شيفرة كورونا
بقلم د. فتحي الشوك (خاص بالمنتدى)
كائن لا مرئي لا يتعدّى حجمه بعض النّانومترات أصاب بالعجز التّام أعتى الحكومات، عزل مدنا ، دولا و قارّات، استنفر جيوشا و صار عنوان الأخبار متصدّرا الأحداث ، هو الوباء الّذي نقرأ عنه في كتب التّاريخ و خلنا أنّه صار ماضيا لن نعيشه في عصر “التقدّم” و التكنولوجيا و المعلومات لنجد أنفسنا في أتونه و قد تعرّى غرورنا و بان عجزنا أمام أصغر الكائنات.
فهل الحدث الجلل الّذي نعايشه هو مفتعل بفعل فاعل كما يميل إلى القول بذلك عشّاق فكر المؤامرات؟ أم تراه حدثا طبيعيا دوريّا لا تخلو منه أيّ من الحقبات كعلامة تنذر بأكبر التحوّلات؟
هل هو عقاب على ما اقترفت أيدينا أم تراه ابتلاء تحفيزا للنّقد الذّاتي والمراجعات؟ وهل قرأنا رسائل هذا” العدوّ” المفترض و فككنا الشّفرات؟
فيروس كورونا: ينتمي فيروس كورونا “كوفيد19” إلى فصيلة الفيروسات الكورونية أو ذات التّيجان (قطره حوالي ما بين8.58 و10.56 نانومتر) و قد عرف العالم بالخصوص نوعين منها خلال العشريتين الماضيتين ،فيروس “سارس” المتسبّب في الالتهاب التنفّسي الحاد و قد سجّلت له سنة2013 نسبة وفيات قدّرت بحوالي 16 في المائة و فيروس”ميرس” الّذي تسبّب في وفاة13 في المائة من المصابين به. وهي نسب أعلى ممّا نسجّله حاليا مع كورونا الّتي تتراوح بين 3 و5 في المائة،بل إنّ الأنفلونزا العادية تقتل سنويا ما بين 300و700ألف شخص سنويّا و هو ما يطرح تساؤلا طبيعيا حول إمكانيّة وجود تضخيم متعمّد للظّاهرة .
ظهر “كوفيد19” في الصّين في نهاية عام2019 ليربط بعضهم بروزه هناك إلى بعض السّلوكيّات الغذائية الصّينية من تناول للحشرات و الزّواحف و الخفافيش بما أنّ الفيروس كان يصيب الحيوانات حصريّا و خصوصا الخفافيش ليكتسب إمكانية إصابته للإنسان بعد طفرة جينية .
فيما قرن آخرون تفشّيه في الصّين بأنّه شكل من أشكال العقاب الربّاني على ما اقترفه الصّينيون من إجرام تجاه أقلّية الرّوهينغا المسلمة ،لنكتشف بعد حين أنّه لا يستثني أحدا و لا يميّز بين بوذي أو مسلم أو مسيحي أو يهودي أو ممّن لا ديانة له. تمكّنت الصّين من السّيطرة على الوباء نسبيّا لأسباب عدّة تعود أساسا إلى طبيعة نظامها السّياسي و الصحّي و إمكانياتها الضّخمة ،لينتشر الفيروس بسرعة مذهلة في بقيّة أرجاء العالم و يصنّف جائحة حسب منظّمة الصحّة العالمية.
أصاب الفيروس إلى حدّ الآن قرابة 218 الف شخص متسبّبا في وفاة قرابة 9000 منهم في أكثر من159 بلد،و تمثّل حاليا أوربّا و خصوصا ايطاليا بؤرة الوباء الرّئيسة حيث أصاب اكثرمن 25 ألف شخص مع وفاة 2978 منهم. في حين تتوقّع دول عدّة مثل بريطانيا و الولايات المتّحدة الأمريكية بأنّها ستشهد ذروة الوباء خلال الشهرين القادمين.
هو خطر حقيقي و داهم ربّما وقع تضخيمه و توظيفه لكن لا ينزع ذلك عنه من خطورة محدقة بصحّة الإنسان و بحياته و خطورته تكمن خصوصا في سرعة انتشاره الرّهيبة كما النّار في الهشيم، و لا يمكن من الحدّ من سرعة انتشاره إلاّ باتّباع طرق الوقاية من عزل و حجر صحّي للحالات المصابة و المشبوهة وتعقيم و غسل اليدين و اجتناب التجمّعات ،إلى حدّ عزل مدن و دول بأكملها.
كورونا أجبرت العالم على أن ينحني صاغرا لتذكّره بضعفه و عجزه و عرّت نظاما عالميا هشّا أوهن من بيت العنكبوت لترجعه إلى حجمه بعد أن استعلى و أفسد في الأرض والجوّ و البحر و كشفت ما يعتري الإنسان المعاصر في نفسه من خلل و في جسده من علل. بل كان الفضل له في أن تسقط ورقة التّوت عن البعض لتكشف ما فينا من قلّة وعي و أنانيّة مفرطة و قصر نظر في سلوكيات الأفراد أو حتّى الدّول فايطاليا مثلا و هي العضو في الاتّحاد الأوربي تركت تواجه مصيرها و لم تجد معينا سوى مددا من الصّين، و ترامب رئيس أعظم دولة في العالم منتش بامتلاء خزّاناته بالنّفط بعد تدهور سعره و لا يهمّه من كورونا سوي أن يكون اللّقاح أمريكيا عسى أن يضمن له ذلك فترة أخرى للجلوس على كرسي استطابه و كأنّه أصيب بعدوى من يستحلبهم، و هو لم يخجل في أن يبتزّ شركة ألمانية تعدّ اللّقاح منذ يناير الماضي من أجل أن يستأثر به لوحده لغاية في نفس يعقوب. اعرف عدوّك: أصاب “كوفيد19” بعض الآلاف من البشر إلى حدّ الآن متسبّبا في وفاة أقلّ من5 في المائة منهم و هي نسبة أقلّ من تلك الّتي تسبّبها الأنفلونزا العادية و أقلّ بكثير ممّا تسبّبه الحروب وقمع و تقتيل الشّعوب و الجوع و الفقر و حوادث الطّرقات .
فيروس كورونا كائن ميكروسكوبي بلا عقل و لا إدراك ،له بعض الحميضيات النّوويّة الّتي تنظّم شأنه و الّتي استثيرت لتنتج خاصيّة جديدة تأقلما مع استثارة خارجية مصدرها الإنسان ذو العقل و الإدراك. وإذا كانت آلة القتل البشريّة تميّز طبقة أو عرقا أو دينا لأجل غاية و في بعض الأحيان استمتاعا فان هذا الفيروس يبدو أكثر لطفا و عدلا و أقلّ شراسة من الفيروسات البشريّة الّتي ظهرت في عصر التوحّش و الملاحظ أنّ المتضرّر الرّئيس من الفيروس الطّبيعي حاليا هو عصب المنظومة العالمية المتوحّشة ،نزيف حادّ و انهيار قياسي في البورصات العالمية تجاوز20 في المائة في بضعة أيّام وشلل شبه تام أصاب المحرّك بعطب يصعب إصلاحه على المدى القريب.
“كوفيد19” أغلق الأجواء جوّا برّا و بحرا كما أغلق المسجد و الملهى، بيت الصّلاة و بيت البغاء،و استهدف الحاكم و المحكوم، الغنيّ و الفقير ، المرميّ في ركن النّسيان والمشهور ،و هو ما يجعلنا نتوقّف للمراجعة و التأمّل لنتساءل هل العيب فيه أم فينا أم ذاك ما كسبت أيدينا؟ هو شعور بالتّهديد الوجودي و كأنّنا في قيامة صغرى ،تذكير بالموت و حتمية النّهاية و برهان على ضعفنا و عجزنا أمام عظمة الكون في مواجهة أصغر كائنات فيه فهل استخلصنا العبر و فككنا شفرة جملة الرّسائل المحمّلة على ظهر هذا الكائن؟
أغلب علماء الكوكب منشغلون لأجل إيجاد لقاح لهذا الفيروس و حتما سيتمكّنون من ذلك في المدّة القادمة لكن ما الضّامن لعدم ظهور فيروسات أخرى ربّما تكون أكثر شراسة؟و ما المانع من حصول طفرات جينية أخرى هي نتيجة طبيعية لعبث الإنسان و ابتعاده عن الفطرة؟ كرونا كشف خلل المنظومة العالمية المعولمة الفاسدة المفسدة المنتجة للفساد و لا خلاص حقيقي إلاّ بمراجعة لأسلوب و فلسفة الحياة و إصلاح جذري هدفه الإنسان. ما بعد كورونا عافانا الله و عافاكم منها لن يكون كما قبلها،و تحديد ذلك سلبا أو إيجابا مرتبط بما سنستخلصه من دروس خلال و بعد الأزمة، فهل سنقتنع يوما بأنّ كلّ طفرة ما هي إلاّ نتيجة سببيّة مباشرة لابتعادنا عن الفطرة و هل سنكتشف حقيقة حجمنا و ضعفنا و ضرورة أن نتناغم مع تلك الفطرة؟