مقالاتمقالات مختارة

شهادة الشيخ محمد حسين يعقوب ومحاكم التفتيش

شهادة الشيخ محمد حسين يعقوب ومحاكم التفتيش

بقلم راغب طاهر

تلك محاكم تفتيش حقيقية، مثل سابقتها في مأساة الأندلس القديمة.

فلم يأتوا بالشيخ يعقوب ليسألوه شاهدا على حادثة بعينها، ولا على متهمين بعينهم، ولكنهم أتوا به مجبورا من أجل أن يسألوه عن قناعاته هو الشرعية والفكرية، وفي ذلك السياق كانت الأسئلة الموجهة إليه.

جاءوا به مجبورا مفزوعا، ليقول ما يريدونه أن يقوله، وإلا فإنه ليس مستبعدا أن يكون مصيره كمصير عشرات الآلاف من المعتقلين ومئات المقتولين وعشرات المعدومين، لا لشيء إلا لآرائهم وقناعاتهم الشرعية والفكرية.

الشيخ يعقوب يمثل لنا تيارا سلفيا علميا دعويا، يتميز عن تيارات سلفية أخرى جهادية ومدخلية وبرهامية وحركية.

الجهادية التي رفعت السلاح في وجه الأنظمة وفي وجه الصليبية العالمية، والمدخلية التي انبطحت للأنظمة وسبحت باسمها إلى درجة تقترب من عبادتها، والبرهامية (نسبة لحزب النور وللشيخ ياسر برهامي في مصر) التي لحقت بالمدخلية وأصبحت لا تقل عنها تسبيحا باسم الأنظمة وعبادة لها، والحركية التي تعتمد العمل الجماعي السياسي من أجل إصلاح الأمة وحكامها.

يمثل الشيخ يعقوب التيار السلفي العلمي الدعوي من بين هؤلاء، وهو تيار له باع كبير في نشر الدعوة بين العوام، ونشر العلم الشرعي بين الشباب وطلبة العلم منهم خاصة. وهذا التيار له وعليه كما بقية التيارات والجماعات.

وأكبر ما عليه، هو ما نعاني منه دائما من سكوت أقطابه عن قضايا الأمة الكبرى، وخصوصا السياسية منها، وعدم تبنيهم لمواقف قوية فيها.

وأصدق ما قيل في أقطاب هذا التيار ما قاله الشيخ المجاهد حازم أبو اسماعيل_فك الله أسره_ عندما قال (خذوا من هؤلاء الشيوخ والدعاة دينكم، ولا تنظروا لآرائهم ومواقفهم في القضايا الفارقة في حياة الأمة).

وبرغم ذلك، فالشيخ محمد حسين يعقوب خاصةً من بين أقطاب هذا التيار كان له موقف واضح من الانقلاب على حكم الإخوان في مصر، فقد عارضه، وأيد المعتصمين في رابعة، ودعا لهم على المنبر، وسماهم بالمرابطين.

لو أن شيوخ وعلماء ودعاة التيار السلفي، كانوا قد وقفوا مع الإخوان في معركتهم مع الانقلاب العسكري كما ينبغي أن يقف أهل الفكرة الإسلامية جميعا في مواجهة الانقلابيين الذين اصطف معهم العلمانيون والنصارى والفاسدون والمنحلون، لربما تغيرت الصورة.

فعلماء ودعاة وشيوخ التيار السلفي لهم مريدون وأتباع بمئات الآلاف، فإذا ما ناصر هؤلاء الإخوان ومؤيديهم الذين يعدون أيضا بمئات الآلاف، لربما تغيرت الصورة، وتوقفت هذه الكثرة في وجه الانقلابيين واستعصت على الكسر، وكانت الغلبة لهم.

الصورة العامة لما حدث في شهادة الشيخ يعقوب أمام المحكمة، صورة شيخ كبير خائف من ظلم الظالمين، الذين يتحينون الفرص للإجهاز على كل رموز الدين وعلاماته في المجتمع.

وبذلك، فإني أرفض الحملة الشديدة على الشيخ يعقوب من بعض أفراد الحركات الإسلامية.

فالصورة الظاهرة في مشهد المحاكمة، صورة شيخ خائف، لكنه برغم خوفه يأبى أن يعطي الظالمين ما يريدونه من آراء وفتاوي، من أجل أن يعتمدوا عليها ليقتلوا بها من يقتلون، ويعدموا بها من يعدمون.

الشيخ يعقوب حاور وناور واستخدم التقيّة واللعب بالكلام، من أجل أن لا يعطيهم ما يريدونه، ولا يورط نفسه معهم كذلك.

وإن كان الشيخ لم يقل كلمة الحق صادحة قوية زاعقة، فهو كذلك لم يعطهم كلمة مؤيدة لباطلهم وظلمهم.

وأذكر هنا كلمة للشيخ المجاهد الداعية السلفي الدكتور محمد عبد المقصود، الذي وقف مع الثورة وضد الانقلاب من أول المعركة إلى آخرها، أذكر له قوله (لا تقسوا على من سكت من العلماء والشيوخ، فهؤلاء معذورون بخوفهم، ولكن اقسوا واقسوا على من وقف مع الباطل منهم).

وبرغم أننا عتبنا على من سكت منهم، وما زلنا نعتب عليهم، إلا أننا نعتب عليهم يوم أن سكتوا والمعركة حامية الوطيس بين فريقي الحق والباطل، أما وقد انتهت المعركة، وسُحق أهل الحق سحقا، فلا عتب على سكوتهم الآن، فلا يُنتظر إن هم تكلموا الآن إلا أن يسحقوا كما سحق غيرهم، ولن يقوم بقولهم أحد، فما عاد أحد يستطيع القيام، في دولة حصدت كل من قاموا حصدا، وما زالت تترقب أي قيام لتستمر في الحصد.

كما أننا إذا نظرنا بعين عاقلة متأنية لما حدث في مشهد شهادة الشيخ، ولما حدث من الهجوم عليه من كل قنوات النظام الحاكم وأتباعه ومريديه، سنعرف أن شهادة الشيخ يعقوب قد آلمتهم، بل وأدهشتهم، إذ أنهم كانوا ينتظرون منه غير ذلك، بل ويبدو أنهم قد ضغطواعليه ليقول غير ذلك، لكن الرجل رفض أن يبيع دينه بدنياه، فإن كان قد سكت عن مناصرة أهل الحق المجاهدين لآخر رمق في معركتهم، فلن يؤيد أهل الباطل الغادرين لآخر رمق في حياته.

وكما يقولون: إن الشيطان يكمن في التفاصيل…….
فالشهادة في مجملها شهادة براءة للشيخ يعقوب من تأييد الظلم والفساد، أو الخوف منه والانبطاح له لدرجة إعطائه ما يريده من فتاوى وآراء.

غير أن تفاصيل الشهادة فيها بعض اللقطات التي من الممكن أن نؤاخذ عليها الشيخ، ونتمنى أن لو كان وفّق فيها لغير ما قاله كما وفق في غيرها.

ومرد ذلك كما قلنا: خوف الشيخ واضطرابه ومحاولته لعدم تأييد الظالمين وإعطائهم ما يريدون مع عدم استثارتهم وإغاظتهم حتى لا يلحق به ظلمهم وجورهم وطغيانهم.

سئل الشيخ عن رأيه في الإخوان المسلمين فأجاب: جماعة أسسها الشيخ حسن البنا لنشر الدعوة والوصول إلى الحكم لإعادة الخلافة.

فأخذ القاضي يملي على كاتبه ما قاله الشيخ فقال: جماعة أسسها الشيخ حسن البنا للوصول إلى الحكم…….
فعلق الشيخ: لنشر الدعوة والوصول إلى الحكم………

وهذا تأكيد من الشيخ يعقوب على أن هدف الشيخ حسن البنا لم يكن مجرد الوصول للحكم، بل كان نشر الدعوة هدفا سابقا عليه وأصلا له.

