مقالاتمقالات مختارة

صدى التطبيع في أوساط المسلمين في الغرب

صدى التطبيع في أوساط المسلمين في الغرب

بقلم الشيخ كمال عمارة (رئيس المجلس الأوروبي للأئمة)

لعلّ السمة الأساسية في مسار التطبيع الذي تسلكه بعض الأنظمة العربية اليوم هو غلبة طابع النخاسة على تفاصيله وتحكمها في بواعثه ومساراته.

النخاسة في اللغة

في لسان العرب: “نَخَسَ الدَّابَّةَ وغيرها يَنْخُسُها ويَنْخَسُها ويَنْخِسُها نَخْساً غَرَزَ جنبها أَو مؤخّرها بعود أَو نحوه حتى تَنْشَط”، ولا يخفى حضور هذا المعنى اليوم في مشهد التطبيع، فكأني بهذه الأنظمة قد نُخِست في خاصرتها لتنشط للتطبيع علناً بعد أن استمرأته سرًّا، ضَعُف الناخس والمنخوس.

وفي لسان العرب أيضا: « والنَّخَّاسُ بائع الدواب… وحِرْفته النِّخاسة والنَّخاسة وقد يسمى بائعُ الرقيق نَخَّاساً»، لذلك ارتبط مصطلح النخاسة في المخيال العربي بالصفقات المشبوهة التي تفتقر إلى النزاهة والأخلاق ولا تراعي القيم والمبادئ الإنسانية.

القضية الفلسطينية

بعيدا عن اللغة واشتقاقاتها، فإن القضية الفلسطينية تحتل مكانة مركزية في وعي ووجدان المسلمين في الغرب وذلك لاعتبارات عديدة من أهمها:

أولاً: أن الفلسطينيين يمثلون مكوناً أساسياً من الوجود المسلم في الغرب، بحكم المظلمة التاريخية التي تعرضوا لها، والهجرة القصرية التي أُلْجِئُوا إليها، فهم يتوارثون عبر الأجيال آلام الماضي وآمال المستقبل.

ثاني: التزام المسلمين في الغرب أفراداً ومؤسساتٍ بدعم الشعوب المستضعفة وقيم العدل والحرية والدفاع عن القضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

ثالثاً: الأبعاد الدينية والقيمية التي تحملها القضية الفلسطينية باعتبار مكانة القدس الإسلامية والأحداث التاريخية المرتبطة بها.

من هذا المنطلق يشعر أكثر المسلمين في الغرب بمزيج من القلق والأسى لما آلت إليه المواقف الرسمية العربية من خذلان للقضية الفلسطينية وتضييع لمصالح الأمة على وقع خيبات وأزمات تعصف بالوطن العربي والأمة الإسلامية عموماً.

 ويعتبر الموقف الرافض للهرولة نحو التطبيع قاسماً مشتركاً بين أغلب مكونات الوجود المسلم في الغرب، ويتأسس هذا الموقف على قناعات وقراءة لهذه الظاهرة، متحررةٍ من طغيان السلطة والإرهاب الفكري كما هو الحال في أغلب العالم العربي والإسلامي، ومنها:

فقدان الشرعية

يؤكد أكثر أهل العلم والفكر أن موجة التطبيع الأخيرة في سياقاتها وتفاصيلها وانعزالها عن مسار ورغبة الفلسطينيين أنفسهم، طعنةٌ في ظهر الفلسطينيين وخيانةٌ للأمانة ومخالفةٌ للمبادئ الإنسانية والشرعية والأخلاقية، وقد عبر عن ذلك بوضوح الدكتور أحمد الريسوني -رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو شخصية علمية مغربية وازنة- عندما قال: “موقف الشريعة، من هذا التطبيع، بهذه المعاني، لا يمكن أن يكون إلا التحريم الشديد والرفض التام. بل حتى الموقف الإنساني والأخلاقي، لا يمكن أن يكون إلا على هذا النحو… تحريم التطبيع في الحقيقة ليس سوى تحريم للظلم والاغتصاب والاحتلال وشتى أنواع الجرائم التي قام ويقوم بها الصهاينة ودولتهم منذ ثمانين سنة، وهذا هو الشرع الذي لا مرية فيه، وهذا أيضا موقف سياسي، نزيه وعادل”.

 بل لا تكاد تجد عالماً واحداً متحرراً من سلطة الحكم أو المصلحة يبرر هذا المسلك ويرضاه، ومثلما أشار إلى ذلك الدكتور الريسوني، فإن رفض الظلم والاحتلال والتطبيع مع العدوان موقف متأصل في وجدان الضمير الإنساني الحر، ولئن تنكبت عنه بعض الأنظمة العربية فإن كثيرا من الأصوات الحرة، أفراداً وشعوباً وحكومات، ما زالت متمسكة به، تتداعى إلى نصرة المظلوم والوقوف في وجه دولة الاحتلال وجرائمها المتكررة في فلسطين، تصدح هذه الأصوات من  ماليزيا وباكستان إلى جنوب إفريقيا وجنوب القارة الأمريكية، وقد دعا “ديزموند توتو”- Desmond Tutu  -رئيس أساقفة في جنوب إفريقيا وحائز على جائزة نوبل للسلام- قبل أيام إلى وقف التستر على دولة الكيان ودعم سياستها القمعية تجاه الفلسطينية، ورفعَ شعارَ:  “أوقفوا المهزلة”.

منطق المقايضة

شملت كل صفقات التطبيع مقايضة صريحة للحقوق التاريخية في فلسطين بمكاسب محلية أو إقليمية، كالاعتراف بالسيادة على أجزاء من الأرض أو الرفع من قوائم الإرهاب وتحرير الأصول المالية أو تثبيت أركان الحكم والحصول على الحماية الإقليمية، وهذا انحدار مفضوح وغير مسبوق لتعامل الأنظمة العربية مع القضية الفلسطينية، حيث تحولت هذه القضية من رمز للنضال من أجل العدالة والتحرر ووحدة المصير العربي والإسلامي إلى بضاعة مُزجاة في سوق نخاسة أمريكي.

والأنكى من ذلك أن أغلب المكاسب التي تحصلت عليها الأنظمة المطبعة حقوق طبيعية وقضايا عادلة، أزرى بها أصحابها عندما أوردوها مورد التوسل والمقايضة.

تطبيع أنظمة

إن الغائب أو المغيب الأكبر في هذا الخضم (التطبيعي) هو الشعوب المغلوبة على أمرها، فمعظم مبادرات التطبيع الأخيرة صادرة عن أنظمة غير ديمقراطية، لا تعير اهتماماً لإرادة شعوبها وخياراتها، هذه الشعوب التي رضعت حب المقاومة والثبات على الحقوق، تجذرت في ثقافتها ووعيها الجَمْعِيِّ نصرة القضية الفلسطينية، حتى أن شعار الحملة الانتخابية للرئيس التونسي المتمثل في قوله: “التطبيع خيانة” كان سبباً حاسماً في فوزه بمقعد الرئاسة.

بل إن هذه الأنظمة نفسها، لا تملك إرادتها وخيارها فهي مَقُودة رَهَباً أو رَغَباً من إدارة أمريكية جامحة ورغبة صهيونية في اختراق الواقع العربي عبر استغلال الضعف الراهن وامتداد الأزمات على خريطته المثخنة بالجروح والصراعات.

إن المسلمين في الغرب يجددون التزامهم برفض الظلم والاحتلال ومنطق الأمر الواقع والتطبيع مع الكيان الصهيوني من منطلق الاستسلام والمقايضات غير الأخلاقية، كما سيبقى الوجود الإسلامي في الغرب رصيداً استراتيجياًّ لكل قضايا التحرر والعدالة في العالم وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

ليس ذلك من باب الخطاب العدمي أو رفض منطق الصلح والسلام، ولكن من باب الإيفاء بالحد الأدنى من الالتزام بنصرة المظلوم ودعم أهلنا في فلسطين، ومقاومة منطق الاستسلام وبيع المبادئ والثوابت في سوق نخاسة يفتقد إلى أدنى مقومات الإنسانية والأخلاق.

وإن كل اتفاق لا يكون معبراً عن إرادة الشعوب، ومراعياً لثوابت الأمة ومصالحها، وموافقا لرغبة الشعب الفلسطيني وطلائعه المقاومة المرابطة، سيبقى نشازاً مرفوضاً من مسلمي أوربا ومؤسساتهم.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى