شبهات حول حكمة الله وعدله.. وما هو دور الإنسان الفعلي؟
بقلم حسن الحسن
عندما يعترضنا وجود شخص معاق في الحياة يجب أن ينصرف جهدنا إلى بحث كيفية معالجته ورعايته وإعانته على تجاوز إعاقته وتحمل أعباء الحياة، لا الإنكار على الله بأنه خلقه معاقًا! وعندما نشاهد إنسانًا فقيرًا فإن المطلوب فهم أسباب الفقر ومعالجتها والإنفاق على الفقير وكفايته، لا تحميل الله مسؤولية إفقاره وأنه لو شاء لأغناه وكساه وأطعمه!
وعندما نخسر في معركة ضد الأعداء، فإن علينا تدبر أسباب الهزيمة والتخطيط والإعداد للنصر، لا القعود مذمومين مدحورين نشكك بمشيئة الله مدعين خذلانه المؤمنين! وعندما نشاهد ظالمًا يطغى في البلاد ويعتدي على العباد فإن علينا التفكير في ردعه ورده عن ظلمه وطغيانه بدل ادعاء أن الله تعالى تخلى عن مسؤوليته تجاه المستضعفين ولومه على ذلك والعياذ بالله! وعندما نفشل في إنجاز مشاريعنا في الحياة (تجارة، دراسة، زواج الخ) فإن المطلوب دراسة أسباب إخفاقنا وكيفية تجاوز أزماتنا والأخذ بأسباب النجاح.
وهكذا … فإن السبيل الصحيح يكون في التركيز على دورنا، وعدم إلقاء فشلنا وخيباتنا على الله والتشكيك في حكمته وعدله وقضائه، فذلك سلوك العابثين والجاحدين الذين لم يعرفوا قدر الله، وطبقوا عليه معايير الإنسان الناقصة التي تعجز عن الإلمام بمغزى أمر الله وعلمه وحكمته وتدبيره. فضلاً عن ذلك فإن هذا السلوك المشين ينعكس أثره سلبًا على صاحبه فيجعل شخصيته هشة، تميل إلى الكِبْرِ والغطرسة والجحود، فيدمر فطرته الإنسانية ويحيا في عبث ويغرق في عالم التيه والضلال.
ومن الأسئلة الشائعة المتصلة في مجال البحث نفسه، لماذا يخلق الله الإنسان المعاق؟ لماذا يحاسب الله الإنسان مع أنه لم يخيره في خلقه؟ أين الله؟ هل الله موجود داخل الكون أم خارجه؟ من خلق الله؟ لم لا نرى الله؟ لماذا لا يتدخل الله وينهي الظلم ويحقق العدل ويظهر الحق ويخضع الخلق لمشيئته؟
وغيرها كثير من الأسئلة التي تتعلق بشكل عام بصفات الله، لا سيما حكمته وقضائه وعلمه ومشيئته وعدله. وإذا نظرنا إلى مكمن الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء نجده يرجع إلى منهجية خاطئة في التفكير، يمكن تلخيصها في ثلاثة عوامل.
الأول: استعمال المنطق المغلوط
إن استعمال المنطق المغلوط آفة، كقول بعض المشككين، لو أن الله موجود لما رضي باستفحال الظلم في هذا العالم، معتبرين أن هذا حجة لهم في نفي وجود الله. وتقع المغالطة هنا في فساد هذا المنطق، فالدليل على وجود الله ترجع إلى وجود مخلوقات بحاجة لخالق، وإلى توفر نظام يحكم الكون يحتاج إلى منظم، وإلى بروز طبيعة مدهشة تعمل وفق آليات وقوانين ثابتة ومنتظمة ودقيقة تحتاج إلى مدبر حكيم عليم.
وقد لفت الإسلام نظر الإنسان إلى كل ذلك في العديد من الآيات، كقوله تعالى في سورة الأعراف آية 190: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) وقوله في سورة الأعراف آية 54: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ).
وقوله في سورة النحل آية 11 (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). لهذا فإنه بغض النظر عن تفسير الإنسان لواقع ما يجري في الحياة وعلاقته بمدى عدل الله وقدرته وعلمه وحكمته مثلًا، لا يمكن أن يكون ذلك نافيًا بحال لحقيقة ثابتة راسخة تفيض الأدلة بها، أي وجود الله سبحانه، التي ترجع المخلوقات جميعًا في وجودها إليه، ولا سبيل لوجودها أصلًا من غير قدرته وحكمته وعلمه وتدبيره.
الثاني: تطبيق معايير المخلوق على الخالق
إن أكثر الإجابات خطأ وانحرافًا عن الجادة حول الأسئلة المطروحة، كانت جراء استخدام الإنسان معاييره الخاصة في الحكم على الأشياء وتطبيقها على صفات الله سبحانه، بمعنى أن يضع الإنسان تعليلاته ومبرراته وطريقة تفسيره للوقائع والأحداث كمعايير ملزمة للإله!
فمثلًا، يعتبر الإنسان مسيئًا إذا رأى ظلمًا ولم يتدخل لمنعه مع وجود القدرة على ذلك، ويقول المشككون بالله إن الظلم يعم أرجاء العالم، ويستأثر أهل الشر بتصريف سياساته وإفساد خلقه، من غير أن يتدخل الله! فهذا منطق يصح فرضه على إنسان آخر، لديه القدرة على وقف الظلم ولم يتدخل لفعل ذلك، ولا يصح البتة مقارنة الخالق سبحانه بالمخلوق (إنسانًا كان أم غيره)، فالقول هنا بأن عدم تدخل الله هو عجز أو جهل أو مساهمة في الظلم يضع الخالق بمنزلة المخلوق وصفاته، وهذا لا سبيل إليه.
بل إن السير في هذا الطريق مدعاة لتغيير جملة المفاهيم المرتبطة بدور الإنسان، فمثلًا لماذا يفرض الله الزكاة على الأغنياء؟ أي لم لا يقوم الله سبحانه بإرسال رزقه للفقراء مباشرة! من ثم لماذا يطلب الله من المؤمنين الإعداد لإرهاب الأعداء؟ أي لم لا يقوم الله سبحانه بإلحاق الهزيمة مباشرة بالأعداء من غير إعداد المؤمنين ولا تضحياتهم!
ولماذا يفرض الله الفصل بين الناس في القضاء والإتيان بالشهود وأدلة الإثبات؟ أي لم لا يقوم الله بالاقتصاص مباشرة من المجرمين بناء على علمه (عالم الغيب)! وهكذا دواليك، وهو بالفعل منطق أعوج لم يفهم معنى الخالق، ويحاول تطبيق معايير المخلوق عليه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).
لهذا يجب التنبه إلى فهم ما يجري هنا على سبيل وقوعه بين بني البشر، الذين حرم الله الظلم فيما بينهم، وأمر بالتصدي للظالم منهم، وبين أن الظلم مدعاة للفساد والهلاك، على نحو قوله تعالى في سورة الكهف (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)، كما أن تدبير الله لخلقه وإعمال حكمته وتطبيق عدله والفصل في قضائه يرجع له، على النحو الذي يريده، يقول تعالى في سورة الأعراف آية 54 (ألَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
الثالث: عرض البحث على غير صعيده
إن تحديد صعيد البحث ومرجعيته أمر في غاية الأهمية والحساسية، فما كان متعلقًا بالواقع المتصل بحسّ الإنسان (مباشرة أو غير مباشرة) فإن صعيده العقل حتمًا، فمثلًا الحكم على القمر، هل هو مخلوق أم خالق؟ فإن العقل قادر على حسم الإجابة في كون القمر مخلوقًا، فالمشاهد فيه أنه جماد محدود يسير ضمن نظام المجموعة الشمسية بشكل إجباري لا خيار له فيه، فهو بحاجة لموجد ولمنظم ومدبر، وما كان شأنه كذلك فهو مخلوق.
وأما الأدلة النقلية التي تتحدث عن القمر، فرغم أنها نقلية أي مصدرها الوحي، فإنها تخاطب العقل، كقوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل – الآية 12]. فإنها تخاطب العقل، وتؤكد معطياته وحكمه.
ولا يمكن أن يأتي الوحي المقطوع بصحته بشيء يخالف العقل، فالعقل مناط التكليف، وإبطال العقل هو إبطال للتكليف، فالعقل هو السبيل لإثبات صحة أو بطلان العقائد التي مجالها الحس الإنساني. كذلك لا ينبغي الخلط هنا بين وصف الشيء الذي يقع عليه الحس وبين بيان حكم التعامل معه، فمثلًا إن العقل هو الذي يحدد إذا كان الحيوان الذي تم اصطياده غزالًا أم خنزيرًا، فيما يأتي الوحي لتبيان جواز أكل لحم الغزال وحرمة أكل لحم الخنزير.
أي أن وصف الواقع المحسوس يخضع للعقل، فيما بيان كيفية التعامل معه خاضع لميزان الحلال والحرام ومصدره الوحي.
من هنا فإن إقحام الوحي فيما هو مجاله العقل أو إقحام العقل فيما مجاله النقل (أي الوحي) يفسد صعيد البحث ويؤدي إلى خلط وضياع لا تحمد عقباه. وقد أدى هذا الخلط فعلًا إلى ضياع كثير من أصحاب الفكر قديمًا وحديثًا، ما أوصل بعضهم إلى اعتناق فكرة وحدة الوجود، زاعمين أن مقتضى البحث العقلي يوصل إلى أن الله والعالم شيء واحد في جوهره، مختلف في مظاهره، تسير جميع مكوناته ضمن حتميات تاريخية تخضع لقوانين الطبيعة، التي تعبر عن إرادة الله وتجلياته في صور مختلفة. وهذا خطأ فادح وتعبير عن خيال جامح ناتج عن إقحام العقل في فهم صفات الله الغائبة عن الحس الإنساني، وهو بحث في كنه ذات الله التي لا يمكن مقاربتها بصفات المخلوقين (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى آية 11.
كذلك، خذ مثلًا، الفتنة الرهيبة التي وقعت في التاريخ الإسلامي بشأن البحث في صفات الله، هل هي عين ذاته، أم أنها غير ذلك، وما زالت آثارها قائمة ليومنا هذا، فقد انقسم علماء الإسلام فيها بشكل مأساوي، أدى إلى سفك دماء بعضهم، فضلًا عن تضليل بعضهم البعض، وصولًا إلى إصدار فتاوى تكفير بحق المخالف منهم للآخر، رغم أن منطلق كل منهم كان تنزيه الله سبحانه، إلا أنهم ضاعوا وأضاعوا بسبب خلط البحث وعرضه على غير صعيده.
والمتأمل في مجمل الخلاف الحاصل بين هؤلاء وأولئك قائم على إقحام العقل لفهم صفات الله الأزلي، فيما البحث في ذات الله غير معقول، لعدم اتصال ذلك بالحس، وكل ما نعرفه عن الله سبحانه من خلال العقل مرتبط باتصال الحس بالكائنات المخلوقة واعتمادًا على المسلمات العقلية المرتبطة بقوانين المخلوقات، لا من خلال فهم ذات الخالق سبحانه، فهذا محال، لذلك كان الوحي هو المرجعية الوحيدة الصالحة لفهم مراد الله من خلقه، ولإدراك حكمته، وفهم كيف يدبر الأمر، يخلق ويحاسب، يثيب ويعاقب، ينصر عباده ويرزقهم أو يقدر عليهم أرزاقهم ويمتحنهم، فكل ما يقف وراء الحس الإنساني من صفات الله سبحانه ومراده مرجعه الوحي، لا سبيل غير ذلك إليه، ينبغي فهمه على النحو الذي جاءت به، لربط الإنسان بربه وبيان غاية وجوده ودوره في الحياة.
خلاصة البحث
https://youtu.be/IFSmGwZdDC4
إن منطلق الإيمان بالله سبحانه ينبع من فطرة الإنسان التي تفرض عليه اللجوء إلى الخالق القوي القاهر المتحكم في الحياة، ما يمنحه شعورًا بالأمن والراحة والقوة والسعادة. إلا أن تعقيدات مشاكل الحياة ومفارقاتها وتحدياتها وتداخلاتها تدفع الإنسان إلى طرح أسئلة تتجاوز الركون إلى الإيمان المرتبط بالمشاعر الوجدانية، لا سيما فيما يتعلق بالخالق ذاته ومراده من خلقه وعلاقة الإنسان به.
وفيما تبدو بعض الأسئلة بسيطة ومنطقية، يكون بعضها الآخر شائكًا ومرهقًا إن لم يحسن الإنسان تناولها، فتؤدي به إلى الغرق في مستنقع الشك والضياع والإلحاد. لذلك كان على المرء أن يتنبه لمنهج بحثه تلك الأسئلة الشائكة، وإلى الانصراف إلى ما يعينه على القيام بدوره في الحياة كمستخلف في أرض الله لعمارتها وعبادته، لا سيما أن الله سخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا ليؤدي أمانة هذا الاستخلاف، يقول تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا).
فلو اجتهد الإنسان في فهم رسالة الله وسننه وقوانينه والعمل بمقتضاها وتنبه إلى أنه في مهمة سامية عليه أن يؤديها في حياته، وانصرف إلى بذل جهده في كيفية تنفيذها، لوفر على نفسه كثيرًا من التشتت والفوضى والعناء، ولعرف حده فوقف عنده، إذ أن جل تلك الأسئلة الشائكة محل بحثها على النحو المطروح يكون مع المخلوق المحدود الناقص العاجز المحتاج، لا القادر على الخلق من العدم، الأزلي الغني بذاته عن غيره، الأحد الصمد الذي ليس له كفوًا أحد.
فلا يقال من خلق الله، ولماذا لا يظهر لنا الله، أو لماذا لا يتدخل الله الخ من أسئلة متعلقة بذات الله وحكمته وعلمه وعدله وقدرته ومشيئته وقضائه! فطريقة الطرح هذه تنم عن أن السائل لا يفرق بين خالق ومخلوق بين رب وعبد بين إنسان ضعيف ورب قوي، ليس كمثله شيء، لا يُسأل عما يفعل، بكل شيء محيط، لا يتعب ولا يمرض ولا يعجزه شيء، وهو السميع البصير.
(المصدر: موقع تبيان)