صدور كتاب “الحُكم والإدارة في عصر الخلافة الراشدة” د. حافظ الكرمي
صدر اليوم عن هيئة علماء فلسطين في الخارج الطبعة الأولى من كتاب: “الحُكم والإدارة في عصر الخلافة الراشدة” للدكتور حافظ أحمد الكرمي. وقدّم للكتاب د. نواف هايل تكروري رئيس الهيئة، طباعة ونشر دار النداء إسطنبول – تركيا 6 تموز 2020م، الرقم الدولي 978-625-7011-48-8
بطاقة المؤلف:
د. حافظ أحمد عجاج الكرميّ
– ولد عام 1961م في فلسطين المحتلة.
– حصل على درجة الماجستير في السيرة النبوية من كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية عام 1987م.
– نال درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة ويستمنستر في لندن عام 1997 م.
– له مؤلفات وأبحاث منشورة
– له مشاركات إعلامية وعلمية واسعة في عدد كبير من الندوات والمؤتمرات والمقابلات على الفضائيات ووسائل الإعلام الرسمي والاجتماعي.
– يعمل حالياً:
1. مدير عام مركز مايفير الإسلامي بلندن منذ عام 1998م.
2. رئيس المنتدى الفلسطيني في بريطانيا منذ عام 2006م.
3. عضو المكتب التنفيذي والمسؤول الإعلامي لهيئة علماء فلسطين في الخارج منذ عام 2009م.
4. عضو أمناء مؤسسة القدس الدولية منذ عام 2008م.
5. عضو مجلس أمناء مسجد فنزبري بارك في لندن منذ عام 2005م.
6. ناشر ورئيس تحرير مجلة “الجسر” (مجلة المعهد الدولي للدراسة والبحوث)، وهي مجلة علمية محكمة شهرية.
خلاصة الكتاب:
لقد توصلت هذه الدراسة إلى نتائج مهمة في تجلية طبيعة نظام الحكم والإدارة في عهد الخلافة الراشدة، والذي كان سائداً في هذه الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي.
- لقد بقي النبي ﷺ بصفته الدينية زعيماً للدولة حتى وفاته، فوجد المسلمون أنفسهم _ولأول مرة_ أمام موقف مطلوب منهم فيه إفراز قيادة للدولة الوليدة ونظاماً للحكم والإدارة فيها، وهذا أدى بدوره إلى بروز الحاجة للتفاهم على شكل ومضمون مؤسسة الحكم والإدارة في الدولة الإسلامية أو ما سُمي تاريخياً باسم “مؤسسة الخلافة “.
- وقد توصلت هذه الدراسة إلى أن الخلفاء الراشدين الأربعة وإن كان انتخاب كل خليفة منهم تم بصورة مختلفة عن الآخر إلا أنها تتشابه في أنها تمت بموافقة الأمة ومشاورتها، حيث يقوم وجهاء القوم أو “أهل الحل والعقد” باختيار أكثر الأشخاص كفاءة وقَبولاً بحيث تتوفر فيه الشروط المتعارف عليها للرجل المناسب في هذا المنصب الحساس، ثم يُطرح هذا الاختيار أمام الناس في العاصمة “المدينة المنورة” لإقرار هذا الاختيار أو رفضه، ولقد استمرت هذه التجربة من سنة 11 حتى 40هـ، وكان من الممكن أن تتطور لتؤدي إلى بلورة نظام سياسي واضح، يضمن انتقال السلطة بشكل سلمي، إلا أن هذه التجربة انقطعت مع الأسف بعد مقتل الخليفة علي _رضي الله عنه_ سنة 40هـ، وبداية الحكم الوراثي في عهد بني أمية في السنة ذاتها.
- لقد بيَّنت هذه الدراسة أن أسلوب الحكم والإدارة في عهد الخلافة الراشدة كان متوازناً بين “الإدارة المركزية واللامركزية”، أمّا “الإدارة المركزية” فكانت تعني أن الخليفة هو زعيم الدولة والقائد الأعلى للجيش، فهو الذي يُعيِّن القادة العسكريين والولاة والقضاة والموظفين في أجهزة الدولة المختلفة، ويقوم بمراقبتهم ومحاسبتهم وعزلهم إذا اقتضت الحاجة، كما يرسم السياسات ويتخذ القرارات الكبرى، كإعلان الحرب أو السلم أو إقامة العلاقات، وأما “الإدارة اللامركزية” فكانت تعني إطلاق الحرية للولاة والموظفين في الأمصار المختلفة في إدارة شؤون ولاياتهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، مع ضرورة الالتزام بعدم مخالفة السياسات العامة للدولة.
