بقلم سمير حسين زعقوق
القائلون بأنّ مجالَ الفتوى هو العباداتُ والغيبياتُ، وما عداها هو مِن شؤونِ الدنيا، وهي مصالحُ ترجعُ لولاةِ الأمور والنُّخب، ولكل أحد أنْ يُدليَ فيها بدلْوِهِ، وليس الكلامُ فيها مِن بابِ الفتوى والحلالِ والحرام، القائلون بهذا شبهتهم أمران:
الأولُ:
ما ذكرَهُ أهلُ العلمِ قديمًا، وعلى رأسِهم القرافي وابنُ القيمِ والشاطبيّ، مِن أنّ تصرفاتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم صدرتْ منهُ بصفتينِ؛ بصفتِهِ إمام المسلمينَ ورئيس الدولةِ، وبصفتِهِ مبلِّغًا ومُفتيًا، فالتصرفاتُ الأولَى متغيرةٌ، بتغيرِ الأحوالِ والمكانِ والزمانِ، بدليلِ أنّه صلى الله عليه وسلم كان يستشيرُ فيها أصحابَه، ويأخذُ برأيهم في كلِّ مرةٍ، كما فعلَ في غزواتهِ، في بدرٍ والخندقِ، وعلى ذلكَ اختلفَ العلماءُ في قولهِ صلى الله عليه وسلم يومَ حنين: (مَن قتلَ قتيلًا فلَهُ سَلبُهُ) هلْ هوَ فتوى وحكمٌ دائمٌ، أو أمر مصلحي، يحتاجُ إلى أنْ يقولَه الإمامُ في كلِّ مرةٍ إن رأى فيه مصلحة، وإلا لا يُعمل به؟
وهذا الكلام يفتقر إلى تحقيق وتدقيق في بيان الفرق بينَ التصرفين في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وببيانه يسقط ما تقوم عليه هذه الشبهة.
وبيانه في الآتي:
تصرُّفه صلى الله عليه وسلم بالفتوى والتبليغِ حكمٌ شرعيٌّ بوحيٍ، يبلّغُهُ صلّى الله عليه وسلم كمَا أُمِر، ولا يأخذُ فيهِ برأيِ أحدٍ مِن أصحابِه ولا مشورَتِهم، وهو حكمٌ ثابتٌ لا يتغيرُ، إلَّا إذا نَسخَهُ وحْيٌ آخرُ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
وتصرّفُه الثاني، المتعلقُ بالإمامةِ والرئاسَةِ الخاص بالسياسةِ الشرعيةِ، لا بد أن نعلم أنه هو أيضًا حكمٌ شرعيٌّ؛ لأنّه متعلق بأفعال المكلّفين، وأحكامُ المكلَّفينَ لا يمكنُ أن تخرجَ عن أحكامِ الشرعِ بإجماع أهل العلم، لكن الفرق بين هذا النوع والذي قبله أن هذا الأخير كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير فيه أصحابه أحيانا، وإذَا ما أقرَّه صلى الله عليه وسلم، صارَ ما ارتآهُ حكمًا شرعيًّا لازمًا، في تلكَ النازلةِ بعينِها، لا تجوزُ مخالفتُه، كحكم النوع الأول الصادر بالتبليغ، ويترتب عليه ما يترتب على الأول، من طلب الفعل أو النهي عنه أو التخيير فيه، يعني التحليل أو التحريم أو الإباحة، وإذا ما تغيّرَ الحالُ في تلك النازلة، وعَرَضَ ما يستدعِي النظرَ في المصلحةِ الشرعيةِ، التي رُوعيَتْ في المرّة الأولَى؛ غيّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحكمَ، بناءً على تغيُّرِ الحالِ، وصارَ الحكمُ الجديدُ – بعدَ إقرارِ النبي صلى الله عليه وسلم له – حكمًا جديدًا لازمًا في تلكَ الحالةِ الجديدةِ، كالحكم الأول، إذنًا كانَ أو طلبًا أو تركًا، لا تحلُّ مخالفتُه.
وهكذا كلُّ حكمٍ تصرّفَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم بوصفِهِ إمامًا، سواءً بمشاورَةِ غيرهِ، أو بدُونِها، بناء على مصلحة ارتآها، كقوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: (مَن قتلَ قتيلًا فلهُ سَلبهُ)، فإنّه بعدَ أنْ يقرّه صلى الله عليه وسلم يكونُ حكمًا لازمًا.
وعليه؛ فما يذكرُه من يُسوقون هذه الشبهة، مِن أنّ الفتوى في أمورِ سياسة الرعية تتطلبُ المشاورةَ هو صحيحٌ، وما يذكرُ مِن أنّ الأحكامَ المرتبطةِ بمصلحةٍ أو بزمانٍ أو عادةٍ أو مكانٍ متغيرةٌ – تبعًا للمصلحةِ وتغيرِ الزمانِ والمكانِ والعادة – هو أيضًا صحيحٌ، كما ذكرَه القرافيّ وغيرُه، لكن الذِي ليسَ بصحيحٍ أمرانِ:
الأولُ: ما فهمَه بعضُ أهلِ العصرِ، مِن أنّ الأخذَ بهذه المصالحِ المتغيرة لا تعلّقَ له بالأحكام الشرعيةِ، ولا بالحلالِ والحرامِ، فهذا باطلٌ قطعا؛ لأنّ الأمةَ أجمعتْ على أنّه ما مِن فعلٍ مِن أفعالِ المكلّفين إلّا وللهِ تعالى فيهِ حكمٌ، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ، وجَهلهُ مَن جَهلهُ.
الثاني: أنّه ليسَ كما زَعَمُوا؛ أنّ كلَّ أحدٍ مِن الساسةِ أو غيرِهم مِن النُّخبِ، له أنْ ينظرَ في هذهِ المصالحِ ويُقَدرَها، ويجتهدَ ويقول ما يراه فيها، وأن أهل العلم الشرعي وغيرهم فيها سواء، ولا تَعَلُّقَ لها بالحلالِ والحرامِ، وهذا أيضًا باطلٌ، بل مِن إفسادِ الدِّين، ومِن التلاعُبِ بأحكامه، فإنّ اللهَ تعالَى يقول: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، ويقول: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ). وأولو الأمرِ همُ العلماء، والقادرونَ من الحكام على الاستنباط هم أيضًا من العلماء.
وتصرُّفُه صلى الله عليه وسلم في شؤونِ السياسة بالمصلحةِ والمشورة، لا حجة فيه على ما ذهبوا إليه؛ لأن الذي كان يُنزلُ الحكمَ الشرعيَّ على المصلحةِ بوصفِهِ إمامًا، هو سيدُ الفقهاءِ وإمامُهم، وأعلمُ الناسِ بالحلالِ والحرامِ، وهو الذي قالَ اللهُ فيه: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، فآلَ الأمرُ في بيانِ ما يتعلق بالمصلحةِ إلى أعلمِ الناس بالشريعةِ، وليس إلى عامة الناسِ، ولا لِمَن استشارَهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ممّن تكلمَوا باسمِ قبائلهم، أو بخبرتهم ومعرفتهم بالحربِ أو غيرها.
هذا فيما يتعلقُ بالأحكامِ الصادرةِ مِن النبي صلى الله عليه وسلم بوصف الإمامةِ.
أما مَا صدرَ عن الخلفاءِ الراشدينَ بعدهُ، مثل قتالِ الصديقِ رضي الله عنه مانِعِي الزكاة، أو تعطيلِ الفاروقِ رضي الله عنه للحدِّ عامَ المجاعةِ، أو قتلِهِ الجماعةَ بالواحِدِ، أو تعطيلِ سهمِ المؤلفةِ قلوبُهم، أو إتمامِ عثمانَ رضي الله عنه الصلاةَ بِمنًى؛ فإنّه صدرَ عنهم باعتبارِهم وُلاةَ أمورٍ، توفّرتْ فيهم شروطُ ولايةِ الأمرِ الشرعيةِ، التي على رأسِها أن يكونَ الإمامُ مِن أهلِ الاجتهادِ، في استنباطِ الأحكامِ مِن الدليل.
فالخلفاءُ الأربعةُ اجتهاداتُهم في السياسة الشرعيةِ اجتهاداتُ فقهاء، لا اجتهاداتُ سياسيينَ؛ لأنهم مِن فقهاءِ الصحابةِ.
وبذلكَ رجعنَا مرةً أخرى إلَى حكمِ أهلِ الاجتهادِ والفقهِ في أمر السياسة، ولم نرجعْ لأهلِ السياسةِ لمعرفة أحكامِ السياسةِ، وهذا هو مَعنى الردّ إلى وُلاةِ الأمرِ في قولِه تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، أي: ردُّوهُ لأولِي الأمرِ، الذينَ هم أهلُ الاجتهادِ والاستنباطِ مِن الدليلِ، لا إلى غيرهم، وهذه فائدةُ ذكرِ (يَستنبِطُونَه)، ولو كان الرد لكل حاكم لما احتيج إليها، ولما كان لذكر الاستنباط فائدة!
فعثمانُ رضي الله عنه – لأنّه من أهلِ الاجتهادِ، ومِن فقهاء الصحابة – عندمَا اجتهد في مِنًى، ولم يقصرِ الصلاةَ، وقال: “حدَثَ هذا العامَ طَغَامٌ، وخِفتُ أن يَسْتَنُّوا”، استغربَ الناسُ منه، وأنكر عليه عبدُ الله بن مسعودٍ ذلكَ أولَ الأمرِ؛ لمخالفتِه سُنةَ القصرِ، ثمّ سرعانَ ما رجعَ، وعلمَ بأنّ عثمانَ رضي الله عنه خليفةٌ راشدٌ، وإمامٌ فَقِيهٌ، فرجعَ وقالَ: “الخِلافُ شرّ”، ولكن بعدَ ذلكَ، عندما تولّى خلفاءُ وأمراءُ ليست لهم هذه الصفة، ولم يكونُوا فقهاءَ، اختلفَ الأمرُ، ففي خلافةِ معاويةَ رضي الله عنه في الشام، كما جاءَ عند مالكٍ في الموطأ وغيره، أنّ معاويةَ باعَ آنيةً مِن ذهب بأكثر مِن وزنِها، فأنكرَ عليه أبو الدرداءِ، وقال له: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهَى عن ذلكَ، قال معاوية – وهو الأميرُ الحاكم بالشامِ: لا أرَى بأسًا بذلك! ماذا كان الجوابُ؟ هل قال أبو الدرداءِ: هذا مِن أمر السياسةِ، يحكمُ فيه الأميرُ ونقبلُ به، لَا، بلْ ردَّ أبو الدرداءِ مُغضَبًا: “أقولُ لك إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهَى عن ذلك، وتقولُ: لا أرى به بأسًا، واللهِ لا أُساكنُك في بلدٍ أنتَ فيه”، وخرجَ مِن الشامِ، وذهبَ إلى عمر بالمدينةِ وشكاهُ إليه، فكتبَ عمرُ إلى معاويةَ ينهاهُ.
وعندما كانَ مروان بن الحكمِ واليًا على المدينة، قال في أمرٍ برأيهِ، استعملَ فيه السياسةَ الشرعيةَ، التي رآها في ذلك الوقتِ، رأى مِن المصلحةِ تقديمَ الخطبةِ في العيدِ على الصلاةِ؛ لأنه إذا صلّى أوّلًا – كما هي السنة – انصرفَ الناسُ عنه، ولم يسمَعوا خطبته، فرأَى مِن السياسةِ أن يحبسَهم للخطبةِ بتأخيرِ الصلاةِ.
فلمّا جلّس ليخطبَ قامَ له رجلٌ في المسجدِ، وقالَ: أينَ الصلاة؟ فردَّ مروان: قدْ تُركَ ما هناكَ، فقام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه – وكان مِن فقهاءِ الصحابةِ – وقالَ: أمّا هذا فقدْ أدّى ما عليهِ، فإنِّي سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (مَن رَأى منكُم منكرًا فليغيرهُ بيدِهِ، فإن لمْ يستطعْ فبلسانِهِ، فإن لم يستطعْ فبقلبِهِ، وهوَ أضعفُ الإيمانِ)، وكانَ ذلك بمحضرِ الصحابةِ، فلم يُنكروا على الرجل، ولم يقولُوا: هذا مِن السياسةِ الشرعيةِ، ويقرُّوا الأمير على مَا رَآه مِن مصلحة! بل نَهَوهُ أنْ يفعلَ، وبيّنوا لهُ الحكمَ الشرعيّ، ولم يقرُّوهُ كما أقرُّوا عثمانَ على استنباطه واستدلاله: “حدَثَ هذا العامَ طَغَامٌ، وخِفتُ أن يَسْتَنُّوا”.
وكذلكَ كان الحالُ مع الأمراءِ فيما بعدُ، لم يُنكروا على عمر بن عبد العزيز وكان فقيها، وأنكرُوا على الحَجّاجِ، أنكرَ عليه أنسُ بنُ مالكٍ، وأنكر عليه عبدُ الله بنُ عمرَ عندَما أخّرَ الخطبةَ يومَ عرفة؛ انتهرَهُ، وأمرَه بالخروجِ، وأنكروا عليهِ ما خاضَ فيهِ مِن حروبٍ وسياساتٍ، أوغَلَ فيها في الفسادِ والظلمِ، فسُنّتُهم كانتِ الإنكارَ على الأمراءِ، وتعليمَهم الأحكامَ، لا أنْ يسكُتُوا عنهمْ، ويقولوا: هذا مِن بابِ السياسةِ، وليس فيه حلال وحرام.
هذا التوضيحُ لتصرفاتِ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، في غايةِ الأهميةِ؛ لأنّه يكثرُ التشغيبُ به على غير وجهِه، ويُتناقل دونَ تبصُّرٍ، حتى جعلوه دليلًا على فصلِ ما يسمُّونَه أمورَ الدينِ عن الدولةِ، فأبطلوا أكثرَ أحكام الدين.
وترتب على ذلك في بلادنا أنه كلّما أفتَى العلماءُ في أمرٍ مِن الشأنِ العام ونوازله، التي تشيبُ منها الولدانُ، تضايقَ النخب والمشتغلونَ بالسياسةِ، وأعادُوا قضيةَ تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة إلى السطحِ، وقالُوا: لَيْسَ ما يجري في ليبيا مِن نوازلِ المفتينَ وأحكامِ الحلالِ والحرامِ.
إذا كانَ ما يجري في ليبيا الآنَ، ممّا ترتَّبَ على الاتفاق السياسيِّ الموهومِ، من تحكُّم الأجنبيّ في مصيرِ الوطن، والائتمار بأمره، وعدوان سافر بما يُشبه الغزوَ، تجسسٍ، وقصفٍ جويٍّ بالطائرات، وقتلِ الأبرياءِ، وحصار خانق للمدنيينَ في قنفودة، الأهالي يموتون منه جوعًا، وحرقِ جُثثٍ بالنارِ، وما ترتّبَ على هذا الاتفاقِ أيضًا مِن القهرِ والظلمِ والعسف، وسفكِ الدماءِ المعصومة، والمذلةِ والضياعِ، والهرجِ والمرجِ، ونهبِ الأموالِ، وتحللٍ للمؤسساتِ الخدميةِ والتعليميةِ والصحيةِ والإداريةِ، وغيرها، إذا لم يكنْ هذا كلّه يسمَّى نازلةً، تستوجبُ على أهلِ العلمِ أن يُبيِّنوا أحكامَ الشرعِ على مرتكبيها، ومَن تسببَ فيها بالدليلِ الشرعيِّ، إذا لم تكنْ هذه الطاماتُ نوازلَ؛ فليسَ في الدنيا نازلةٌ.
(المصدر: موقع الأمة)