ثار جدل كبير حول مصطلح ” الشرعية ” .. بل كان محور أحداث وصراعات سقطت فيها أرواح الآلاف وتعرضت الدولة لتهديدات غير مسبوقة استهدفت بنيتها وكيانها وتماسكها ، فما هو أصل هذا المصطلح فى الاسلام ؟ ومن أين يستمد الحاكم شرعيته ؟ وهل هى الزام من حاكم أو جماعة على الأمة والشعب، أم هى منحة من الشعب للحاكم ، يهبها له ويستردها منه فى الوقت الذى يراه؟
شيخ الاسلام ابن تيمية يتحدث عن الامامة الكبرى ورئاسة الدولة فى كتابه ” منهاج السنة النبوية ” فيرى أن تعيين الامام يكون بالاختيار لا بالنص أو العهد ممن قبله
وأهل الاختيار لم يحددهم شيخ الاسلام تحديداً واضحاً كما فعل غيره ، لأن الخلاف لم يكن فى تحديد من هم أهل الحل والعقد وقتئذ ، انما دار الخلاف بين من يرى توريث الحكم بالمعنى العام أى يحدد الرئيس أو الحاكم نصاً من يخلفه فى الحكم ، ومن يرى أن الاختيار والانتخاب من قبل الشعب هو الأولى.
ويرى شيخ الاسلام أن أهل الحل والعقد هم الجمهور والسواد الأعظم وأهل الشوكة ، فمصدر السلطة مبايعة الجمهور للحاكم ورضاهم به وعنه ، وحب الرعية للحاكم دليل صلاحه وصلاحيته ومصدر شرعيته لا شئ آخر..
ويستدل شيخ الاسلام على ذلك بالحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم : “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ” .. ولذا يقرر أن مصدر شرعية الحاكم فى الاسلام ومصدر حفظ الشرع وصيانته انما هى الأمة والجمهور وليس الحاكم والسلطة ، فيقول : ” الأمة هى الحافظة للشرع وليس هو الامام”.
وهذا كلام فى غاية الأهمية للرد على من يتصورون الاستغناء عن الشعب وعن رأى العامة والجمهور ، ويتخيلون أن فئة محدودة من الناس أو جماعة معينة هى المنوطة بحفظ الشرع أو هى مصدر الشرعية
وكلام شيخ الاسلام هنا – وقال الامام الجوينى كلام مشابه له – رد على هؤلاء كما كان رداً على الشيعة وذهاب الحلى الى أنه ” لابد من امام معصوم بعد انقطاع الوحى ليحفظ الشرع “
فالشرع محفوظ من قبل الأمة لا من قبل الأئمة مهما ادعوا وصلاً به وحرصاً عليه
هذا النهج هو الضمانة لشفافية الحكم ولبقاء العدل وارساء المبادئ والقيم الدستورية العليا بعيداً عن أى استبداد باسم الدين أو غيره ، وهو الضامن أيضاً لمصلحة الأمة وسيرها فى طريق الاصلاح والعمران دون فتن وصراعات تنتج بلا شك عن الاستبداد والمظالم فى ظل الحكم الفردى ، ولذلك يؤكد ابن خلدون على أن الحكم المطلق الخالى من الضمانات لابد من انهياره فى النهاية ، مهما كانت قوة وجبروت القائم عليه.
فهذه السلطة المطلقة غير المقيدة قد تلبى مصالح الحاكم لفترة محددة وقد تشبع أطماعه وأنانيته لكنها تلحق أفدح الأضرار بمصالح المحكومين الذين يتحينون أية فرصة للاطاحة به.
ولتلافى الفوضى والفتن والصراعات الساخنة واراقة الدماء – وهذا كله يضر بالعمران البشرى – لابد من ضرورة فرض قيود معينة على ممارسة السلطة سواء فى نظام الخلافة حيث أكد ابن خلدون ضرورة الالتزام بالكتاب والسنة ، أو فى نظام ” الملك السياسى ” مؤكداً ضرورة التزام القوانين العقلية الملزمة ؛ فالسلطة عنده تحتاج الى من وما يكبح جماحها ، وان لم تفرض القيود عليها لا تستطيع القيام بأداء وظائفها ، بل تتعرض للدمار التام اذا لم تكن هناك قيود على مجال وأسلوب ممارستها.
وفضلاً عن أهمية مراقبة الحاكم ومحاسبة السلطة الدائمة من خلال من ينتخبهم الشعب ” أهل الحل والعقد ” – أو بلغة العصر ” مجلس النواب ” ، أوضح ابن خلدون أن الرفق والصفات الحميدة هى من الشروط الأساسية لتدعيم سلطة الحاكم ونظامه ، وأن فضائله وسماته الايجابية ضرورة حيوية لزيادة التفاهم بينه وبين الشعب ، وأيضاً ضمانة للاستقرار السياسي.
الماوردى فى ” الأحكام السلطانية ” يرى أنه لا طاعة للحاكم على الأمة الا بقدر حرصه على عدالته والتزامه بمبادئ وقيم الاسلام الدستورية العليا من مساواة وشورى وحقوق وحريات ومساواة بين الجميع أمام القانون ، ويصبح بقاء الحاكم غير شرعى وجاز للأمه اسقاطه وعزله بالطرق السياسية السلمية اذا تجاوز أو قصر فى أداء مهام الحكم.
اذاً شرعية الحاكم فى الاسلام مرتبطة بالجمهور والأمة ، فهى التى تختاره اذا رأت فيه الشخص المناسب القادر على القيام بمهام المنصب ، وأيضاً يعود اليها قرار عزله والاستغناء عن خدماته فى الوقت الذى تجمع فيه الأمة على أنه صار غير قادر على القيام بهذه المهام – بضوابط معينة – ، والشرعية هنا بمعناها الأصيل لا تحددها فئة ولا تحتكرها مجموعة انما هى مستمدة من الجمهور وعامة الشعب .. وهى ليست مستمرة ولا يضمن أحد بقاءها الا وفق ما تراه الأمة سواء أرادت وقررت استمراره فى منصبه الى نهاية مدته المقررة أو لم ترد.
(المصدر: صحيفة المصريون)