- لقد توصلت الدراسة أيضاً إلى أن السلطات رغم أنها كانت مركّزة بشكل كبير بيد الخليفة إلاّ أن نظام “الشورى” المطبق كان يحول دون التحول إلى الحكم الفردي المطلق، فكان الخلفاء لا يقطعون أمراً _وبخاصة القرارات الكبيرة_ إلا بعد استشارة ما سُمي تاريخياً باسم “أهل الحل والعقد”، ومع أنهم كانوا يُستشارون بشكل مستمر إلاّ أننا لا يمكننا القول بأنهم شكَّلوا مجلساً واضح المعالم والهياكل والصلاحيات، فلم يكن هناك عددٌ ثابت لهم، أو مكانٌ وزمانٌ محددٌ للاجتماع، ولكن وبالنظر إلى هذه الهيئة أو مؤسسة الشورى _إذا جازت التسمية_ ضمن سياقها التاريخي والممارسات السائدة في تلك الأيام في دول الجوار نستطيع القول بأنها كانت أسلوباً متقدماً في إشراك ممثلي الأمة في الحكم والإدارة، وكان يمكن لها أن تتطور لتصبح مؤسسة ثابتة لها صلاحياتها وهياكلها الواضحة التي تشبه إلى حد بعيد المجالس النيابية والتشريعية والشورية الحديثة.
- كما أثبتت هذه الدراسة أن الدولة كانت حريصة على بناء مؤسسات إدارية ثابتة تأخذ على عاتقها إدارة الدولة وتسيير شؤونها، فتم إنشاء الدواوين المختلفة _الجند، المال، العطاء، المظالم، الكتابة والإنشاء، وما إلى ذلك_ تبعاً لحاجة الدولة وتطورها، ولم تتوانَ الدولة في الاستفادة من النظم الإدارية المعمول بها في البلاد المفتوحة بما لا يتعارض مع قيمها الأساسية، مما يدل على ثقة الدولة بقيمها الحضارية، واستيعابها للنظم الأخرى وصهرها لتتوافق مع فلسفتها وقيمها الجديدة.
- وأوضحت هذه الدراسة أيضاً أن الدولة بدأت تُقسَّم إلى وحدات إدارية “أمصار” بعد فتح مكة سنة 8 هـ، وتطور الأمر بعد الفتوحات في عهد الخلفاء، فأصبح التقسيم الإداري الجغرافي للدولة يتشكل تدريجياً، وقد تبين أن هذه الوحدات الجغرافية لم تكن ثابتة في البداية، سواء من حيث عددها أو حجمها أو التغير المستمر في حكّامها الإداريين، ذلك أن الدولة كانت في مرحلة النشوء والتكوين مع عدم وجود تجربة سابقة في إدارة الدول الكبيرة، فكان الخلفاء يُعيِّنون ولاة يفتقرون للخبرة أحياناً، فمن يُثبِتُ قدرته وكفاءته الإدارية يُثبَّت في منصبه، كما هو الحال في الشام وواليها معاوية بن أبي سفيان أو مصر وواليها عمرو بن العاص، أو عدم القدرة على الاستمرار فيُعزل كما هو الحال في الكوفة وواليها عمار بن ياسر.
- كما توصل البحث إلى أن هذا التقسيم لم يكن متوازناً سواء كان من حيث الحجم أو الأهمية، فهناك ولايات كبيرة مثل مصر والشام، وأخرى صغيرة مثل البحرين وعُمان، ذلك أن الدولة كانت قد ورثت هذه الوحدات الإدارية قبل فتحها، فكان من الحكمة إدارتها كما هي، حتى تتجنب إحداث تغيرات إدارية وجغرافية كبيرة ومرتجلة.
- كما تبين من خلال استعراض طريقة اختيار النبي ﷺ والخلفاء من بعده لرجال الحكم والإدارة أنهم كانوا يمارسون مبدأ “اختيار الأصلح”، ممن تتوافر فيهم صفات الكفاءة والهيبة والتواضع، وقوة الشخصية، والبساطة، حيث قام الخلفاء بوضع قواعد إدارية واضحة للولاة والموظفين، فكانوا يزودونهم بالتوجيهات الإدارية اللازمة عند اختيارهم لتولي منصب ما، ويتابعون التوجيه والمراقبة الإدارية، ولذلك وجدنا أن الخليفة عمر سنّ سنَّةَ عقد مؤتمرات عامة للقادة والولاة في موسم الحج لمحاسبتهم وتدارس الأمور معهم في القضايا التي تهم رعاياهم في الولايات المختلفة، وقد أدى ذلك إلى زيادة وعي الأمة بحقوقها وواجباتها تجاه الدولة، بحيث لا تتغول الدولة بأجهزتها على حقوق الرعية، ولا تتعدى الرعية على حقوق الدولة.
- وأظهر هذا البحث أن اتهام الخليفة الثالث عثمان بتولية بعض أقربائه غير الأكفاء في مناصب الدولة المختلفة _حسب زعم المتمردين_ كان الحجة التي برَّروا فيها تمردهم وقتلهم للخليفة _رضي الله عنه_ بعد ذلك، وبالتالي فتح الباب أمام حروب داخلية _الجمل وصفّين_ أدت إلى الاضطراب السياسي والإداري، وساهمت في تأخر استقرار ونضوج المؤسسات الإدارية المختلفة، وانتهت بتغيير النظام السياسي _الشورى_ الذي كان سائداً، وتفتيت وحدة الأمة والدولة معاً.
- كما قامت الدولة ابتداءً من عهد الخليفة عمر _رضي الله عنه_ بإنشاء قوة عسكرية منظمة تابعة لها “مؤسسة الجيش”، فبعد أن كان التجنيد في عهدي النبي ﷺ وأبي بكر _رضي الله عنه_ يقوم على التطوع بشكل أساسي أصبح إلزامياً، وأصبحت الدولة مسؤولة مسؤولية شبه كاملة عن تجهيز المقاتلين، وإمدادهم بالسلاح والتمويل والخدمات، وقامت _تبعاً لذلك_ ببناء المدن العسكرية الثابتة مثل البصرة والكوفة والفسطاط، ومع أن هذه المدن كانت بالأساس مدناً عسكرية إلاّ أن الخلفاء لم يغفلوا جانب التطور العمراني فيها، وبناء المراكز الإدارية فيها، كدار الإمارة والديوان وبيت المال، كما أوجدت الدولة فيها _ولأول مرة_ ما يُسمى بـ”قوات الاحتياط”، فكانت تُشحَن بالجنود والسلاح والتموين لتزويد جبهات القتال بها عند الحاجة.
- وأثبتت هذه الدراسة أن الدولة في هذه الفترة قامت بأعظم الإجراءات الإدارية المتعلقة بتنظيم شؤون الجيش، فأُنشئ لهذا الغرض “ديوان الجند”، كسجلٍّ عسكري توثيقي لتنظيم المقاتلة في إطار عسكري وإداري محكم، واشتمل هذا الديوان على الأنظمة التي بموجبها تُنظم العلاقة بين الدولة والجيش، فسُجلت فيه المعلومات الكاملة عن الجنود، وهو بذلك أشبه ما يكون بالسجل العسكري للجنود في العصر الحديث، وبناء على هذه المعلومات الدقيقة يتم تحديد حقوق الجندي المادية مثل الراتب والحوافز والإجازات وما إلى ذلك.
كما تم تنظيم الجيش تنظيماً داخلياً دقيقاً، فظهرت رتب عسكرية جديدة نتيجة ازدياد أعداد الجنود مثل “أمير التعبئة، وأمير الأعشار، وأمير الأسباع، وأمير الكردوس، وغير ذلك”، وكان ثمة ربط واضح بين الجيش والقرار السياسي، إذ كان الخليفة هو القائد العام للجيش، فهو الذي يعين القادة العسكريين، ويضع الخطط العامة للمعارك، ويحرك القطاعات العسكرية من مكان إلى آخر، في حين كانت مهمة القائد الميداني القيام بالتخطيط العسكري الميداني من حيث اختيار الموقع الملائم لإقامة الجنود وتفحص طبيعة الأرض التي سيقاتل عليها، وما يتبع ذلك من مهمات ميدانية مختلفة، مع الحرص على موافاة الخليفة بالتقارير الدورية عن سير الأمور في أرض المعركة.
كما أننا وجدنا أن الخليفة كان يعزل القادة العسكريين حتى ولو كانوا من القادة العظام من أمثال خالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة دون أن يُحدِث ذلك هزات إدارية أو تمرداً على الدولة، مما جعلنا نؤكد بشكل حاسم أن الدولة في عهد الخلافة الراشدة استطاعت أن تبني جيشاً نظامياً متمتعاً بكافة الشروط اللازمة لجيش منضبط يتبع دولة حضارية، وأن تتفوق في إدارة المعارك وتنظيمها، وإعداد الجيوش وتعبئتها، وتوفير كافة مستلزماتها البشرية والمادية والعسكرية.
