مقالاتمقالات مختارة

شُيُوخُ الخُضُوع

بقلم خليل سعيد

 قيمة دين الإسلام الأولى في تخليصه للخلق من عبادة بعضهم البعض بالخضوع للخالق وحده. وسقمه الأوّل هو توجيه خطابه لخدمة أهواء عبادٍ في التّطاول على فطرة الحقّ وسمو العقل اللّذين كرّمهما اللّه سبحانه. معجزة الإسلام الأكبر في قدرته على تحويل القلوب الضّالة والمجتمعات الجاهليّة من خلال بنائه لمكارم الأخلاق إلى صنّاع حضارة تنير مسار الإنسانية، فلا استغراب في ظلّ التفسّخ الخلقي الذي نعيشه، والمتمثل أولا في سيادة التّديّن الشكلي، والقبول بالظّلم، والتّعلّق المزمن بالذّات الخياليّة وأهواءها، أن نسكن قعر الأمم بالأدلة والواقع.

قد نلعن لحالنا المستولين على صناعة السّياسة، وقد نكيل تُهم مسؤولية التّخلّف لنخبة فاسدة في جزء منها، مستعدّة لإنتاج الباطل فكرًا، ونملك الحقّ في إنتقاد إعلام بات مرآة لأمراض المجتمع ومُنتِجا لعلّته في نفس الوقت، ولكنّنا وفي تحليلنا للوضع أملًا في أن يطاله التّغيير، يجب أن نقول وبصوت عال، مستحضرين لأمر اللّه بالقراءة في أول كلماته للأمّة، أنّ شيوخ الخضوع لغير اللّه باتوا اليوم من محرّكات التّخلّف الذي تعيشه أمة المسلمين. الدّين على بساطة مضمونه وغزارة الرّحمة في خطابه الأصلي، بات سجين إستثماره في التّلاعب بعقول وأفكار العّامة منذ زمن. فحتّى الحرب بين السّنة والشّيعة هي صراع سياسي حول السّلطة بنزوات بشريّة محضة أنتج من خلال استغلال الدّين أكبر شرخ إيديولوجي في صفوف أمة واحدة باتت بعده بدينين. صراع سلطة يجعل النّاس قادرة على التّجرّد من إنسانيتها اليوم لقتل من هم في الطّرف الآخر وهي موقنة بكلّ جهل أنّها بذلك تملّكت قصورا في الجنّة. والتّاريخ يسجّل أنّ دولا قامت فقط على بركات مؤسسيها الدّينية أو حتّى صفات هداية مزعومة. ويدوّن انفصام المسلمين في تقديم الحكم المسلم على الحكم العادل مع أنّ قيمة الإسلام كدين هي إقرار العدل الذي هو شريعة اللّه في خلقه.

المراؤون بالدّين والمتاجرون به والمتخذون منه صنعة ترفعهم فوق النّاس دنيويا دون المساس بجوهر ما يرحمهم أخرويا، هم من أسباب ارتماء شباب كثر في أحضان الإلحاد عبر خطابهم المؤسس على إحتقار ذكاء المتلقّي والثّقة في صمته. وأولئك المغالون في خيانة التراحم المفروض دون الخوض في مشاكل الأمة الحقيقية، هم صانعوا التّطرّف الحقيقي. بل حتّى الصّامتون عن هموم النّاس، المكتفون بوصف خُلقٍ قد لا يحملونه وبرثاء ماض دون المساهمة في بناء حاضر هم في جبنهم مخالفون لأمانة اللّه في نصح الخلق. والأكثر خطورة من كلّ الأنواع السّابقة هم شيوخ شرعنة الباطل، وهؤلاء هم صنّاع التّخلّف الذي هو أول مهددات الأمة والدّين برمّته.

الإصلاح الدّيني بات ضرورة ملحّة تبني تلقائيا أي إصلاح آخر، ومع أن علل الخطاب الدّيني على إختلاف تيّاراته باتت كثيرة، فالجيل الجديد قادر على جعل القلوب تتطهر مجددّا بعكس السببية بين الخلق والإيمان، عبر بناء الخلق الذي يصفي الروح فيجعلها أكثر قدرة على استقبال إيمان حقيقي صادق. خلق الكرامة ونبذ الظّلم، خلق الإحترام الواجب لكلّ النّاس لإنسانيتهم، خلق التّضامن الذي يكسر حكم المصلحة الخاصّة، خلق التّراحم بين النّاس… إذا كانت المساجد للّه، فربما من الواجب مثلًا أن تُطهّر من سيطرة العباد لتسودها خلق التّآخي بينهم. ما المانع في أن يصلّي بالنّاس أيّ فرد يرى نفسه أهلا لذلك منهم مع كلّ صلاة؟ ما المشكلة في اختيار أهل الحي خطيبا مختلفا منهم لإلقاء خطبة الجمعة فيما يهمهم هم من موضوعات؟ ما قيمة أن يكون لشؤون الدّين وزارات وقد تكفّل الخالق بحماية دينه الكريم؟ الأسئلة هذه في براءتها تحمل عدم فهم للإصرار على بسط السّيطرة السّياسية على الخطاب الدّيني بكلّ بساطة.

المنطقة العربيّة هي من آخر المناطق في العالم التي بات الدّين حاضرا في سياستها، لا في المضمون ولا في أخلاق الممارسة للأسف، ولكن فقط في شَرعَنة التّجبّر وتغذية الخضوع للظّلم. والمفروض ممن ينادون اليوم بضرورة الإصلاح السياسي الوقوف بصدق وشجاعة أمام موضوع خدمة الديني للفساد السياسي مع كلّ ما يحمله من حساسيّة. وإن كنّا نعتزّ جميعًا بدين الإسلام، فقيمة العدل بين النّاس التي يفرضها هي مصدر هذا الاعتزاز، والتّخلي عنها هو خيانة للدّين نفسه لا خدمة له.

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى