شهادة يعقوب والفهم المقلوب (2)
بقلم د. عطية عدلان
هل كان الشيخ يعقوب مُكْرَهًا مُضطرا؟ وإذا كان كذلك فهل له رخصة يُعذر بها حال كونه من الرموز المؤثرة في الشباب ومن النماذج التي يقتدى بها؟ قد يكون هذا وذاك صحيحاً، ولكن صحة هذا أو ذاك لا تمنع من وجوب بيان الحقّ فيما قاله وشهد به؛ وإلا انسحبت الرخصة فشملت أقواله معه، وهي أقوال باطلة ظاهرة البطلان، فوجب – إذْن – البيان، ولاسيما مع عَلَمٍ بَارز يأخذ الناسُ منه وينقلون عنه، هذا البيانُ لا علاقة له بموقف الشيخ أمام الله تعالى؛ فهذا لا شأن لنا به، ولا نتألى على ربنا فيه، ونسأل الله لنا وله ولسائر المسلمين العفو والغفران.
ولا أحسب الشيخ يجهل حكم الطائفة الممتنعة، وإن كنت لا أتهمه بالكذب، ولكنّ المراوغة في مثل هذه المواقف ليست من سمت الربانيين، وحكم الطائفة الممتنعة واردٌ ليس في فتاوى ابن تيمية وحسب، وإنّما هو حكم شائع الذكر في كتب أهل العلم من كافّة المذاهب، بل إنّ وجوب قتال الطائفة الممتنعة من المسائل المجمع عليها، ومستند الإجماع قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، الذي أجمع عليه الصحابة بعد اختلافهم وتحاورهم فيه، مع قول الله تعالى من سورة البقرة: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 279).
عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: “بلغنا والله أعلم أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكانت بنو المغيرة يُرْبُون لثقيف، فلما أظهر الله تعالى رسوله على مكة، وضع يومئذ الربا كله، فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى (عَتَّاب بن أسيد) وهو على مكة … فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أن لنا رِبَانَا، فكتب عَتّاب في ذلك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنزلت هذه الآية والتي بعدها: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} فعرف بنو عمرو أنْ لا يَدَ لهم بحرب من الله ورسوله”([1])، أي لا قدرة لهم على حر الله ورسوله.
فالآية الكريمة آذنت الممتنعين عن تحريم الربا بالحرب، قال العلماء: “وذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله، كالباغي، ولا يقتضي كفره”([2])، وأورد ابن كثير الخبر الذي رواه ابن أبي حاتم بسنده عن الحسن وابن سيرين، أنهما قالا: “والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وضع فيه السلاح”([3]).
وهذا الموقف العمليّ لا يشترط له أن يكون الممتنعون منكرين لحكم تحريم الربا، وإنّما مجرد الامتناع عن تنفيذ الحكم الشرعيّ هذا يكفي لاستباحة قتالهم وإن لم يكفروا بإنكار المعلوم بالضرورة، يقول الإمام أبو بكر ابن العربيّ: “قال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279]. فإن قيل: ذلك فيمن يستحل الربا قلنا: نعم، وفيمن فعله، فقد اتفقت الأمة على أن من يفعل المعصية يحارب، كما لو اتفق أهل بلد على العمل بالربا، وعلى ترك الجمعة والجماعة”([4]).
ويقول الإمام الجصاص: “فالمقيم على أكل الربا إن كان مستحلا له فهو كافر، وإن كان ممتنعا بجماعة تعضده سار فيهم الإمام بسيرته في أهل الردة، إن كانوا قبل ذلك من جملة أهل الملة، وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غير مستحلين له قاتلهم الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا، وإن لم يكونوا ممتنعين ردعهم عن ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا”([5])، فهو هنا فرق بين المستحل وغير المستحل في الحكم بالردة، فالمستحل مرتد بخلاف من لم يستحل، بينما لم يفرق بينهما في وجوب قتالهم، وهذا مما لا خلاف فيه.
