أنهم لم يخرجوا مع النبي ﷺ في سفره وغزوه.
ملاحظة هامة: استفاد المقال أغلب مادته من كتاب السيرة النبوية، للدكتور علي محمد الصّلابي، والسيرة النبوية للشيخ أبي الحسن الندوي -رحمه الله-.
_______________________________________________
المراجع:
- الإيضاح في مناسك الحج والعمرة، يحيى بن شرف الدين النووي، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الثانية، 1994م.
- الحج والعمرة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة-القاهرة، الطبعة الأولى، 2004م.
- السِّيرة النَّبويَّة لأبي الحسن النَّدويِّ، دار التَّوزيع والنَّشر الإسلاميَّة – القاهرة.
- صحيح السِّيرة النَّبويَّة للطَّرهوي، لمحمَّد رزق، مكتبة ابن تيميَّة – القاهرة، الطَّبعة الأولى 1414هـ.
- القاموس المحيط، مجد الدين الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثامنة، 2005م.
- مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1994م.
- مناسك الحج والعمرة في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة، سعيد بن وهب القحطاني، مركز الدعوة والإرشاد، الطبعة الثانية، 2010م.
- مناسك الحج والعمرة، محمد بن صالح العثيمين، مكتبة الأمة، الطبعة الأولى، 1414ه.
- منهاج الطالبين، يحيى بن شرف الدين النووي، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2005م.
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، شمس الدين محمد الرملي، دار الفكر – بيروت، طبعة 1984م.