صراع بين مشروعين في تونس
بقلم أ. سمير حمدي (خاص بمنتدى العلماء)
لم يكن صدور التقرير عن لجنة الحريات والحقوق الفردية في تونس الذي دعا الى إلغاء كل القوانين المستقاة من الشريعة الإسلامية في مجال الأسرة والأحوال الشخصية سوى حلقة جديدة في محاولات هدم البنية المجتمعية وضرب أسس الهوية الإسلامية لتونس والتي استقرت ثوابتها منذ ألف وأربعمائة سنة واتخذت ميسما مجتمعيا رسخته المدرسة الفقهية المالكية التي وجدت لها أرضية خصبة في تونس وفي ظل جامع الزيتونة المعمور.
فقد بدأت الخطوات الأولى لضرب الهوية الإسلامية مع إعلان استقلال تونس وتولي الحبيب بورقيبة الحكم بإعلانه إباحة التبني خلافا للحكم الشرعي ومنع تعدد الزوجات مرورا بقرارات أخرى منعت التعليم الإسلامي وجعلت المجال الديني يشغل أضيق حيّز ممكن في الساحة التشريعية والاجتماعية. ويحاول التيار العلماني في تونس اليوم مواصلة هذا التمشي من خلال الإستقواء بسلطة الدولة لفرض توجهات جديدة تخالف ما تعارف عليه الناس وإباحة أشكال من الممارسات يستقبحها العقل فضلا عن تحريم الشرع لها مثل مسائل المثلية والسماح بالبغاء والدعوة الى إلغاء أحكام المواريث الشرعية وصولا الى نبذ أحكام العدة والمهر تحت دعاوى المساواة بين الجنسين وإقرار منظومة حقوق كونية هي في الواقع استعادة لنمط التشريع الغربي في اشد مظاهره عداوة للدين وإغراقا في العلمنة والإلحاد.
ومن المبررات التي يستند إليها هؤلاء في رفضهم لأحكام الدين المتصلة بالنظام الاجتماعي ترويجهم لفكرة أن في استمرار النظام التشريعي الإسلامي إخلالا بحرية الفرد وهو تصور ناشئ عن الخلط بين تصورهم لمعنى الحرية الفردية وبين الحقوق المجتمعية. وهذا المبرر يهمل عن قصد أن الأحكام الشرعية ليس فيها تقييد لحرية الأفراد إلا في المجال الذي تصبح فيه تلك الحقوق تمس النظام الاجتماعي ذاته وتدمر بنيته. وقد يبدو أمر ما في ظاهره وكأنه من قبيل الحريات الفردية التي لا ينبغي مسها أو الاعتداء عليها مما يجعل من حرية تعاطيه حقا مثل الحرية الجنسية وتعاطي البغاء آو حرية العلاقات المثلية وصولا الى التساهل مع تعاطي المخدارت ولكن حقيقة الأمر هو أن مثل هذه الممارسات تلحق ضررا فادحا بالمجتمع، ولو تتبعنا التشريعات الإسلامية في مجالات الأسرة وقضايا الحياة الاجتماعية خاصة تلك التي تقوم على ضوابط صارمة وعقوبات زجرية لتبيّنا أن تحديدها لحرية الفرد هي في صالح المجتمع.
فالأمر هنا لا يتعلق بقضايا حرية التعبير والتفكير والتنظّم وهي حقوق يحفظها الإسلام بقدر ما يقوم التشريع الإسلامي على منع ما يلحق الأذى بالمجتمع وإلا ما علاقة الحرية الفردية بإباحة الزنا أو تشريع الخمور وأشكال من المخدرات التي يتم غض البصر عنها.
إن التوجهات العلمانية للجنة التي تولت صياغة تقرير الحريات الفردية جعلتها في موقع مناوئ للرأي العام ولطبيعة المجتمع الذي وإن لم يخلو من انحرافات إلا أن علاجها لا يكون عبر تشريعها وتحويلها الى حقوق فردية بقدر ما يكون عبر التعامل معها بوصفها حالات ينبغي علاجها عبر إشاعة الوعي وتنوير العقول والأذهان.
ومن هنا يمكن أن نلاحظ حدة رد الفعل الذي قوبل به التقرير من الجهات الإسلامية خاصة أساتذة جامعة الزيتونة وجمعيات الخطابة والعلوم والشرعية. فقد تضمن البيان الصادر عن أساتذة جامعة الزيتونة ومشايخها تأكيدا على أن المقترحات الواردة بالتقرير تتناقض تناقضا تاما مع صريح القرآن المجيد والسنة النبوية الشريفة وأن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، يخالف أحكام الأسرة القطعية في الإسلام، مثل أحكام الميراث والنفقة والمهر والعدة والنسب. وأشاروا في ذات البيان، إلى أن التقرير قد تعمد إلغاء المصطلحات المعبرة عن هوية المسلمين وانتمائهم الديني، علاوة على “تصادمه مع هوية الشعب التونسي العربية الإسلامية، والتعدي على مقدساته الدينية وقيمه الروحية والأخلاقية وأعرافه الاجتماعية السوية”.
وأوضح أساتذة الزيتونة، أن “تقرير لجنة الحريات يؤدي إلى مخالفة الفطرة الإنسانية السليمة وهدم الأسرة والإضرار بالمرأة والأبناء بالخصوص وتهديد سلم المجتمع وانسجامه وزعزعة الأمن القومي والسيادة الوطنية، وذلك عبر تكريس الفردانية ونشر الإباحية والفاحشة وتغذية الإرهاب”.
وتكشف ردود الفعل التي أبداها أساتذة الشريعة وما توافق معها من ردود أفعال شعبية واسعة عن مدى الهوة الفاصلة بين الأقلية المتغربة التي تحاول فرض أجنداتها عبر الإستقواء بالسلطة السياسة وبين الرأي العام والشارع التونسي الذي يرفض في مجمله محاولات التلاعب بالبنية المجتمعية وأسس الهوية الإسلامية للبلاد وهو أمر يشي بخلق مزيد من الاحتقان الاجتماعي ما قد يشكل خطورة على السلم الأهلي وهو أمر لا تهتم له الجهات العلمانية التونسية بتوجهاتها السياسية المختلفة سواء اليسارية منها أو الليبرالية فهي اقرب الى جالية أجنبية تعيش وفق النمط الغربي ولا تبدي احتراما للضمير الجمعي وللهوية الوطنية القائمة في أساسها على خلفية إسلامية ترسخت عبر قرون من الحضور الإسلامي الثابت في هذا البلد.