وليس الأمر قاصرا على الامتناع عن تحريم الربا فقط، وإنّما يمتد ليشمل الامتناع عن أيّ شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فالقرآن توعد بالحرب الممتنعين عن تحريم الربا، “وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوعد الله عليها العقاب إذا أصر الإنسان عليها وجاهر بها، وإن كان ممتنعا حورب عليها هو ومتبعوه وقوتلوا حتى ينتهوا، وإن كانوا غير ممتنعين عاقبهم الإمام بمقدار ما يرى من العقوبة”([6])، فالشرط فيها أن تكون من المعاصي التي توعد الله عليها بالعقوبة، إضافة لشرط الظهور.
وقد توسع واستطرد شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان هذا الحكم في كثير من فتاويه، ولاسيما تلك التي تتعلق بالحكم على التتار بعد أن أظهروا إسلامهم وامتنعوا عن كثير من أحكام الإسلام، فأفتى بوجوب قتالهم على فرض أنّهم مسلمين؛ لكونهم – فقط – امتنعوا عن بعض شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، يقول رحمه الله تعالى في صدد الإجابة على سؤال ورد عن هؤلا التتار واستشكال الناس لقتالهم بعد إسلامهم: “يجوز بل يجب بإجماع المسلمين قتال هؤلاء وأمثالهم من كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، مثل الطائفة الممتنعة عن الصلوات الخمس أو عن أداء الزكاة المفروضة إلى الأصناف الثمانية التي سماها الله تعالى في كتابه، وعن صيام شهر رمضان أو الذين لا يمتنعون عن سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم، أو لا يتحاكمون بينهم بالشرع الذي بعث الله به رسوله”([7])، وساق بعد ذلك الآية من سورة البقرة، وكذلك استشهد بقتال أبي بكر لمانعي الزكاة.
ومن الواضح من سياق قصة قتال مانعي الزكاة أنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكفرهم، فقد روى البخاريّ ومسلم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ “، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: «فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ»([8]).
وقد استفاض شيخ الإسلام في بيان حقيقة هذا الحكم وفي إسقاطه على الواقع الذي كان يحياه المسلمون في أيامه؛ فقال: “فإن التتار يتكلمون بالشهادتين، ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين، وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة … فإنه يجب قتالها، فلو قالوا: نشهد ولا نصلي قوتلوا حتى يصلوا، ولو قالوا: نصلي ولا نزكي قوتلوا حتى يزكوا، ولو قالوا: نزكي ولا نصوم ولا نحج، قوتلوا حتى يصوموا رمضان ويحجوا البيت. ولو قالوا: نفعل هذا لكن لا ندع الربا، ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى، ونحو ذلك؛ قوتلوا حتى يفعلوا ذلك”([9]).
فالحكم الثابت المجمع عليه ينصّ على أنّه: (أيما طائفة ذات شوكة ومنعة امتنعت عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة حال كونها طائفة ذات شوكة ومنعة؛ فإنّها تُقَاتَلُ على ذلك، وإن كانت تنطق بالشهادتين) وهذا الحكم ليس فيه خلاف بين العلماء من كافّة المذاهب، السلف والخلف منهم على حدّ سواء، ولا يشكك في هذا الحكم إلا جاهل أو جاحد، والله تعالى أعلم.
([1]) أسباب النزول أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري (ص: 93)، تفسير الطبري = جامع البيان (6/ 23)
([2]) تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 163)
([3]) تفسير ابن كثير ط العلمية (1/ 554)
([4]) أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (2/ 94)
([5]) أحكام القرآن للجصاص ط العلمية (1/ 572)
([6]) أحكام القرآن للجصاص ط العلمية (1/ 571)
([7]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 473)
([8]) صحيح البخاري (9/ 93) – صحيح مسلم (1/ 51)
([9]) مجموع الفتاوى (22/ 51)
(المصدر: رسالة بوست)