بقلم أيوب أبسومي
شبهة : لا تُلزِمني بفهمك للنص.
بعد المقال السابق الذي اعترضنا فيه على إطلاق صفة الاجتهاد وتقَمُّصِها ممن ليسوا أهلا لها، وبعد أن ذكرنا شروط الاجتهاد وفق ما تعارف عليه علماء الأمة، نُعَرِّجُ هَهُنا على مسألة أعمق وأخص، هي شماعة جديدة يتم التعلق بها لتغيير ملامح فقه الأمة وتراثها، هي مسألة إعادة النظر في الأحكام الشرعية بدعوى تجديدها لتوافق الزمكان..
فههنا أناس يعلنون أمام الملإ رغبتهم في تجديد الفقه والأحكام الشرعية، بحجة عدم اقتناعهم بفهم غيرهم، وأن القرآن نازل على الأمة لتفهمه الأمة، وليس ليفهمه بعضها فهما مُعَيّناً ويعمل به الكل عملا لازما، فالفهم عندهم نسبي لا مطلق، وبالتالي فللجميع الحق في تَطَلُّبِ مراد الله..
هذه الشبهة التي تظهر بحلة الخطر البالغ، ليست إلا مغالطة وتجاوز سرعان ما يكشف العقل تهافتها وخبث سريرة قائلها..
لو سلمنا جدلا بهذا الأمر، وفتحنا باب الفهم لكل أحد، فسيلوي من شاء النص كيف شاء، وسيأتي الزاني بعشيقته ليقول أن نص الزنا يقصد به المتزوجون لا العزاب، وسيأتي ناهب مال اليتيم ليقول أن الحرام هو أكل هذا المال، وأنا لبسته وبنيت به الديار والرياض، فدلالة ظاهر اللفظ تحرم الأكل ولا تحرم سواه، ويأتي شارب الويسكي ليقول أن هذا ليس خمر العرب الرخيص، بل هذا ويسكي، نعم ويسكي..!!
إن فهم النصوص لا يتأتى إلا لمن أدرك آلية الفهم والتفسير، وجمع آثار الصحابة المفسرين، وعليه فإن تفسير النبي أولى من تفسير غيره، وتفسير الصحابي أولى ممن هو دونه، وتفسير أئمة اللغة المتقدمين كالطبري وابن كثير أولى من تفسير من تأخر ولم يشتهر بالتضلع في اللغة والعلوم الشرعية، وقرب العهد بلسان العرب وثقافتهم التي في أحضانها أُنزِلَ القرآن، لأن غالب النصوص يفسر تحت ضوء المقاصد والعلل، أو ما يسمى ب “تعليل النصوص “. وفي هذا الصدد يقول ابن قيم الجوزية في كتابه الروح -ص:183- : (ينبغي أن يُفهَمَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم مُرادُهُ من غير غلوٍّ ولا تقصير، فلا يُحَمَّل كلامه ما لا يَحْتَمِلُه، ولا يُقَصَّر به عن مراده وما قصده من الهدي والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطإ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد.)
روح النص :
إن تفسير النصوص وتَطَلُّبِ مراد الله توقيفي خاضع لضوابط محددة لا للهوى، ولا يكون قياسا على الظنون والتراكيب، ولعل في قصة أبي بن كعب رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم خير دليل على هذا الكلام، فحينما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أي آية في القرآن أعظم، لم يأخذ بتغليب الظن أو قوة الأسلوب والمجاز والبلاغة، إذ لو كان الأمر كذلك لاختار مثلا ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ ﴾ لما فيها من قوة التركيب في الكلمة الواحدة، أو يختار آية ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ لما فيها من جمال العبارة وإحكامها وبراعة البلاغة وإتقانها، أو يختار آية الدَّيْنِ لِمَا فيها من الطول والأحكام، لكنه رضي الله عنه فهم مقصد الشارع ففهم السؤال فأصاب الجواب، ولذلك قال : ( آية الكرسي يا رسول الله ) فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن ضرب صدره وعَبَّر عن رضاه بقوله《 لِيَهْنِكَ العِلمُ يا أبا المنذر 》..
الشعب يريد تفسير القرآن..!!!
إن فتح باب التفسير والفهم لكل أحد معارض معارضة صريحة للقرآن، لأن هذا يجعل الآية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ مقصية تماما ومعناها ضائِع هَدَراً، ومعارض لقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله” .. فأين هذه التراتبية إن زعم كل أحد قدرته هلى فهم كل شيء؟!
ولو لم يكن الناس متفاوتون في درجات الفقه والفهم لما جعل الله فقه الشريعة فرض كفاية بدل فرض عين، ولكنه تخفيف على الناس لأن منهم من لا يطيق، ولذلك قال ربنا (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
معاذ بن جبل :
قد يقول قائل أين أنت من حديث معاذ بن جبل، حين أَقرَّهُ النبي صلى الله عليه وسلم على قوله ( أجتهد رأيي ولا آلو)؟ فيُجابُ على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقِرَّهُ على الاجتهاد بشكل مستقل، وإنما أقره على تقديم كتاب الله ثم سنة رسول الله، فإن لم يجد فيهما ما يفتي به، اجتهد آنئذٍ.. مع الإشارة إلى أن معاذا كان مُنتَخَباً من رسول الله وليس عَامِّيّاً، وكان من أعلم الصحابة بالقرآن.. فكيف إذا الاحتجاج بتأويل معاذ لما لا دليل عليه على جواز إعادة تأويل ما ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة؟! إذ لو انطلقنا بمنطق معاذ، وحتى لو حكم معاذٌ نفسُه، لحكم بما يوجد في كتاب الله تعالى.
