مقالاتمقالات مختارة

صدق الله وكذب دوركايم .. أبي آدم ليس بدائيا

بقلم فرج كندي

تحظى شخصية عالم الاجتماع الغربي “إميل دوركايم” (1858 – 1917م) من الاهتمام والتقدير والتبجيل في الجامعات العربية والإسلامية – ما لم تحظَ به شخصية أخرى في مجال علم الاجتماع ونظريات التطور الاجتماعي، وتصفها بالمجهودات الرائدة، وتسلِّم لهذه الريادة تسليمًا مطلقًا، دون أدنى محاولة لمناقشة أي رأي أو تصوُّر يُقدمه دوركايم، بل الغالب هو تسليم “العقل” العربي والإسلامي لهذا الرئد؛ كتسليم “عقل” المريد إلى شيخه، أو كتسليم الميت للمُغسِّل، بل هم أَطْوَعُ له مِن بَنانه.

وهذا التسليم والإسراف في الطواعية غيرُ مستغرب، بل هو نتيجة طبيعية لسياسات التعليم والبحث “العلمي” في المؤسسات البحثية في العالم العربي الإسلامي؛ لأن مخرجاته، بل القائمون عليه في أغلبهم هم مِن خريجي المدارس “العلمية الغربية”، وهم فريسة وقوعهم تحت الانبهار العلمي والغيبوبة الفكرية التي ترفع علماء الغرب ومُفكريه إلى درجة من القداسة و”العصمة”؛ بحيث لا يستطيعون التفكير فيما يُطرح في المؤسسات الغربية – ومِن رموزها – من نظريات وأفكار، ومدى صحة الأسس العلمية التي تقوم عليها هذه النظريات والأفكار، ومدى قربها من الخطأ والصواب العلمي.

وما “دوركايم” إلا نموذج واحد من هذه الظاهرة المعيبة علميًّا، التي تحتاج إلى إعادة النظر فيها وفي غيرها، من خلال إرساء منهجية علمية إسلامية مستقلة تعتمد نظرية البحث والتحليل والنظر والنقد، وهي نظرية العالم المسلم الذي تأثر به “دوركايم” وقبله أستاذه “أوجست كونت”، وهو العلَّامة “عبدالرحمن بن خلدون”، وإن لم يتقيَّد بها التلميذ والأستاذ في عدة مسائل، ومنها ما ادَّعاه “دوركايم” من بدائيَّة الدين، واعتماد المذهب الطوطمي.

كذب دوركايم حين عدَّ ما يسميه علماءُ الأجناسِ المذهبَ “الطوطمي” – (أنه ديانة، وأن الديانة الطوطمية هي أقدم عبادة على الإطلاق)، بل الحقيقة التي لا جدال فيها أن أول عبادة كانت لأول البشر وهو “آدم عليه السلام”، فهو أول مَن عَبَدَ اللهَ على هذه الأرض فيما يعرف بالسلسلة أو السلالة البشرية، بوصفه البشرَ الأول وأبَ كلِّ البشرية الموجودة على هذه الأرض، وهو من عُرضت عليه الأمانة، فحملها دون غيره من باقي المخلوقات “السماوات والأرض” التي أعرَضَتْ عنها، وأشفقت منها، وأَبَتْ أن تَحملها، وحملها آدم “الذي دينُه دين التوحيد، لا دين الطوطم”.

قام العديد من الباحثين الغربيين المتخصصين في علوم الإنسان وتاريخ الأديان – بدراسة الطوطميَّة، ولم يقولوا بمقالة دوركايم بأنها دين، أو أنها أول عبادة وأقدمها! ومنهم الباحث “غري” (grey) وكذلك ماك لنن (mac lennanوأثبتوا أن الطوطمية ليست دينًا، وإنما هي مجموعة كبيرة ومتنوعة من العقائد والعبادات الحيوانية والنباتية عند الأمم القديمة، بينما درسها “فريزر” على أنها نظام اجتماعي وليست دينًا.

وقد درس روبريستون (robertson si mht) الطوطمية دراسة عميقة، فرأى أنها ديانة متوحشة وغامضة، ومليئة بالكثير من المعاني، وعدَّها من الديانات العظمى الكثيرة، ولم يُشِرْ إلى ما حاول دوركايم الجزم فيه بكونها “أول الديانات وأقدمها”.

تعددت وتنوعت الأبحاث بعد دراسات وأبحاث روبريستون (robertson si mht)، ولكنها لم تقدِّم للباحثين صورة كاملة عن الطوطمية، وهو ما يؤكد قصور وعدمَ صحة ودِقة ما طرحه “دوركايم” في اعتبار الطوطمية أقدمَ ديانة، بل الحقيقة التي لا لبس فيها، ولا يُدانيها أيُّ شكٍّ، هي أن أقدم الديانات هي التي نزل بها (آدم عليه السلام) أول البشر الذي خلقه الله، وأمر الملائكة بالسجود له بعد أن علَّمه الأسماء كلها، وأمره بالهبوط إلى الأرض؛ ليخلفه فيها وليَستعمرها، وما خلَقه إلا لعبادته: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 566].

فآدم أبو البشر هبط إلى الأرض مؤمنًا نبيًّا عابدًا لله الذي خلقه، وأمره بالهبوط إلى الأرض حاملًا مبدأ: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]؛ ليحقق العبودية من خلال ما أمره الله به، والعبودية تتحقق من خلال دين مِن عند الله للذين خلقهم لهذا الغرض.

إن الفارق الكبير بين أصل الأجناس وبداية الخلق ومصدره، وبين أصل الدين والتدين ومصدره، وعلاقته بالخلق، ومسألة قِدَم التدين عند الإنسان، وبين سُنن التطور الحضاري والثقافي والمادي، – يجعل من نظرة دوركايم حول الطوطمية نظرة ناقصة يَعتريها القصور، ويَجنُح بها عن الصواب.

إن دوركايم ومَن نَهَج نهجَه وسار على طريقه، يبحثون فيما يسمونه “أديان” – ومتى تطوَّرت؟ وفي أي المجتمعات؟ – غافلين أو متغافلين؛ وَفْقَ ما تُمليه المرجعية الثقافية والمعرفية التي ينتمون إليها، ويعتقدونها في خلفياتهم السابقة.

والحقيقة تتمثل في تلازُمِ أصل وجود الإنسان وأصل مسألة التكليف التي وُجِد الإنسان على هذه الأرض؛ ليعمل وَفْق التكاليف التي أمر بها مَن خلَقه، الذي كلَّفه ثم أنزله إلى الأرض؛ ليَخلفه فيها ويَعمرها، ويعبده، فهو نزل إلى الأرض مُكلفًا، ولم يكتسب الدين اكتسابًا، ومسألة الاختلاف الديني مسألة متأخرة عن وجود الإنسان، ومحل نقاشها يكون بعد إثبات وَحدة الدين ومصدره وهو الله تعالى؛ إذ خلق الإنسان “آدم” وعلَّمه الأسماء كلها، وحين هبط إلى الأرض هبط عبدًا لله، ودينه الإسلام، وهو دين الفطرة، دين الله الذي جاء به كل الأنبياء والرسل ابتداءً بآدم، وانتهاءً بمحمد عليهم الصلاة والسلام جميعًا، لا تفريق بين أحد منهم، وهم جاؤوا بالحنفية السمحة والدينِ الخالص الذي لا بدائيَّة فيه ولا عِوج، دينٌ قِيَمٌ من الله خالق الإنسان رب الدين الواحد المُنزل مِن رب العباد، لا دين البدائية الطوطمية المتوحشة التي تسكن عقل “دوركايم”، ومَن تبِعه مِن تلاميذه في المؤسسات العلمية العربية والإسلامية التي تتَّبع سَننهم وتَحذو حَذْوهم حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة، دون إدراك ولا تفكير، أو إعمال عقلٍ أو تدبيرٍ، ولا هدْي مِن سُنةٍ أو كتاب منيرٍ.

والخلاصة أن فرضية أن الطوطمية أقدم عبادة، فرضية لا تقوم على أساس علمي يَصمُد أمام النظر العقلي، ولا أمام الفطرة السليمة، ولا أمام الدراسات العلمية المحايدة، بل هي قائمة على خلفية ثقافية تقوم على العداء للدين، وتعمل على إخراجه من حياة الإنسانية، وإبداله بقِيمٍ وأفكارٍ وتصوراتٍ بشرية خاضعة لأهداف وأحكام سابقة، تخدم مصالح مَن صنعها وروَّجها، وقدَّمها حلولًا بديلة عن شريعة الله الخالدة التي لا يأتيها باطلٌ، ولا تَطولها يدُ التحريف والتزوير، من خالق البشر جميعًا، وهو أعلم بحاجتهم، وهو أعدل في الفصل بينهم، وهو أعلم بما يصلح لهم، ولا يحل محلَّه مشرعٌ غيرٌه يَكتنفه الجهلُ والنقص والهوى والقصور، وتعتريه الشهوة، ويشده السلطان.

وكان أحق بـ”دوركايم” ومَن نهج نهجه وسار على خطاه – أن يتوجَّه إلى دراسة الدين الإسلامي؛ ليجد فيه ما يغني عن التساؤل، ويرد على فرضياته، ويُعيده إلى جادة الصواب، وعلى الباحثين والمفكرين من العرب والمسلمين، أن يكونوا على قدر مِن الثقة والمسؤولية العلمية التي تُمكنهم من البحث الجاد القائم على إعمال النظر، والبحث في المسائل التي يعرضها مفكرو الغرب، وتمحيصها وتحليلها في محاولات جادة لفَهمها، وسبر أغوارها، والتحقُّق مِن يقينها قبل التسليم لها، وعدِّها من المُسَلَّمات القطعيات، وإرغام طلاب العلم المبتدئين على تصديقها، والاستسلام لها، بل عدُّها أقدسَ مِن أن تُتَناوَلَ بالبحث والنظر، وهو ما أنتج جيلًا خاملًا عاجزًا عن التفكير والإبداع؛ لأنه كُبِّل بنظرية “ليس بالإمكان إبداعٌ أحسنُ مما أبدعته مصانع الغرب”!

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى