سي إتش محمد كويا .. الوزير الذي غير بوصلة مسلمي مليبار
بقلم صبغة الله الهدوي
إنه ينحدر من أسرة فقيرة، أبوه طبيب يوناني عادي لم تتسع دائرة حلمه، ثم دار به الزمان حتى اعتلى عرش رئاسة وزراء كيرالا بعد أن تخطى مراحل مهمة في حياته، وأثر في قلوب الآلاف المؤلفة، وتسللت كلماته إلى تلك القلوب التي اشتاقت إلى رؤيته وسماع خطبه.
إنه سي إتش محمد كويا، المسلم الوحيد الذي اعتلى رئاسة وزراء كيرالا الهندية، المنصب الذي حرمه نظام المجتمع الهندي على المسلمين، فكلما رأوا مسلماً يعتلي المنبر رشقوه بالأحجار أو شوهوه في الإعلام، ووضعوه على قائمة الإرهاب، لكن في كيرالا انكسر ذلك الصنم الهندي، وتلاشى المستحيل أمام هيبة سي إتش، الذي رفع قدر أمة “مابلا” (الاسم الذي يطلق على مسلمي مليبار) قاطبة بعد أن كانت تتعثر في طريقها إلى الأمام.
إن الفضل يرجع إليه في نهضة مسلمي مليبار، الذين اضطهدوا بين فكي الشيوعية التي همها الأول تحطيم سلطة الدين وتحميله ثقل التخلف، وكونجرس الذي لا يخلتف كثيراً عن بي ج ب اليوم، فتاريخ سي إتش ليس حكايات تنسج من الخيال؛ بل هو أوسع من تلك الحكايات التي تحاك حول الأبطال حتى تمجد وتحمد عبر الأجيال، وأعمق من تلك الأساطير التي سمعناها عن بعض الرموز السياسية. إنها حكايات ذات ألم وحزن، ونضال وانتصار، وصبر وغضب، وثورة وهدنة، فالحديث عن شخصية سي إتش محمد كويا حديث ذو شجون، تتشعب أسطره وتمتد صفحاته كلما ركضت وراء سيرته.
وُلد بطلنا في أسرة متواضعة، في أسرة خاملة الذكر لا تذكر كثيراً ولا تروى سيرتها في المحافل، وكان أبوه علي مسليار عالماً دينياً يشتغل بخدمات دينية بسيطة إلى جانب ما تمهره في الطب اليوناني الذي لاقى رواجاً كبيراً بين مسلمي مليبار، إلا أن الأسرة كانت تتشرف بانتسابها وولائها للأمة الإسلامية.
نشأ وترعرع في كنف والدين كريمين ملآ في جوانحه حب التفاني والتضحية للأمة الإسلامية، وعاش فترة الصراعات الاستقلالية التي حدثت في الهند، وكان شاهداً على أبرز المحطات التي مرت بها الهند لتصل إلى شاطئ الاستقلال عام 1947م، وعمل بالشأن العام في وقت مبكر، واتخذ من كالكوت مسقط رأسه مقراً لمبادراته السياسية، واستنشق هواء الحرية والكرامة وحن إلى تحرير الوطن من مخالب الاحتلال البريطاني، وسار في ركاب كبار الزعماء السياسيين الذين اهتموا بالتمكين للمسلمين.
انضم مبكراً إلى رابطة المسلمين التي تنامت حتى أصبحت نظيراً منافساً لكونجرس العملاق، وكان للحزب شعبية كبيرة في مليبار لا سيما بعد أن انجذب إليه أشراف من قادة الأمة أمثال السيد عبد الرحمن بافقيه الذي كان يشتغل بتجارة الأرز ثم صار سياسياً محنكاً، وكان سيداً وقوراً مهاباً بين الناس، وكذلك سيد أحمد فوكويا بانكاد، وله ولأبنائه دور ريادي في قيادة العمل السياسي لمسلمي مليبار إلى وقتنا هذا. وانضمام هؤلاء الأشراف إلى خيمة الرابطة زادها هيبة ووقاراً، وأكسبها شعبية كبيرة بين العوام والعلماء.
فأول تجربة سي إتش محمد كويا كان في جريدة “تشاندركا” (الهلال) لسان الحزب الذي أسس له أرضية صلبة في ساحات السياسة، حيث كان المسلمون يعيشون فترة حاسمة في تاريخهم، فترة تعج بالصراعات والمشادات التي وصلت إلى حد الاشتبكات الدامية أحياناً، وقتها كانت الهند تنشطر على المصالح الدينية، وتعلو في أجوائها نداءات محمد علي جناح لتشكيل باكستان، إلا أن مسلمي مليبار الذين يعيشون أقصى جنوب الهند لم تكن لهم أي صلة بهذه النداءات، ولم يلقوا لها آذاناً بل ضربوا بها عُرض الحائط، إيماناً بالمجد الذي صنعوه في الهند وثقةً بالتاريخ الذي يحكي بطولات المسلمين.
فجريدة “تشاندركا” لها الفضل الكبير في ترسيخ قضية رابطة المسلمين، فانطلقت تنافح عن قضايا الأمة الإسلامية وتدعوها إلى استعادة المجد والحرية، وتعرضت لعدة حملات معادية من جانب الحكومة الاحتلالية، فأغلقت فترة يسيرة في الثلاثينات ثم واصلت مشوارها إلى يومنا هذا، وظل سي إتش كاتباً ماهراً يعالج القضايا السياسية ويصرح قرارات حاسمة، فرويداً رويداً اتجهت إليه الأنظار لما كان يمتلك قلماً حاداً يهاجم في عباراته كل من يعادي مصالح الأمة الإسلامية.
فبعد أن ظفرت الهند بالاستقلال وانشق الحزب إلى شقين، شق توجه إلى باكستان تحت قيادة لياقت علي خان، وشق بقي في الهند تحت قيادة قائد الملة محمد إسماعيل صاحب الذي يعد الأب الروحي لحزب رابطة المسلمين لعموم الهند، الذي يتمتع بحضور فاعل حتى الآن في برلمان الهند.
فمنذ الاستقلال قطع كلا الفريقين كل العلاقات، واتخذ الجميع أفكارهم الخاصة ورؤاهم المتفردة، وأكثر زعماء المسلمين من جنوب الهند بما فيها كيرالا وتاملنادوي وكرنادكا أحبوا الاستقرار في الهند، ولم يفضلوا ولم يختاروا باكستان ، بل فضلوا الثبات في معركة الهند التي ستلد عما قريب حوادث مهمة تحسم مصير المسلمين، فما كان لهم أن يتركوا إخوتهم وأشقاءهم في أرض جوفاء من القيادات، أو أن يجعلوهم صيداً سهلاً لشباب السياسة الهندية.
فوقف سي إتش محمد كويا كأمثال الكثيرين من زعماء الرابطة بولاية كيرالا في الهند مع الذين آثروا البقاء في الهند، ليسجل التاريخ مسيرته وملحمته بمداد من الذهب، فانتخب لمديرية كالكوت عام 1952م لتفتح له أبواب السياسة الواسعة، وفي عام 1957م انتخب للمجلس التشريعي لولاية كيرالا ثم استمرت تلك الرحلة إلى رحيله من الدنيا، خطابات تهز جدران المجلس، وردود ارتجالية مفحمة، وضربات قاضية لكل من أراد النيل من الأمة، وحكمة بالغة لترقية المسلمين وإظهارهم في الساحات العامة، ورأس لا يخضع حتى أمام الحواجز الشائكة التي نصبت أمامه.
وتعد فترة الخمسينات من أبرز الفترات السياسية التي شهدتها ولاية كيرالا، حيث كانت حكومتها أول حكومة شيوعية منتخبة في العالم، وكانت بحوزتها الكثير من الخطط التي قد تنال من الأمة الإسلامية كما جربتها في كثير من الدول، فتخطت رابطة المسلمين بكل حذر واحتياط حتى اشتركت في ثورة التحرير التي أطاحت بالحكومة الشيوعية من العرش، فوقتها أدركت الأحزاب والجبهات السياسية في كيرالا خاصة والهند عامة أهمية وقوة رابطة المسلمين التي ظلت تتقوى وتتنامى حتى في خضم المعارك الضروس، مع أن الكثيرين من كبار زعماء الأحزاب الهندية وعلى رأسها حزب المؤتمر الهندي الوطني تخيلوا أن نهاية الرابطة قد أوشكت، وأن مكانتها اضمحلت حتى أطلق كل الجهات المختلفة المعادية للرابطة هجمات سياسية شرسة بهدف فض الرابطة ودمجها في أحزابهم، لكن انقلب السحر على الساحر، حتى استعادت الرابطة هيبتها وقوتها واستقرت بخطوات واثقة في ميدان السياسة، متحدية كل الأحزاب والجبهات.
فلما توفي مرشده السياسي ك أم سيتي صاحب تولى منصب “المتكلم” المجلس التشريعي لكيرالا، ليكون أصغر متكلم في تاريخ المجلس، فمن أبرز المناصب التي تقلدها سي إتش كانت في مجال التربية والتعليم، وكان وزير كيرالا لشؤون التربية لأكثر من مرة، واقتنص هذه الفرصة الثمينة لنهضة المسلمين وغيرهم من الأقليات المضطهدة، وأطلقت عدة مشاريع بناءة لصناعة النهضة العلمية في الأوساط الفقيرة، ووجه عنايته الخاصة نحو المسلمين الذين هم الضحايا البارزة الذين حملت عليهم ثمن الاستقلال حتى لم يجدوا مكاناً يليق بهم في الساحات الحكومية، وتعرضوا لممارسات عنف وتنكيل من قبل جهات مختلفة، فإدراكاً لخطوة هذا الوضع المزري أطلق سي إتش مبادرات كثيرة في مجال التربية، من أهمها توفير الدراسات الابتدائية والثانوية مجاناً، وبناء عدة جامعات في مناطق أغرقها طوفان التخلف وأحرقها نيران الرجعية والتقهقر.
فقصة تأسيس جامعة كالكوت أوضح دليل على تضحية هذا القائد البطل الذي أفنى عمره لتحقيق هذا الهدف النبيل، فألقى من أجلها خطابات نارية أثرت مشاعر الأمة الإسلامية وحركت سواكنها وأدمعت مدامعها وهزت أركان قلوبها، حتى انهالت التبرعات والصدقات من شتى الجهات لتحقيق هذا الحلم الكبير الذي أسس على همة أمة وخطة قائد نحرير.
تقع جامعة كاليكوت على حدود مقاطعتي مالابرم وكالكوت، فهاتان منطقتان يسكن فيهما المسلمون بتعداد كبير، بينما يشكل مسلمو مقاطعة مالابرم نسبة 70 في المئة مقابل الهندوس، وهي إحدى المقطاعات التي يسكن فيها المسلمون بأغلبية ساحقة أمثال مرشداباد في بنغال ورامبور في أوتاربرديش وغيرها من مقاطعات آسام وكشمير.
شكلت جامعة كاليكوت التي أسست عام 1968م علامة فارقة في تاريخ مليبار، حيث غيرت الصور النمطية التي التصقت بمسلمي مليبار من التخلف، والتشرذم، والأمية، والرجعية الفكرية، وأهدت لهم صباحاً جديداً من الأمل الذي يوصلهم إلى أعلى مناصب الحكومة، ولا زالت تلك الرحلة مستمرة بكل مجد وشرف، وتخرجت فيها عباقرة الأدب والفنون مما جعلها إحدى الجامعات المرموقة في الهند.
فمن أهم الإنجازات التي رفعت معنويات الأمة، وأتاحت لها فرصاً كبيرة وأثارت ضجة واسعة في أوساط الشيوعية والعلمانية والتنويرية ما قام به سي إتش من منح تقدير اللغة العربية في المدارس الحكومية، وهذه الخطوة الجريئة تركت تبعات إيجابية في صالح الأمة، حيث سنحت الفرصة لمن تعلم العربية ولو بشكل غير رسمي أن يتقلد منصب المعلم في المدارس الحكومية، وذلك مما زاد فرص العمل لكثير من العلماء المسلمين الذين عانوا من البطالة سنين، وخلال هذه الثورة العربية سمعت من بعض المراكز عبارات سخرية من الأمة تستفز المشاعر مثل “والآن لا نرى أحداً في الشوارع ممن يصنعون مظلاتنا وينسجونها، لقد دخلوا صفوف المدارس معلمين”.
لأن نسج المظلة وصناعتها كان من أبرز الصناعات اليدوية التي مارسها العديد من المسلمين، ورغم حجم السخرية التي تحملها هذه العبارات وغيرها فإنها تعبر عن مدى التغيير الذي أنجزه سي إتش بهمته وإصراره.
وفي موقف آخر نراه يزمجر ويزأر ولا يهدأ، وذلك بعد أن جاء أول رئيس وزراء للهند، ومنظر مصيرها جوهر لال نهرو إلى كيرالا مهاجماً رابطة المسلمين عبر خطاباته التي أججت نار الفتنة، فقال أثناء خطبته “رابطة المسلمين أشبه بحمار ميت”، وطارت هذه العبارة محبوكة السخرية والكراهية كالنار في الهشيم، مما أطرق رؤوس أتباع الرابطة ومحبيها، وأخجلهم وأذلهم، فما كان بوسعهم تحمل هذه العبارة التي وردت من قائد بارز مثل نهرو.
فلما وصل هذا الحديث وتناهى إلى مسمع سي إتش انفعل وتأثر، فعزم على إطلاق رد شرس على هذا الخطاب، فعقدت الرابطة مؤتمراً كبيراً اختطف الأضواء الإعلامية، وتجمع فيها آلاف من أتباع الرابطة شوقاً إلى جواب يرد كيد المتربصين، فقام سي إتش بشموخه ومهابته، ونظر إلى محيط هائج مائج من البشر، فاستمد من تلك الأرواح العصية على الذل والهوان القوة وقال بصوته الجهوري وبعبارته الصارمة:
“أيها الرئيس المحترم، اعلم بأن رابطة المسلمين ليست بحمار قضى نحبه؛ بل هي أسد يستريح في عرينه، فإياك أن توقظه وتزعجه”.
فما أن فرغ من كلامه إلا والمحيط البشري يموج حماسة وانفعالاً، ويسمو همةً، لقد وجدوا في خطاب سي إتش ما يسلي خواطرهم التي جرحتها عبارات جوهر نهرو.
لقد كان سي إتش نادرة من نوادر الزمان، وقف لسانه للأمة، ووهب منصبه للأمة، ولم يستغل وضعه ولم يتجر به لأحد، ورفض كل المغريات التي ساومته، وكان غضبه جيشاً لا يقهر، وحبه مسكاً وعنبراً، وعلى حد تعبيره: “سأظل إعصاراً في وجه الذين يتربصون بنا ويسلبون حقوقنا، ونسيماً عليلاً بارداً لمن يقف معنا”.
وقد كان من أجمل أيام مسلمي مليبار وأفخرها وأعزها ذلك اليوم الذي اعتلى سي إتش عرش رئاسة وزراء كيرالا، ممثلاً كل الأحزاب التي جمعت ألوان كيرالا الديمقراطية، وأقصت كل الأحزاب اليسارية، وحدثت تلك المعجزة عام 1979م بعد أن تنازل الحزب الشيوعي الهندي عن الحكومة تاركاً فجوة واسعة، ليتولى سي إتش قيادة الحكومة ومعه كل الأحزاب الديمقراطية من كونجرس بجميع أجنحته التي انشقت عنه، وحزب الاشتراكية الشعبية، وغيرها.
إلا أن فترته لم تطل، ولكنها تركت بصمة جميلة في سياسة كيرالا التي تلاعبت بمستقبل مسلميها ولم تسمح لهم بالتطور والتغير، وأثبتت بكل برهان بأن بحوزة المسلم طاقة روحية وسياسة مخططة بإمكانها أن تركّع كل جبهات الطغاة.
كلما قرأت سيرة هذا البطل أغرقتني الدموع وأورقت لي الأمنيات، فأحلم كأنني أعيش مع جيله الذي حظي برؤية قائد مناسب في وقت مناسب، وأسأل نفسي:
هل يعود لنا تاريخ المجد من جديد، ونتخلص من هذه النار وذاك الحديد؟
فتلك أمنيات أنسجها رغم أنها تناقض الواقع بكثير.
حقاً لقد ترك لنا ملحمة تاريخية يستمد منها الأجيال الصاعدة كيمياء السعادة وروح النضال الذي لا ينتهي، حتى ظللت أسرح في الخيالات التي تبعث الفخامة والشموخ، وأتعجب ككل من يقرأ سيناريوهات الهند السياسية من هذا القائد الذي كسر المستحيل ومحا الصور النمطية الرثة.
رحل سي إتش عن الدنيا يوم 28 من شهر سبتمبر عام 1983م، بعد أن صمم جيلاً شامخاً يمضي قدماً نحو الهدف النبيل، وظلت كلماته تتعالى في سماء الأمة كلما ضربتها رياح الفاشية وأردتها ذليلة مستهانة، ولم يزل الجيل الجديد بشبابه وشيوخه يستحضرون عالم سي إتش لتلقيح أفكاره وإيداعها في قلوب الأجيال.
(المصدر: مجلة كلمة حق)