أهمية السياق في تحديد دلالة الألفاظ :
لا يمكن بتاتا تفسير القرآن خارج سياق نزوله، أو تفسير آية خارج سياقها بين ما سبقها وما يليها من الآيات، لأن القرآن متكامل، وإذا ما تم اجتزاء آية لتُفَسَّرَ منفردة كانت بمثابة الجملة العادية التي تحمل وجوها كثيرة من الدلالة، وقد تفسر بغير ما أريد لها من المعاني، وهذا ليس من خصائص القرآن. ومثال ذلك قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) – الدخان 49- هذه آية توحي بتكريم المخاطَب، وهذا مخالف لمعناها الحقيقي، إذ أنها سُبِقَت بعذاب وخُتِمَت بِنِكاية، لينقلب معناها من التكريم إلى التحقير.. ومثال آخر رأيت له تفسيرا عجيبا عندما تم تجريد الآية من سياقها، فبعد أن قال ربنا : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) – الأنعام 101- قال بعض الشباب أن الله لما قال لم تكن له صاحبة فإن ذلك يعني أنه ذكر، إذ لو لم يكن كذلك لقال لم يكن له صاحب أو صاحبة – تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا – وهذا فهم خاطئ لسياق القرآن، إذ لو بحثت بين دفتي المصحف كله لما وجدت أحدا اتهم الله بالولد والصاحبة غير النصارى، إذ يقولون أن عيسى ( ابن مريم والله ) – تعالى الله – ولذلك كل آية ينزه الله تعالى فيها نفسه عن الصاحبة والولد إنما هي رد على النصارى لا تحديدا لذكوريته، لأن ذلك أصلا مناقض لقوله تعالى :(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) – الشورى 11 -.
المساواة في الإرث:
ولعل أكثر شيء يتعرض للنقد واللَّفِّ من أجل إسقاط أحكامه وإعادة تدويرها، ما يتعلق بأحكام المرأة خاصة في باب الإرث. فإذا كان العلماء قد اختلفوا في دلالة ألفاظ الأضداد التي تحتمل أوجها متعددة من المعاني، كالقُرءِ مثلا، فكيف يا ترى يمكننا أن نستسيغ إعادة النظر في نصوص الإرث وهي التي جاءت بألفاظ قطعية الدلالة لا تحمل إلا معنى واحدا لا يعتريه غموض، كالثلث والنصف والربع، فهل يا ترى هناك معنى للثلث غير معناه المعروف الذي هو جزء من ثلاثة أجزاء مُكَوِّنَةٌ للكلِّ، وكيف يا ترى يمكننا إعادة النظر في آي الإرث وهي التي جاءت على قِلَّتِهَا مُتَضَمّنةً لعبارات ك ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم ﴾ وعبارة (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ وعبارة ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيم ﴾ والآيتين ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، فهل نتجاوز هذه الآيات العظيمة الدلالة على ضرورة توقير حدود الله، والتي يعبِّر فيها ربنا عن مطلق علمه مقابل نسبية علم الإنسان لنأخذ بمن يدعي الرغبة في المساواة بقسمة الإرث مناصفة بين الرجل والمرأة، وكيف يمكن أن نقارن أصلا بين حكم الله وحكم الإنسان؟!
إن إطلاق المساواة بين الرجل والمرأة في مسائل الفرائض ومسائل العبادات تكليف للمرأة بما لا تطيق، فهاهي الحائض مُلزَمةٌ بقضاء صلاة الأسبوع، والثانية النفساء مُلزَمةٌ بقضاء صلاة الأربعين، والثالثة، هذه الضعيفة هناك مُلزَمةٌ بالنفقة على أولادها وتجَشُّمِ طلب الرزق لإعالتهم بعد أن كانت مُعفَاةً، والأخرى الرابعة، الفتاة الفقيرة صارت مُلزَمَةً بحمل الصداق إلى شاب عريض المنكبين، والخامسة والسادسة والعاشرة… فهل يعقل أن يناط تكليف الرجل بالمرأة؟! أم أنه فقط يجب تقسيم الأرباح مناصفة على أن تبقى الخسائر على الرجل؟!! لعمري هذا ما أنزل الله به من سلطان..
فإذا كانت هذه هي مقاصدكم، فلا بارك الله لكم فيها ولا ابتلانا بتطبيقها، فخذي يا اختي من الميراث حتى ترضي، واتركي ما شئت، وليحيى شرع الله بيننا، فما هي إلا أيام معدودات ونلقى الله، ليكشف عن تلك المقاصد وحقيقتها .. (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)
(المصدر: مركز يقين)