12. وقد أثبت هذا البحث أن كثرة الموارد التي بدأت تتدفق على بيت المال نتيجة الفتوح استدعت إعادة النظر في بيت المال وتنظيم عمله وفق أسس إدارية جديدة، وضبط وإعداد ميزانية الدولة ضمن سياسة إدارية ومالية واضحة، ولذلك نجد أن الدولة قد عيَّنت عدداً ممن يتقنون القراءة والحساب وأصحاب الخبرة والتجربة مع طاقم من الكتبة والجباة والمحاسبين والحراس والمتطوعين ليقوموا بإحصاء الأموال الداخلة والخارجة إلى بيت المال، فشملت هذه الموارد الأموال النقدية والعينية، كما قُسمت الأراضي المفتوحة حسب طريقة فتحها حرباً أو سلماً وفرضت عليها الضريبة تبعاً لذلك، ولكن مع ذلك وجدنا صعوبة في التفريق فيما بينها بشكل حاسم؛ لأن المصادر تخلط بين أصنافها، كما أن هناك خلطاً واضحاً بين الجزية “ضريبة الرؤوس” والخراج “ضريبة الأرض” أدى إلى صعوبة تحديد حجم غلة كل نوع من أنواع هذه الضرائب، إلاّ أنَّ الدولة كانت قد راعت في كل الظروف أن تكون هذه الضرائب ضمن طاقة الناس ولكن دون المساس بالمصلحة العامة للدولة.
13. وكان من نتائج هذه الدراسة أيضاً أننا عرفنا أن شبكة العلاقات بين الدولة ومواطنيها قد تطورت من حيث زيادة مسؤولية الدولة تجاه الرعية، وزيادة واجبات المواطنين تجاه الدولة، فقامت الدولة بتنظيم جباية الضرائب، وفرضت العطاء للمستحقين، وهو أشبه ما يكون بخدمات الضمان الاجتماعي في أيامنا المعاصرة، كما فرضت الدولة راتباً خاصاً بالأطفال منذ ولادتهم وحتى سن البلوغ، وجعلت نفقة الأطفال اللقطاء على الدولة، وكانت هذه المساعدات تهدف إلى تقديم الإعانة للأسر ذات الأطفال؛ لبناء أسر قوية ومجتمع متماسك.
كما تبين أن الدولة كانت تقوم بتوزيع المواد الغذائية _ولأول مرة_ من خلال “صِكاك” أو أوراق ثبوتية، وهو إجراء إداري مهم يدل على تطور في مفهوم الدولة وعلاقاتها مع المجتمع، والقيام بتوثيق الحقوق والواجبات، مما يؤكد أنها دولة حضارية تحترم الإنسان وتحافظ على حقوقه، كما بدأت الدولة كمؤسسة تترسخ في حياة الناس بعيداً عن مفهوم البداوة السابق.
كما نجد أن اهتمام الدولة اتجه أيضاً إلى تنمية الاقتصاد المحلي عن طريق تشجيع الزراعة، وتوزيع الأراضي البور على الراغبين بزراعتها والاستفادة منها.
كما أن تعاملها بروح مفتوحة مع التجار الأجانب عن طريق تأمين الطرق التجارية، والتفريق بين التاجر المقيم والتاجر غير المقيم، بحيث يُفرض على الأول من الضرائب نصف ما يُفرض على الثاني في إشارة إلى تشجيع الاستثمار والتجارة في أسواق الدولة في عهد الخلافة الراشدة.
إضافة إلى تحديد قيمة النقود المتداولة وتوحيد أوزانها؛ مما يسهل عملية البيع والشراء، وتحديد وضبط وحدات الوزن والكيل والمساحة المستعملة، وسن القوانين التي تنظم الحياة الاقتصادية، والعلاقات بين الناس، مما أدى إلى تنشيط الدورة التجارية الداخلية، ونمو الاقتصاد المحلي وارتفاع مستوى المعيشة بشكل كبير.
14. لقد أوضحت لنا هذا الدراسة أيضاً أن وظيفة القضاء كانت في عهدَي النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأبي بكر _رضي الله عنه_ ضمن الوظيفة العامة للخليفة أو الوالي، وقد تم فصل القضاء عن الولاية العامة في أواخر عهد الخليفة عمر _رضي الله عنه_ بعد أن استقر الوضع في البلاد المفتوحة، وظهور المشكلات التي تحتاج إلى سلطة متفرغة بعيدة عن مهام الولاة المتعددة، فتم تعيين قضاة مستقلين في الولايات الكبيرة مثل البصرة، والكوفة وبلاد الشام ومصر، إلاّ أن القضاء في هذه المرحلة لم يصل إلى درجة أن يكون مؤسسة واضحة المعالم والأسس بقدر ما كان بداية لإرساء وتأسيس مثل هذه المؤسسة، وكان واضحاً أن تعيين قضاة مستقلين في هذه الأمصار تأكيدٌ لمثل هذا التوجه، وكان له أثره في تكامل قيام سلطة قضائية شبه مستقلة لها أسسها وقواعدها فيما بعد.
15. كما وضَّحت هذه الدراسة أن الخلفاء كانوا يتشددون في اختيار القضاة ضمن مواصفات دقيقة، فكانوا يقومون باختبار الأشخاص المرشحين لهذا المنصب، ويعيِّنون أولئك الذين تظهر عليهم علامات ذكاء متميزة في فهم القضايا واستيعاب حجج الخصوم وأدلتهم، كما حرص الخلفاء بعد ذلك على توجيه الرسائل إلى القضاة في أماكن عملهم يذكرونهم بأسس القضاء، وهذا التوجيه كان للتأكد من سلامة القضاء وعدالته، ولم يكن يمس بأي حال من الأحوال استقلاله ونزاهته، فكان القاضي بمنأى عن تدخل الخليفة في إجراءات التقاضي نفسها، بل إن الخلفاء أنفسهم خضعوا للمساءلة أمام القضاء إذ لا يوجد هناك شخص فوق القانون، حتى ولو كان خصمه من بعض رعايا الدولة غير المسلمين، ومثال ذلك قصة تقاضي الخليفة علي _رضي الله عنه_ مع يهودي أمام القاضي المسلم في درع للخليفة فقدها، ولم يكن عنده دليل مقنع للقاضي، وبالتالي كان الحكم لصالح اليهودي، مما يشير إلى أن العدالة كانت مضمونة للجميع، بعيداً عن التأثر بهيبة الحاكم، وهذا من أهم أسس نزاهة القضاء باعتباره سلطة مستقلة في الوقت الحاضر.
كما وجدنا أنه لم يُعرف في هذه الفترة ما يُسمى “الاختصاص القضائي”، فالقاضي يقوم بالفصل في جميع القضايا المعروضة عليه، وفي فترة لاحقة قام “قُضاة المظالم” بالرقابة على عمال الإدارة من ولاة وجباة وقادة، ومعاقبة أي معتدٍ على حقوق المواطنين وحرياتهم.
كما أننا عرفنا أن “الحرس والشرطة” كانا تابعين للقضاء في البداية، إذ كانوا يقومون بتطبيق الحدود أمام القاضي، وكان أول من عيَّن صاحباً للشرطة مستقلاً عن القضاء الخليفة عثمان رضي الله عنه، ثم تطور هذا الأمر ليصبح في أواخر فترة الخليفة علي _رضي الله عنه_ من الأجهزة المستقلة عن القضاء كلياً، وأصبح منصب “صاحب الشرطة” يوازي في أهميته منصب “صاحب القضاء”، كما أنَّ الفتنة والاضطراب في عهد الخليفة علي _رضي الله عنه_ جعله أكثر أهمية، فكان لا بد أن يتمتع صاحب المنصب بكفاءة عالية لضبط الأمن في البلاد، وأن يكون محل ثقة الخليفة بشكل تام.
ختاماً:
هذا البحث أثبت أن هذه الأنظمة التي وضعتها الدولة العربية الإسلامية كانت تتلاءم مع طبيعة المرحلة، فهي أنظمة عربية النشأة استفادت من الأنظمة الإدارية المطبقة في البلاد المفتوحة، وصهرتها في بوتقة تتناسب مع قيمها ورسالتها الحضارية، واعتمدت في تطبيقها على عناصر مشهود لها بالكفاءة والتقوى والعلم، وكانت تتطور حسبما تقتضيه المصلحة العامة، فهي أنظمة ثابتة تستفيد من التجربة، وتنظر بعقل مفتوح لكل التجارب السابقة أو المطبقة، مما أدى إلى تطورها بشكل سليم ومتدرج بعيداً عن العفوية والارتجال.
https://drive.google.com/file/d/1lIvej0eTIQqC3Swi4VW4rH7wfg-Nwk6Y/view?usp=sharing
(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج)