مقالاتمقالات مختارة

صالح المغامسي .. جند الله في المعركة الغلط | بقلم الشيخ مشاري الشثري

صالح المغامسي .. جند الله في المعركة الغلط

 

بقلم الشيخ مشاري الشثري

 

كان إسهام الإمام الشافعي إسهامًا علميًّا تاريخيًّا حفظتْه له الأمة ورجالاتها، وما زال الناس يلهجون بالثناء على الشافعي من أجله .. وهذا الإسهام لم يكن متعلقًا بقضية جزئية عالج بها الشافعي واقعةً تختص بزمانه، ولا أزمةً فقهيَّةً نزلت بطائفةٍ معينةٍ أو بأحد أفراد مجتمعه فخلَّصهم الشافعي بفقهه منها، بل كان إسهامُه منهجيًّا متجاوزًا للحدود الزمانية والشروط التاريخية.
وهذا المنهج الذي أتى به الشافعي لم يبتكره، بل إنما رتَّبه وجرَّده ممَّا ورثه بدرايته وسعة علمه من الكتاب والسنة، وجوهر هذا المنهج ضبط آلية النظر في الشريعة والاستنباط من نصوصها وتحديد جهات العلم المعتبرة.
هذا القدر من الإسهام الذي قدَّمه الشافعي هو ما فقهه كثير من حُذَّاق العلمانيين فرأوا فيه حاجزًا يحول بينهم وبين العبث بشريعة الله، فلم يَطِبْ لهم أن تُضبَطَ طرائق النظر وأساليب الاجتهاد، بل أرادوا أن تكون كلأً مباحًا ليعيثوا في أحكام الشريعة فسادًا، دون أن يرتهنوا إلى شروط علمية صارمة، فما كان منهم إلا أن سعوا سعيا حثيثًا في كسر رمزية الشافعي، الرمزية التي منحتها له الأمة بأسرها، وذلك لإدراكهم أن ما أنتجه الشافعي ليس مجرد معالجاتٍ جزئيةٍ فقهية، بل هو انتفاضةٌ تصنيفيَّةٌ علميَّةٌ كانت لها إفرازاتُها المنهجية في زمانه وبعد زمانه.
وحين تقرأ إصرار كثير من المفكرين العلمانيين على مناهضة مشروع الشافعي تتفهَّم دوافعَهم، لأنك -ما دمتَ قارئًا للتراث- تدرك حقيقةً أن ما قدمه الشافعي يمثل منهجًا لا مجردَ رأي في مسألة، وهذا يدركه كل قارئٍ بصيرٍ بالتراث خبيرٍ بالأفكار وتاريخها.
غيرَ أن الذي يبعث الأسى أن تجد هذا السعيَ في كسر رمزية الشافعي -بوعيٍ أو بغير وعيٍ- صادرًا من منتسب للعلم الشرعي، فحين عُرِض على الشيخ صالح المغامسي كلام لأحد المشتغلين بالفلسفة يقرر فيه ضرورة تجاوز المسلمين اليومَ لعقل الشافعي ما كان من الشيخ إلا المصادقة على ذلك مصادقةً تامَّة، بل قال بأن هذا هو ما يدعو له منذ زمن بعيد.
حسنًا .. ما الذي ينبغي تجاوزه تحديدًا من عقل الشافعي، وما الشيء الذي نريد أن نصل إليه من خلال هذا التجاوز؟
لن تجد جوابًا على شيءٍ من ذلك، ولم يكلف الشيخ نفسه عناء الإبانة عنه.
ولن أخوض هنا في مقدمة أولية تبحث أصلًا مدى تحقق الشروط العلمية في مثل المغامسي، وهل هو أهلٌ لتلك المجاوزة أو لا، وسأدع الحكم في ذلك لكل ممارس حقيقي للعلم ومطالع في أدبياته ليحكم بنفسه على ذلك، أما أنا فسأسلم جدلًا بذلك، غير أن لي حقَّ التساؤل بعد ذلك عن هذا التجديد المرجو وتلك الانبعاثة المؤملة حين نتجاوز عقل الشافعي الذي يريد الشيخ إسقاطه بمجرد التقادم!
وفي الحقيقة، فهذه المجاوزة التي يرجوها المغامسي ليست وليدةَ الساعة فعلًا، فمذ ظهر للناس بثوبه الجديد بحسب خلوِّ الجوِّ، وما أفسحتْه له الظروف المحيطة، وهو يَجِدُّ في إقناع العامة بضرورة الخروج من أسر التقليد للمشايخ الماضين، غير أن الجديد هنا هو مدُّ إطار ذلك الأسر ليصل لمرحلة الشافعي، وهذا هو ما اضطرني لتقييد هذه الكتابة.
وأنتَ إذا أجهدتَ نفسَك ونظرتَ في المسائل التي ينادي المغامسي على أعقابها بهجر ما عليه الماضون، ستجدها مسائلَ مغسولةً ضاربةً بأطنابها في غيابات التاريخ الماضي، من مسألة الغناء لمسألة كشف الوجه إلى زيارة النساء للقبور، إلى مسائل أخر ليس فيها من جديدٍ إلا أن فَمًا جديدًا صار يلهج بها، فالمغامسي لم يقدم إلا مزيدًا من الإغراق في الماضي، وقصارى ما أملاه عليه تجديدُه أنْ صار من تقليدِ قولٍ إلى تقليدِ آخر .. ولن تجد في شيءٍ من كلامه إسهامًا فقهيًّا حقيقيًّا يمكن أن يبعث في عقلنا المعاصر نهضةً معرفيَّة وانبعاثةً حضارية.
بينما غيرُه من (الفقهاء الحقيقيين) تجد اشتغالاتهم عصرية بامتياز، تراهم يبحثون مستجدات الأحكام الفقهية في شتى المجالات المعاصرة، في المعاملات المصرفية، وأشكال التقنية الحديثة، والنوازل الجنائية والطبية والسياسية، وغيرُها الكثير من الاشتغالات الفقهية الحقيقية التي يقدمها فقهاء وباحثون يعرفون للعلم قدرَه وللتراث أصالتَه، بل بلغوا مدًى بعيدًا في المعاصرة حتى بحثوا قضايا لا تجد لكثيرٍ من العصريين إلمامًا بها ولا إدراكًا لأولياتها.
أعود إلى المغامسي لأقول: قضيته الأولى والأخيرة قضيةٌ شديدةُ التصاغر، وهي أن الفتوى في بلادنا كانت تحلل وتحرم في مسائل، مُخفِيَةً -بزعمه- الأقوال الأخرى في تلك المسائل، وعلينا إذا ما أردنا التجديدَ أن نبعث تلك الأقوال، ونُفسِحَ لكلِّ أحدٍ في الانتقال من تقليدٍ إلى تقليدٍ، وفقط .. هذا هو مشروعه التجديدي الذي يريده، أما أن تجد لديه اجتهاداتٍ فقهيَّةً لمشكلات العصر، فليس له في ذلك نقيرٌ ولا قطمير، ولا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها.
لذلك .. لا أحب أن يُظلَمَ المغامسي ويُظَنَّ أنه بكلامه عن التجديد ومجاوزة أمثال الشافعي يدعو إلى هتكِ أستار الإجماعات، ولا تجاوزِ فهم السلف للكتاب والسنة، ولا استحداثِ أقوالٍ جديدةٍ تخرج عن كل ما قاله الفقهاء، ولا إخراجِ أصولٍ للفهم لم يعرفها الصحابة والتابعون .. ليس الشيخ مريدًا لشيءٍ من ذلك، وإنما يريد هذا أولئك الحداثيون الذين يصرحون بتجاوزٍ حقيقيٍّ لعقل الشافعي، ولذلك إذا سمعتَ تلك المناداة بتلك المجاوزة صادرةً منهم تفهَّمت مراداتِهم وأغراضَهم، وأما مثل المغامسي فلا يريد شيئًا من ذلك، ولكنه يجهل أن دعوته هي ذات الدعوى التي يلهج بها أولئك .. المغامسي يريد فقط أن يمارس مجرد المناداة بالتجديد دون أن يقدم تجديدًا حقيقيًّا، وتلك المناداة تحرضه على مثل هذه الإطلاقات التي لا يعي مضامينها، وقد نفض الشيخ عقله ليخرج للأمة تجديدا يريد به تقديم مشروع نوعي فلم يجد أزيدَ من المناداة بانتقال من تقليد لتقليد، الانتقال من تقليد أقوال المشايخ السابقين إلى تقليد أقوال أخرى .. هذه قضيته، وهذا تجديده.
وهذا الذي تراه همًّا صغيرًا جدًّا هو مراد كثيرين من أبناء زماننا حين ينادون بالتجديد، وليس الأمر قاصرًا على المغامسي فحسب، بل هو لسان كثيرين غيره، فإذا ما نوقشوا تحدثوا عما يعانيه المجددون من عدم فهمٍ لهم ولا ترحيبٍ لمشاريعهم! وأما نحن فهذا قَدَرُنا، أن تكون دعوات التجديد عندنا ضربًا من التصابي الفكري والمعرفي، فإذا أردتَ أن تكون مجددا في زماننا فما عليك إلا أن تنظر في حكم واجب واجعله مندوبًا، أو انظر في أي حكمٍ محرمٍ وأخبر الناس أنك جاوزت عقول الماضين واكتشفت أنه مكروه أو مباح، هذا هو غاية التجديد المنشود عند هؤلاء، فلا تغتر بكلمات رنانة من أمثال التجديد والتحديث ومواكبة العصر، فقد بلونا تلك الدعوات فلم نجدها أزيدَ من هذا الذي وصفتُه لك، هذا إن كان الداعي إلى التجديد لم يزل منسوبًا إلى دائرة التدين، وإن جاوز ذلك فتجديده يكون بهدم محكمات الشريعة، فما أعظمَ بلاء الأمة بمجدِّديها!
ثمَّ .. قد كان المغامسي فيما أحسبه جنديًّا من جنود الله في معركةٍ تُعَدُّ من كبرى معارك الأمة، وذلك حين كان من أعلام الوعظ والتذكير بكلام الله وسنة رسول الله ﷺ، في سبيل حفظ أديان الناس، فكم أنِسَت بكلامه الآذان، وكم ذرفت لكلامه العيون، وقد كان لحسن بيانه وسعة معلوماته أثرٌ بالغٌ في الوعظ بالقرآن، وما أعظم تلك المعركة التي قلَّ من يحسن خوضها، إلا أن الشيخ استطاع الصمود إليها حتى هدى الله على يديه أقوامًا، ولكنه الآن آثر النُّقلَةَ عن ذلك فصَمَدَ إلى معركة أخرى، غير أن المحزن أنها معركةٌ فارغةٌ، لا مضمونَ لها، ولا يرجى بها هُدًى ولا هدايةٌ، بل هي معركة جوفاء، يقاتل بها الشيخُ نفسَه حين يطويها في صغائر المشاريع التي لا يرجى بها سوى بلبلة العامَّة وذلك حين ينادي بتجديد، غايتُه انتقالٌ من تقليدٍ إلى تقليد، تحت شعارات الاعتدال والتسامح والمعاصرة .. ولم يزلِ الشيخُ جنديًّا .. غيرَ أنه أضحى جنديًّا في المعركة الغلط!

(المصدر: صفحة الشيخ مشاري الشثري على الفيسبوك)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى