بقلم رفيدة صباح الداهري
شموليتها:
إن السياسة الشرعية تقوم على الشمولية لكل شؤون الحياة، في علاقات الإنسان ومعاملاته المختلفة، ضمن الأحكام المختلفة بالعقيدة والأخلاق التي تتعلق بتهذيب النفس وتقويمها وربطها بالإيمان الحق، وتنظيم علاقة الفرد بربه ضمن أحكام العبادات.
وفي علاقة الفرد بأسرته وبنائها على أسس قويمة وبيان حقوقها وواجبات أفرادها، ضمن الأحكام المتعلقة بالأسرة كالنكاح والطلاق والبنوة والنسل والولاية وغير ذلك. وفي معاملات الأفراد المالية، ضمن الأحكام المتعلقة بالمال كالبيع والرهن وسائر العقود.
وفي تنظيم إجراءات التقاضي لتحقيق العدالة بين الناس ضمن الأحكام المتعلقة بالقضاء والشهادة واليمين، وفي واجبات حفظ الناس وأعراضهم وأموالهم وإشاعة الطمأنينة والاستقرار في المجتمع ضمن الأحكام المتعلقة بالجرائم والعقوبات، وكذلك الأحكام المتعلقة بنظام الحكم ومدى علاقة الحاكم بالمحكوم وبيان حقوق وواجبات كل من الحاكم والمحكومين.
وتشمل أيضاً الأحكام الإسلامية للدول الأخرى، ونوع هذه العلاقة في السلم والحرب وما يترتب عليها من أحكام، وعلاقة المستأمنين مع الدول الإسلامية ضمن أحكام النظام الدولي العام والخاص.
وفي الأمور المتعلقة بموارد الدولة ومصارفها، وبحقوق الأفراد في أموال الأغنياء ضمن الأحكام الاقتصادية(1).
أصولها:
تقوم السياسة الشرعية على أصلين:
الأصل الأول: هو نصوص الكتاب والسنة، والمصادر التبعية كالإجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب والعرف والمصالح المرسلة، وسد الذرائع وغيرها(2)، وهي تشمل القواعد الفقهية كالمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، والحاجة تنزل منزلة الضرورة، ولا ضرر ولا ضرار، والضرر يزال ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ويختار أهول الشرين، درء المفاسد أولى من جلب المصالح، والحدود تُدرأ بالشبهات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والتصرف على الرعية منوط بالمصلحة(3)، وغيرها من القواعد التي تؤكد على التيسير والتدرج ورفع الحرج والرخص، والتطبيق منوط بالاستطاعة والتمكين، وتحقيق المصالح حسب مقاصد الشرع(4).
أما الأصل الثاني: الذي تقوم عليه السياسة الشرعية: هو إنزال وتطبيق النصوص الشرعية على الحوادث والوقائع من خلال فقه النصوص والمقاصد وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه التغيير(5)، وفقه الاستطاعة والتمكين(6)، التي تكمل بعضها البعض الآخر وتعضدها وتفسرها، وتمنح الشريعة التطور والقابلية والشمولية والدقة والحركة في استيعاب مشكلات الحياة المختلفة وشؤونها، إذ إن الشريعة لا تُفهم من ظواهر ألفاظها وعباراتها فقط، بل هناك المفهوم الموافق للمنطوق، والمفهوم المخالف لها، ودلالة العبارات وإشاراتها وعلتها وحكمتها(7).
فقهها:
إن فقه السياسة الشرعية: يرتبط بفقه وإدراك حقائق الشريعة الإسلامية ودراسة أصولها وقواعدها ومقاصدها ومصالحها، ومآلات الأفعال التي تضبط حركة النصوص ومعانيها الدقيقة مع إدراك تغير الأحوال وتبدل الأزمان لقاعدة: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”(8).
والإحاطة بشؤون الحياة، وضبط جميع التصرفات والمعاملات والسياسات بموازين وحدود الشريعة، التي تربط المتغيرات بالثوابت، وترد المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكليات، والفروع إلى الأصول، وهو فقه السياسة الشرعية الذي كان عليه الصحابة والخلفاء الراشدون، ومن سار على دربهم من التابعين لهم بإحسان(9).
يقول ابن القيم: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
والثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك، لم يعدم أجرين أو أجراً، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله(10).
وهذا ما أكد عليه الشرع الحنيف بمعرفة الواقع وفقه شؤونه، وفقه النصوص الشرعية بأصولها وقواعدها ومقاصدها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نضَّرَ الله امرئٍ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه”(11).
_________________________
(1) د. عبد الكريم زيدان: الوجيز في أصول الفقه، مطبعة سلمان الأعظمي، بغداد 1973م، ص126-128، د. مصطفى الزلمي: أصول الفقه المكتبة القانونية، بغداد، 2011م، ص26-33.
(2) د. عبد الكريم زيدان: الوجيز في أصول الفقه، ص119، د. مصطفى الزلمي: أصول الفقه في نسيجه الجديد، ص24.
(3) ابن نجيم، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985م، ص137، 100، 96، 22.
(4) ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، مطبعة دار السلام، القاهرة، 2005م، ص39.
(5) ينظر: د. يوسف القرضاوي: السياسة الشرعية، مكتبة وهبة، القاهرة، 2008م، ص223.
(6) د. علي محمد الصلابي: فقه النصر والتمكين، مكتبة الإيمان، المنصورة، الطبعة الأولى، ص170.
(7) د. محسن عبد الحميد: من البلاغ المبين إلى السياسة الشرعية، ديوان الوقف السني، بغداد، ص16.
(8) أي الأحكام المبنية على العرف والعادة لا على النص والدليل؛ لأن الناس تتغير أعرافهم وعاداتهم. د. عبد الكريم زيدان: الوجيز في شرح القواعد الفقهية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001م، ص104.
(9) د. يوسف القرضاوي: السياسة الشرعية، ص227، د. محسن عبد الحميد: من البلاغ إلا السياسة الشرعية، ص16.
(10) أعلام الموقعين عن رب العالمين، المطبعة المنيرية، مص، 1374ه، 1/11.
(11) أبو داود: السنن، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم، 3/322.
المصدر: موقع المسلم.