مقالاتمقالات مختارة

شبهات وردود حول المقاطعة

شبهات وردود حول المقاطعة

بقلم مصطفى البدري

الحديث هنا حول الشبهات التي تمت إثارتها عبر الإعلام الحكومي في بلادنا، وشاركهم فيها بعض المنتسبين للدعوة والعمل الإسلامي.

  • الشبهة الأولى: لا تجوز الدعوة لأمر كبير مثل هذا إلا بإذن ولي الأمر.

أولًا: عندما قال البعض لا جهاد إلا بإمام؛ قال لهم أهل العلم: بل لا إمام إلا بجهاد.

فالأصل أن ولي الأمر لا ينال شرف ولا هذه مكانة منصبه إلا بالسعي في نشر الإسلام وتحصيل مصالح المسلمين، وحيث أن غايات احترامه وتقديره غير متحققة؛ فلا حاجة لإذنه من الأساس؛ وقد ذكرنا في المقال السابق أن المقاطعة تمثل إحدى صور الجهاد الشعبي المؤثرة.

ثانيًا: الأصل أن الطاعة لولي الأمر أو الوالد أو الزوج تكون في المعروف، وإن اختلفنا معهم يكون احتكامنا للقرآن والسنة بفهم العلماء الأئمة قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. فإما أن نضع هؤلاء المستبدين مكان الله والرسول في التشريع، وإما أن نذكر الأدلة الواضحة في هذا الموضوع، فنقول: قال الله عز وجل كذا وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، أو نذكر (مثلًا) قصة ثمامة ابن أثال السالف ذكرها.1

  • الشبهة الثانية: المقاطعة حل عاطفي بائس وغير مجدٍ، خاصة مع دولة بحجم فرنسا.

وللجواب المفصل عن هذه الشبهة أحيل القارئ الكريم لمقال كتبته د. تسنيم راجح بعنوان: هل ستؤثر المقاطعة الاقتصادية على فرنسا؟ حيث ذكرَت بعض صور المقاطعة ذات التأثير الكبير في العصر الحديث؛ وألخص هنا بعض ما ذكرته في نقاط محددة:

  1. بين عامي 1900 و 1906 تمت مقاطعات لسيارات الأجرة في أكثر من 25 ولاية أمريكية جنوبية رفضًا لقوانين الفصل العرقي. وقد أسهمت هذه المقاطعة في تأمين حقوق الأفارقة الأمريكيين ومنع الفصل المبني على الأعراق في البلاد.
  2. المقاطعة التي حصلت في ولاية أركانساس الأمريكية عام 1971 حين اتفق المجتمع الأفريقي الأمريكي على مقاطعة التجار البيض في مدينة ماريانا لجذب الانتباه إلى التمييز العنصري الذي عانوه، وبعد ثمانية أشهر من المقاطعة التامة قدم قادة المقاطعين عريضة بمطالبهم، وتم الاتفاق على حلولٍ مرضية لإنهاء المقاطعة.
  3. في عام 1966 بدأ ناشطون في ولاية ميسيسبي الأمريكية مقاطعة طويلة الأمد من أجل مطالب متعلقة بمساواة الأعراق من حيث الألقاب والمهن المتاحة والفصل في المرافق العامة؛ ورغم تأخر نتائج هذه الحملة 16 سنة عن بدايتها، إلا أنها كانت كبيرة ومؤثرة.
  4. ولعل أحد أوضح الأمثلة على فاعلية المقاطعة يظهر في الاستخدام الواسع لمبدأ العقوبات الاقتصادية التي تمارسها الدول القوية ضد تلك التي لا تتفق معها. وهدفها هو الضغط على دولة معينة عبر إحداث ضرر في كيانها الاقتصادي لتغير مواقفها؛ فهي تشبه كثيرًا المقاطعة التي تقوم بها الشعوب المسلمة ضد فرنسا اليوم.
  5. لا شك أن أزمة كورونا الحالية ستمثل عنصرًا مساعدًا في تأثير حملة المقاطعة ضد فرنسا.

