شيعة سوريا.. ودور الأسد وإيران في صعودهم
بقلم عبد الحليم عباس
في عام ٢٠١٦، وبينما كان السيد محمد علي المسكي رئيس مجلس الإفتاء الجعفري الأعلى في سوريا يزور منطقة المزرعة ذات الغالبية الشيعية في محافظة حمص للوقوف على مطالب أهلها واحتياجاتهم، كان حي الوعر المحاصر والقريب من المزرعة يتعرض لقصف عنيف من قوات النظام والمليشيات الشيعية التابعة له. طرح التزامن بين هذين الحدثين بكل ما يحملانه من تناقضات تساؤلات جدية عن سبب صمود الطائفة الشيعية التي لا يتعدى أتباعها بضعة عشرات من الآلاف واستقوائها على سنة سوريا الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من التعداد السكاني للبلاد.
وعلى الرغم من أن صعود شيعة سوريا وفرض أنفسهم علناً كعنصر مؤثر في الصراع العسكري والسياسي كان قد تزامن مع بداية الثورة السورية وما رافقها من تحالف وثيق بين نظام الأسد وإيران، إلا أن التأسيس لكيانهم والتمهيد لهم سراً كطائفة وازنة ومؤثرة كان قد بدأ إبان وصول حافظ الأسد إلى السلطة. وعليه فإنه يمكن اعتبار الثورة السورية حداً فاصلاً بين مرحلتين من مراحل صعود الطائفة الشيعية في سوريا. مرحلة ما قبل الثورة (سيخصص هذا المقال لشرحها) وأخرى ما بعدها (سيتم بحثها في مقال آخر).
كان انتماء حافظ الأسد إلى الطائفة العلوية أحد أكبر مهددات استقرار حكمه الناشئ. ففضلاً عن كونها أقلية لا تزيد نسبتها عن تسعة بالمائة من مجموع السكان، فإن الطائفة العلوية لطالما نظر إليها من قبل الأكثرية السنية على أنها طائفة خارجة عن إجماع المسلمين. وعليه ومن أجل تنسيب نفسه وطائفته للإسلام، فقد عمل الأسد على إحداث تقارب بين العلويين والشيعة مستغلاً وجود مشتركات عقدية عديدة بينهما ومستفيداً من جهل جل السوريين آنذاك بالعقيدة الشيعية وأتباعها الذين كان تعدادهم في سوريا حينها لا يتجاوز بضعة آلاف. بدأت جهود الأسد تؤتي أكلها مع زيارة الزعيم الشيعي البارز موسى الصدر لسوريا ولقائه مشايخ العلويين في جبال اللاذقية تمهيداً لفتوى أصدرها لاحقاً مع المرجع آية الله الشيرازي تقضي بأن العلويين مسلمون ينتسبون إلى المذهب الشيعي الإثني عشري.
من أجل توسيع دائرة ارتباط العلويين بالشيعة، قام جميل الأسد شقيق الرئيس السوري آنذاك وبدعم إيراني بتأسيس جمعية المرتضى بهدف نشر التشيع بين علويي الساحل. فكان أن ابتعثت الجمعية مئات العلويين إلى قم الإيرانية لدراسة العقيدة الإثني عشرية، على أن ينشروا تعاليمها بين أهلهم وأصدقائهم لدى عودتهم إلى مناطقهم. تزامن ذلك مع أمرين هامين، أولهما قيام الجمعية ببناء عشرات الحسينيات في جبال اللاذقية التي لم يكن فيها سوى مزارات وأضرحة علوية، وثانيهما استقدامها أئمة شيعة ليتولوا إمامة مساجد العلويين كما حصل في مسجد فاطمة الزهراء أكبر مساجد العلويين في مدينة بانياس.
بعد أن ضمن تقبلاً نسبياً لنشر المذهب الشيعي في طائفته، بدأ حافظ الأسد بالعمل على توسيع دائرة التأثير الشيعي لتشمل المسلمين السنة -المكون المذهبي الأكبر في سوريا- مستغلاً دعم إيران التي وجدت في توجهات الرجل فرصة لتأسيس نفوذ أيديولوجي لها في سوريا أسوة بالعراق ولبنان. ومع إدراك الأسد لخطورة العبث أو محاولة التأثير على عقيدة الأكثرية السنية وما ينطوي على ذلك من استفزاز المرجعية الدينية للمسلمين السنة، فقد كانت الخطوات التي اتخذها الرجل تتسم بالتأني والتدرج والابتعاد الظاهري عن النفس الطائفي والحرص على إلباس الدعوة الشيعية لباس الإسلام الجامع والعابر للطوائف والمذاهب. فكان أن خُصص لأئمة شيعة من أمثال عبد الحميد المهاجر وعبد الزهراء العراقي سواء على التلفزيون الرسمي أو عبر الإذاعة، برامج أسبوعية دعوية لا تختلف في ظاهرها عن المألوف إلا في مغالاتها في مدح آل البيت والتذكير بفضائلهم وكراماتهم وضرورة التقرب إلى الله بحبهم.
كان ذلك في الإعلام، أما على الأرض فقد بدأت جمعية المرتضى بإيعاز من الأسد وبدعم مالي من إيران بافتتاح فروع لها في معظم المناطق السورية متخذة من العمل الخيري والخدمة المجتمعية وسيلة لجذب الطبقة المعوزة من المسلمين السنة. كما قام حافظ الأسد بدعوة العالم الشيعي البارز محمد حسين فضل الله لافتتاح مكتب تمثيل له في حي السيدة زينب بدمشق. عمل هذا المكتب كمركز تواصل بين سكان المنطقة بغالبيتهم الشيعية وبين مؤسسات الدولة بغية تلبية احتياجاتهم والوقوف على مطالبهم. لكن الدور الأهم الذي أنيط بمكتب السيد فضل الله هو دعوة العوائل ذات الأصول الشيعية إلى العودة إلى تشيعها بعد أن تبنت العقيدة السنية منذ مئات السنين متأثرة بالأكثرية الساحقة التي عاشت في وسطها.
لئن غلبت السرية والحذر وتجنب مواجهة السنة على سياسة الأسد الأب في تقويته للأقلية الشيعية، فإن سياسة ابنه جاءت معاكسة تماماً إن لجهة علانيتها وتسارع وتيرتها أو استفزازها للأكثرية السنية. تعاكس يمكن رده إلى تغير طبيعة العلاقة بين سوريا وإيران والتي أصبحت في عهد بشار الأسد أقرب ما تكون إلى التبعية بعدما كانت علاقة تحالف ندي في عهد حافظ الأسد. وبناءاً عليه فقد أمسكت إيران كلياً بملف الشيعة السوريين ونشر الفكر الشيعي في حين انحصر دور الأسد بتنفيذ سياساتها وتوفير مناخ ملائم لأجنداتها.
شهدت السنوات الأولى لحكم بشار الأسد حملات تشييع منظمة في صفوف عوام السنة قادتها آنذاك السفارة الإيرانية في دمشق وملحقيتها الثقافية في حلب مستفيدة من التسهيلات الممنوحة لها من الحكومة السورية والتي سمحت لها ببناء مشفى مجاني وترخيص جمعيات خيرية سهلت تزويج المستهدفين بالتشيع ومدت العوائل الفقيرة بمساعدات شهرية مادية وغذائية كالسمن والزيت والطحين والسكر. كما استحصلت السفارة الإيرانية على تراخيص بناء كلية لتدريس العقيدة الإثني عشرية في مدينة الطبقة، في الوقت الذي كان فيه كليتان فقط تدرسان الشريعة الإسلامية السنية في سوريا كلها.
لعب استثمار النظام السوري ومعه إيران لما أعتبر انتصار لحزب الله في حربه مع إسرائيل عام ٢٠٠٦ دوراً محورياً في تزايد أعداد المتشييعين من المكون السني. وقد بدا واضحاً أن كثيراً من السوريين ينظرون إلى الحزب وزعيمه نصر الله بكثير من الإعجاب وإلى التشيع بكثير من الإيجابية باعتبار أن الإنتصار المزعوم الذي تحقق ما كان له أن يكون لولا العقيدة الحقة والإيمان الصحيح.
عملت إيران بمساعدة الأسد على استمالة شخصيات مرموقة مؤثرة من أجل تسويق الفكر الشيعي في أوساط الأكثرية السنية، كمفتي سوريا أحمد حسون ووزير أوقافها عبد الستار السيد. وقد كان لشيوخ العشائر في مناطق الشمال والشمال الشرقي النصيب الأوفر من ثمرات التقارب مع إيران التي أغدقت عليهم الأموال والعطايا مقابل سيرهم في ركبها وترويجهم لفكرها مستغلة قوة العامل القبلي ورمزية شيخ العشيرة ونفاذ تأثيره على أبناء عشيرته. فبنيت الحسينيات في دير الزور والرقة وأريافهما التي أصبحت مقصداً لحملات تبشيرية شيعية مستترة بقناع العمل الخيري ومستفيدة من انتشار الجهل والفقر وتبعية العوام العمياء لزعماء عشائرهم. كان اللافت أيضاً تعيين بشار الأسد لشخصيات شيعية في مناصب مرموقة كوزير الإعلام مهدي دخل الله ورئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار.
يقدر المختصون نسبة السوريين الشيعة الآن بحوالي إثنين بالمائة من مجموع السكان بعد أن كانت نسبتهم لا تتجاوز واحد بالمائة مع بداية حكم حافظ الأسد. وبغض النظر عن الأرقام فإن واقع الحال يثبت أن عمليات نشر الفكر الشيعي، والتزاوج المصلحي والتقارب العقدي المصطنع بين الطائفتين الشيعية والعلوية قد ضمن للأولى نفوذاً سياسياً وللثانية غطاءاً إسلامياً الأمر الذي أثمر تحالفاً وثيقاً بينهما في الحرب السورية ضد المعارضة السنية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)