وسئل الشيخ يعقوب عن رأيه فيمن يقتل أفراد الجيش والشرطة فأجاب: من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم………..

فأراد القاضي أن يأخذ منه كلمة مباشرة حول قتل أفراد الجيش والشرطة خاصة، فأكد الشيخ على أن قتل أي مسلم جرم عظيم.

فسأل القاضي ملحا عن الحكم فيمن يقتل مسلما، وهو يقصد بذلك من يقتل واحدا من رجال الجيش والشرطة خاصة، فأجاب الشيخ وقد بدا عليه الخوف والوجل: من قتل يقتل.

وهذه مما يأخذها الآخذون على الشيخ يعقوب، فلربما تُقتطع هذه الكلمة خصوصا من شهادة الشيخ لتأييد حكم الإعدام على الشباب المتهمين زورا في القضية المشار إليها بقتل رجال الجيش والشرطة.

وسئل الشيخ عن شيوخ الأزهر وعلمائه، وهل يمثلون هم العلماء الذين يُرجع إليهم. ولو قال الشيخ نعم كما يريدونه أن يقول لكان تأييدا منه لمؤسسة الأزهر الرسمية التي تؤيد النظام الحاكم وتوجهاته.

ولكن الشيخ أجاب: العلماء هم من يشهد لهم العلماء بالعلم.
وهي كلمة موفق جدا منه، أحسب أن الله ألهمه بها………

وسئل الشيخ عن رأيه في الشيخ سيد قطب، فأجاب: سيد قطب أديب وشاعر، دخل الالتزام بعقليته هو، ولم يتأسس على يد علماء ومشايخ.

وهذه أيضا مما يؤخذ على الشيخ في شهادته، فبرغم أنه لم يقل لهم ما يتهمون به الشيخ سيد قطب من آراء تكفيرية وتفجيرية، إلا أن كلامه فيه انتقاص كبير من حق الشيخ سيد، عندما وصفه بالأديب والشاعر، دون أن يشير إلى قدره في الفكر الإسلامي، وهو المفكر الإسلامي الأكبر في العصر الحديث.

والطريف في المسألة، ان الشيخ يعقوب هو من أكثر شيوخ السلفية المعاصرين استشهادا بكلام الشيخ سيد قطب وأفكاره في كتبه وخطبه ومحاضراته.

ويقولون أن الشيخ سئل عن ولي الأمر الشرعي، فقال: رئيس الدولة هو ولي الأمر الشرعي.

ولم أسمع أنا هذا السؤال، ولم أسمع رد الشيخ عليه، ولو كان قد قال ذلك، فإنه رد طبيعي، فرئيس الدولة هو ولي الأمر الشرعي، غير أنه كان لزاما على الشيخ أن يتمم رده ويقول: وتجب له الطاعة فيما لا يخالف شرع الله، فإن خالف شرع الله في شيء فلا طاعة له على الناس فيه.

وهي إضافة لازمة للتأكيد على أن السمع والطاعة الواجبة لرؤساء دولنا الإسلامية إن افترضنا أنهم ولاة أمر شرعيين، لا تعطيهم الضوء الأخضر ليفعلوا ما يريدونه بصرف النظر عن حدود الشرع الإسلامي فيه، ولا توجب علينا هذه الطاعة لهم إن افترضنا أنهم ولاة أمر شرعيين أن نسبح باسمهم في كل نازلة، وأن نبرر لهم في كل جريرة.

بل إن المنطق يقول: إنهم لا تجب لهم الطاعة فيما يخالفون فيه شرع الله، فإن كان أغلب فعلهم مخالفة لشرع الله فلا تجب لهم الطاعة أبدا، ويجب العمل على خلعهم وإبعادهم، بالطرق التي لا تؤدي إلى الفتن الكبرى التي يختلط فيها الحق بالباطل وتتلطخ فيها الدماء ببعضها، فلا يعرف المقتول فيما قُتل ولا القاتل فيما قَتل.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى