شيخ أحمد الفكي آدم … نادرة الزمان وعلامة أم درمان
بقلم د. محفوظ خيري
العالم الفقيه المفسر المحدث المفتي علامة عصره وفريد دهره ووحيد مصره كرما ونبلا وسخاء ومعرفة، لم أستحضر سيرته يوما إلا تذكرت الحديث عن الصادق المصدوق: “مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ” [البخاري].
لقد كان الشيخ من المناهل بل الموارد العذبة التي نفع الله بها عباده؛ فقد كان وعاء من المعرفة والعلم موسوعة ضخمة في شتى الفنون والمجالات، دروسه أشبه بالحدائق الغناء التي ينهل فيها طالب المعرفة من كل فن وعلم، فهي تحوي إلى جانب نوادر العلم ونكته تجارب الحياة وفقه الواقع، وإذا تكلم في فن تحسب أنه لا يتقن سواه لكثرة ما يعرف من تفاصيله وما يسرد من استقصاء جزيئاته، فبالرغم من تخصصه الدقيق في تدريس الفروع الفقهية من الموسوعات الضخمة المتخصصة فيها على مذهب مالك والشافعي وتتبع دقائق التفاصيل والمرجحات للأقوال المشهورة في كل الكتب المعتمدة تقريبا، رغم ذلك كله كان شديد التركيز على حفظ القرآن أولا والاهتمام بعلومه ودراسة متون السنة النبوية ومصطلحها، ولا أعرف أحدا لازم الاشتغال عليه لطلب الفقه إلا وأصبح يحفظ القرآن أو جله لكثرة ما كان يرغب في ذلك.
نفع الله به أمما من المشتغلين بعلوم الشريعة فلقد كانت دروسه عامرة بأذكياء المتعلمين الذين أصبحوا يضربون إليه أكباد الإبل من داخل دولة السودان وخارجها؛ من دولة تشاد والكاميرون والنيجر وغيرها، كان أكثر ما يدرس الفقه حتى مستويات التخصص العليا، وسمعته مرة يقول: إنه قرأ من شروح مختصر خليل بن إسحاق المالكي ما يصل مجموعه إلى نحو 50 مجلدة، وكان مهتما بتدريس الفرائض على مذهب الشافعية، والحديث وعلم مصطلح الحديث، وتفسير القرآن الكريم، وقد عكف في العقد الأخير من حياته على تدريس الموسوعات الضخمة في التفسير مثل تفسير القرطبي وغيره.
من أكثر المشايخ الذين كان لهم أثر بارز في حياته الشيخ العلامة: يوسف إبراهيم النور، والشيخ: محمد الحسين بن حبيب الرحمن الشنقيطي والأستاذ: محمد نجيب المطيعي، إضافة إلى عدد كبير من العلماء والمثقفين الألى كانت تجمعه بهم محاورات ومناظرات علمية وصداقات معرفية تزخر بالإفادة والاستفادة.
كان يبذل جهودا منقطعة النظير لتعليم العلم ونشره بين الناس حتى إنه ليقطع المسافات الطويلة التي تصل أحيانا إلى أكثر من 50 كيلو جيئة وذهابا بعضها راجلا وبعضها في المركبات العامة لإقامة الدروس حبا في نشر العلم وتفانيا في بذل الخير، وقد حدثت له مرة حادثة عجيبة تدل على تفانيه في بذل العلم حيث أنه بعد أن اتسع المجلس بطلابه وشرع يبتدئ درسه كالمعتاد قدم إليه قادم ليخبره بوفاة ابنه الصغير؛ فقام إليه بكل رباطة جأش وجهزه ودفنه ثم رجع إلى المجلس وأقام درسه ذلك اليوم وأصر على ألا يؤجل؛ هذا مع ما كان عليه رحمه الله من رقة وحنو وعاطفة جياشة تفيض حنانا على أبناءه وتلامذته.
كان يرعى طلاب العلم الرعاية التامة؛ يبذل لهم داره وماله ووقته وعلمه بل يقدم لهم حتى الرعاية الصحية والقانونية إن لزم الأمر دون من ولا أذى، لا ينتظر شكرا ولا جزاء من أحد.
فَتىً يَفعَل المكرمات الجِسام … وَيسترهن بِطَرف حَييّ
وافته المنية صبيحة يوم الاثنين 26/11/1437هـ الموافق له 29/08/2016م بالضاحية الشمالية لمدينة أم درمان بعاصمة السودان الخرطوم وقد وقع نبأ وفاته علي كالصاعقة ومن العجيب أنه توفي مع أخي بشير ولد خيري وابني أخي في أسبوع واحد وقد كان البشير أحد تلامذته، فكانت أياما عصيبة علي ،وكانت آلامها مضاعفة بفقد الشيخ ،خاصة وأني كنت أحضر لزيارة للسودان أستصحب له معي فيها نوادر من تراث المدونات الفقهية في المذهب المالكي وخصوصا كتاب: ميسر الجليل في شرح مختصر خليل لمحنض بابه بن عبيد الديماني الشنقيطي والذي كانت تتوق إليه نفسه كثيرا، رحم الله الشيخ أحمد الفكي وجزاه على ما قدم الحسنى وزيادة:
لو كان يندفع القضا لتدافعت … عُصَبٌ تقيك الحتف في مهجاتها
أو كان تطفي الوجد زفرة واجد … لقضت عليك النفس في زفراتها
حسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون
نعم لو كان يعلم من نعاه … نعي فضلاً وعلماً مستفادا
نعي حصناً منيعاً بل وخصباً … ربيعاً بل نعى الشرف التِّلادا
(المصدر: إسلام ويب)