شيخ الأزهر وصفقة الغبن
بقلم د. محمد الصغير
بركة مصاحبة الكبار والعيش في كنف ما سطرته تجاربهم، وما جادت به قرائحهم تجعلك تجد عندهم الحل لكل عويصة حلت أو شاردة ألمت…
تملكتني الحيرة ولم تسعفني الفكرة في إدراك سبب قول الأوائل: “الإنصاف عزيز” ومعرفة أسباب هذه الندرة.
وبينا أنا أسبح في فضاء الأستاذ عباس العقاد الفسيح، وعبقرياته المتجددة، إذا به يكتب إجابة سؤالي، وكأنه سمع كلامي، فيقول في كتابه (أنا) الذي أودعه تجاربه في الحياة وطريقته في التعامل مع الناس:
(لا تطمع في الإنصاف من الناس إذا كان فيه خسارة لهم أو معارضة لهواهم، وإلا فقد طلبت الكثير الذي ما بعده كثير..
هم منصفون إذا لم يكلفهم ذلك شيئا، ولم يصدمهم في أهوائهم، ولقد رَضّيتُ نفسي بهذه الحقيقة وتعودت منهم مجافاة الإنصاف، حتى كدت أشعر بخيبة الرجاء إذا وجدت أحد المنصفين.)
فعلمت أن الأمر قديم، ورضيت نفسي كذلك، لأن المصيبة إذا عمت خفت، وإذا هالت هانت.
وإن الإنصاف في التعامل مع شيخ الأزهر الشريف وهو يدافع عن حياض الشريعة، ويحاول منع تغول العلمانية، ويقف حائط صد في معركة الهوية، ومحاولة التبشير بالحداثة التي تقوم على هدم الثوابت، والثورة على التراث الإسلامي ونعته بأنه سبب تخلف الأمة ووهدتها، وذهاب حضارتها وجدتها!
حيث جلس د. محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة في مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد مزهوا بالحكم القضائي الذي حصل عليه قبل أربع وعشرين ساعة بمنع ارتداء النقاب داخل الجامعة، وقرر أن يكسب جولة جديدة داخل المعهد العريق، والمسجد العتيق، وفي وجود إمامه وشيخه! فلقنه شيخ الأزهر درسا في قواعد البحث، وأصول التعامل مع الأصول والثوابت، وأن الأفكار المرتبكة لا ينبغي أن تزاحم الأسس الراسخة، وأقام عليه الحجة من كلامه، وأتى على أساس فكره وبنيانه، كما أكد شيخ الأزهر على رفضه القاطع للعبث بمقدسات المسلمين، وأعلن رفضه مبكرا لما بات يعرف بصفقة القرن حيث قال في ذات الجلسة: “أشعر بمنتهى الخزي وأنا أرى مستقبل المسلمين ومقدراتهم يقررها ويخطط لها ترمب مع نتنياهو، والأمة الإسلامية في مقاعد المتفرجين!
ونحن إزاء هذا الكلام أمام موقف من اثنين: أن نعضد موقف الشيخ الطيب ونثمن ما فعله، وإن اختلفنا معه في مواطن أخرى…..
أو أن نفت في عضده، ونهون من عزيمته، ونبقى أسرى شبهات ليس عليها دليل، وأقوال مرسلة ليت من دأب على تردادها عمد إلى الاستيثاق والتمحيص، قبل التشويه والتبخيس.
وقد كتبت في مقال سابق عن الأدلة الموجودة صوتا وصورة ،التي تؤكد أن شيخ الأزهر لم يوافق على الانقلاب العسكري، وإنما قبل الاحتكام للشعب عبر انتخابات رئاسية مبكرة، وأصدر بيانا ضد سفك دماء المسلمين أمام الحرس الجمهوري، كما سعى بكل قوة لمنع مزيدا من المجازر وتواصل معي من طرفه من يطلب مني تكاتف الجميع في سبيل تحقيق ذلك. وبعدما وقعت المصيبة وحدثت المجزرة في رابعة العدوية أعلن براءته من ذلك واستنكاره له، أما من يقول لماذا بقي في منصبه في وجود هذا النظام؟
والجواب أنه كان شيخا للأزهر قبل الثورة، وقبل النظام وجرائمه، وهذه أمانة في عنقه لو تخلى عنها لحل فيها من يسارع في هواهم، ويفعل كل شيء في سبيل رضاهم، وما الذي نراه في وزارة الأوقاف ودار الإفتاء منا ببعيد!
لكن الذين هاجموا شيخ الأزهر نهارا أكمل مسيرتهم إعلام السيسي ليلا! فكيف ساغ لهؤلاء أن يكونوا في صف واحد مع عمرو ولميس، والباز وخميس؟! أولئك الذين أدركوا خطورة كلمات شيخ الأزهر على مشروع التغريب الذي يجري على قدم وساق.
يا عزيزي الإنصاف عزيز، والانتماء حجاب، وهوى النفس يجعل صاحبه لا يضع الأمور في نصابها، والأولى عدم خلط العواطف بالمواقف، فليس من الكياسة التعامل بالعموم في عالم السياسة، وإن الشأن العام ينبغي أن تدرس ملفاته بالقطعة لا بالجملة، فلكل مقام مقال ولكل حدث حديث….
وكأن المطلوب من شيخ الأزهر بما أنه ليس في معسكرنا، ولا يلتزم طريقتنا فالأحرى به السكوت عن جريمة العبث بالطلاق الشفهي، وتمرير تقييد سن الزواج وتغيير أحكام الأسرة، وعدم الانتصار لمكانة السنة، ومباركة تغيير الهوية وخلخلة الثوابت تحت مسمى الحداثة وفرض العلمانية العسكرية!
ولو فعل ذلك لتعالت نفس الأصوات التي تمنت عثاره: أين الأزهر الشريف وشيخه من حراسة الدين والدفاع عن الشريعة؟
لكن هؤلاء لا يرون حلا إلا في استقالة الشيخ وتقاعده، مع أنني أشهد أن رموزا وأساطين ممن تقلدوا أرفع المناصب، وشغلوا أعلى الوظائف في فترة حكم الرئيس الشهيد محمد مرسي “رحمه الله” رجعوا إلى وظائفهم وأعمالهم الأولى، ويعيشون حياة عادية في كنف النظام الحالي – ولا أثرب عليهم في ذلك- لكنني أُذكِر بعدم الكيل بمكيالين، ووجوب الوزن بكلتا الكفتين، وعدم النظر بعين واحدة، فانتبهوا يا أولي الأبصار.
(المصدر: الجزيرة مباشر)