وبهذه النظرة التاريخية السريعة يتضح أن المقاطعة الاقتصادية ليست كما يدعي كثيرون “حلٌ عاطفي بائس وغير مجدٍ”، بل إن الدراسات والخبراء يشيرون إلى قدرتها الكبيرة في إحداث التغيير إن تحقق التركيز والمثابرة لإيصال صوت الشعوب والأفراد. اهـ

وقد نضيف إلى ذلك أول مقاطعة تم تسجيلها في العصر الحديث (بويكوت Boycott) حيث قام المستأجرون الأيرلنديون بمقاطعة وكيل ملاك الأراضي حتى اضطروه لمغادرة البلاد، وكذلك ما قامت به المواطنة الأمريكية السوداء روزا باركس، وساندها السود بمقاطعة الحافلات حتى صدر قرار رسمي بإجهاض القوانين العنصرية المعتمدة ضد السود داخل الحافلات بولاية ألاباما. وغير ذلك كثير.

  • الشبهة الثالثة: المقاطعة ستضر ببعض العاملين المسلمين في الشركات الفرنسية.

أولًا نذكّر هؤلاء بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قال السعدي في تفسيره: وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} أيها المسلمون {عَيْلَةً} أي: فقرا وحاجة، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فليس الرزق مقصورا على باب واحد، ومحل واحد، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة، فإن فضل الله واسع، وجوده عظيم، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم، فإن الله أكرم الأكرمين. اهـ

ثانيًا: إذا كان هناك ضرر سيلحق بالبعض من جهة فإن نفعًا سيصيب آخرين من جهة أخرى، فالمقاطعون سيتركون المنتجات الفرنسية ويستخدمون غيرها بلا شك، وحبذا أن تكون البدائل لشركات أصحابها مسلمون، ومن ثَمّ سيكون المنتفعون بالمقاطعة من المسلمين أكثر من المتضررين.

  • الشبهة الرابعة: هذه المقاطعة يشارك فيها العصاة والفساق فهل سننتصر بالذين هم سبب نكبة الأمة أصلًا؟!

بالطبع يتوجب علينا أن نتقي الله عز وجل ونجتنب معصيته، ومعلوم أن الفسوق والعصيان من علامات ضعف الإيمان ونقص المحبة، لكن رغم ذلك نص العلماء على أن العصاة لهم نصيبهم من محبة النبي عليه الصلاة والسلام؛ وقد نقل الحافظ ابن حجر عن القرطبي (صاحب المُفهم) قوله: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة. اهـ

ولو أننا قصرنا نصرة الدين على الأتقياء الأنقياء فلن نستطيع الوفاء بالحقوق والواجبات في هذا الإطار، ولابد أن يضرب كل مسلم بسهم في معركة نصرة رسولنا عليه الصلاة والسلام، وما فعله أبو محجن الثقفي (وكان يشرب الخمر كثيرًا) يوم القادسية مشهور معلوم، وقد ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر” وفي رواية مسند أحمد وغيره: “إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم”.

والله من وراء القصد


 1-نحن لا نسلم بأن هؤلاء حكام شرعيون، أو أنهم يستحقون وصف أولياء الأمور؛ وعلى كل مسلم أن يسعى لإسقاطهم وإحلال من يقوم بالحق والعدل بديلا عنهم، فما حكام اليوم إلا أدوات في أيدي المحتلين الغاصبين، كل همهم إرضاء أسيادهم الذين نصّبوهم ولو على حساب دماء شعوبهم ومقدرات بلادهم، فالحاكم الشرعي الذي نصّ أهل العلم على أنه المستحق لحقوق الإمام هو الذي ينوب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالدين، كما نص على ذلك الماوردي وغيره، وهو الذي يقودنا بكتاب الله كما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقد اشترط العلماء وفاءه بواجباته قبل المطالبة بحقوقه، كما قال أبو يعلى: وإذا قام الإمام بحقوق الأمة، وجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة، ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة. اهـ، وهنا نجد أن أبا يعلى قد اشترط قيامه بحقوق الأمة، ثم أشار إلى أنه حتى وإن تولى بشكل صحيح فإنه قد يخرج عن الإمامة إذا أخل بما تم توليته من أجله.
وقال القرطبي في تفسيره: الإمام إذا نُصّب ثم فَسَقَ بعد انبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويُخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها. فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله. اهـ

(المصدر: موقع البوصلة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى