سيكولوجية الطغاة: هكذا يسيطرون على شعوبهم
بقلم ريهام الشاذلي
ذئب خلف قناع الراعي
ارتبط عادة ظهور الطاغية بوجود حالة من الديمقراطية غير المعهودة، ثم تتبعها حالة من الفوضى، فيظهر ذلك الشخص باعتباره المنقذ الذي سيعيد الأمن والنظام والاستقرار إلى الدولة، ثم يُثبت نفسه بأمر (أو لنقل تفويض) من الشعب ليعيد الاستقرار إلى البلاد، فيبدأ بالتقرب والتودد من الشعب في بادئ الأمر، ويستنكر الظلم ويجزل في وعوده للعامة، ويوزع الأرض على الشعب ويتصنع الطيبة مع الجميع.
وفي الجهة الأخرى يبدأ في تأسيس حرسه الخاص بحجة المحافظة على شرعية الدولة واستقرارها، ثم ما إن يشرع في تكوين الحرس الذى يلتف حوله في الداخل والخارج، يبدأ بإحصاء أعدائه ممن قد يشكلون خطرًا على استحواذه على السلطة، فأعداؤه خارج الدولة قد يتصالح معهم أو في حال آخر قد يعلن الخضوع لهم حرصًا على تأييده.
أما أعداؤه في الداخل، فيبدأ رويدًا رويدًا في التخلص منهم ومن كل التيارات المعارضة له، ثم ما إن ينتهي حتى يبدأ في إشعال الحوادث واختلاق الأزمات واحدة تلو الأخرى، حتى يُشعِر الشعب بالخوف والتوتر وحاجته الماسة إلى مثل هذا الزعيم الوطني الذي وهب نفسه للإصلاح، وما إن تتحقق تلك الغاية حتى يبدأ في ممارساته الخاصة من أجل طموحه الشخصي، فيبدأ بالعمل على إغراق الشعب بالضرائب والأعباء المالية فينشغل الشعب عن معارضته بكسب قوته اليومي بدلًا من التفكير في حسابه أو التخلص من طغيانه. ويصف أستاذ علم الاجتماع أندروز في كتابه «طغاة الإغريق» تلك الحالة التي ينبعث منها الطغاة فيقول:
كان الطغاة يظهرون في فترات الأزمات؛ بحيث تكون تلك الحالة من الفوضى هي المبرر العام الذي يسوغون به الطغيان، فعندما كانت الحاجة تدعو إلى وجود حاكم يعيد الاستقرار ويعالج الأزمة فإنه عندما يحكم يذهب في حكمه أشد من الأزمة التي جاء ليعالجها، فيجعل الضرورة التي جاء ليعالجها تخدم طموحه الشخصي فلا يمكن الفصل بينهما، فضلًا عن أنه ليس من السهل على الحاكم المطلق أن يتقاعد أو يتنازل عن عرشه[1].
بهذه الكيفية تمامًا يظهر الطاغية مرتديًا عباءة الراعي وخلف ذاك القناع ذئب مقيت وعدو أشر، فيبرز أنيابه ليبدأ في إشباع رغباتة مسخرًا كل ما بالدولة لخدمة طموحه، وفي ذلك يتشابه كل الطغاة.
سنن الطغاة
رغم أن الطغيان ممارسة شاذة لا تستند إلى منطق أو قانون ولا لأي حق كان، لكن على مر العصور تشابهت ممارسات الطغاة وسماتهم، فتجدهم جميعًا لا يخدمون سوى مآربهم ولا يلتفتون إلا لما يشبع رغبتهم، وقد تبدأ رذائلهم من كيفية سعيهم وحصولهم على السلطة، فيسيطرون على الحكم بطريقة غير مشروعة، فقد يصل الطاغية للحكم بمؤامرة أو اغتيال أو انقلاب، فهو لم يكن ليحكم لو سُيرت الأمور بطريقة طبيعية، وعندها يحكم الناس بإرادته لا بإرادتهم وبهواه لا بهواهم (والأمثلة لا حصر لها في بلادنا العربية).
ولا يعترف الطغاة بقانون أو دستور في البلاد، بل يفصل الدستور والقانون بما يخدم أغراضه، فأول ما يفعله يصيغ دستورًا جديدًا يحرف فيه كما يشاء لخدمة أغراضه، ثم يشرع في تسخير كل موارد البلاد لخدمة أغراضه سواء المادية أو ملذاته الحسية، فإن عمل مشروعات قومية (لا تفيد الشعب) فهي لإشباع نقصه الداخلي وخلق انتصارات مزيفة لنفسه، فهو يطمح إلى تمجيد نفسه وتخليد ذكراه بعمل ما يُمكنه من التفاخر به ليس إلا ليرضي النقص بداخله، حتى وإن هدم وأهدر موارد البلاد في تلك الأوهام التي لا تصلح لحال البلاد ولا لإصلاح العباد.
ولا يخضع الطاغية للمحاسبة أو المساءلة، فهو لا يُسأل عما يفعل، فيتصرف في أمور الرعية بلا حساب أو خوف، فهو لا يعترف بحقوق الشعب في الاعتراض على سياسته أو قراراته، حتى وإن أذاقتهم الأمرّين، وتلك السمة هي التي تفرق بين الحكم الديمقراطي الحق وغيره من الديمقراطيات المزيفة، فالحاكم في الأنظمة الديمقراطية يحاسب كأي فرد فلا أحد يعلو على القانون.
يضع الطاغية نفسه في وضع قدسي، فيرهب الناس بالتعالي ويذلهم بالقهر والقوة وسلب الأموال، ثم يتخذ من أهل الدين بطانة تربطه مع الله، فيبطش ويظلم باسم الله! ولا عجب أن ترى من بطانته من هم رهبان ومشايخ فهو يعلم جيدًا سلطة الدين على النفوس، فيتخذ منه درعًا واقيًا لتسكين النفوس ضد المقاومة باسم الدين.
ويجمع الطاغية بين أنواع الاستبداد، فتراه يقدم أهل الجهالة على أهل العلم (استبداد الجهل على العلم) ويقمع الشعب تحت وطأته باسم الدين (استبداد باسم الدين)، ثم تراه يستعمل جميع الوسائل المتاحة ليسيطر على عقول الشعب، فلو استطاع أن يغرس في عقولهم أفكاره هو وما يجب أن يفكروا به وما لا يجب لفعل ذلك (استبداد النفس على العقل)[2].
وهذا قليل من كثير لا يتسع المقال لذكره، ولعل الأهم من تعداد خصالهم تسليمنا بأن الشعوب إلى اليوم لا يزال ينطلي عليها هذا الخداع الذي لا ينفك يتكرر ويتكرر عبر التاريخ، ألا تتعلم البشرية شيئًا من تاريخها، أم أن آفة حارتنا النسيان؟
هكذا يسيطرون…
يتربعون على العرش ويحوزون السلطة المطلقة ويعيثون في الدول فسادًا، فأنى لهم بالسيطرة على شعوب ليست بالقليلة؟ ولعل هذا التساؤل قديم قدم الطغاة أنفسهم، فمنذ 5 قرون تقريبًا كتب الفيلسوف الفرنسي أتين دي لابواسيه في مقالتة الأشهر «العبودية الطوعية» متسائلًا:
أما الآن فلست أبتغي شيئًا إلا أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من الأمم أن يحتملوا أحيانًا طاغية واحدًا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر ما أمكنهم احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته، إنه لأمر جلل، وإن كان أدعى إلى الألم منه إلى العجب أن نرى ملايين البشر يخدمون في بؤس، وقد غُلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر[3].ـ
يبدو تساؤل لابواسيه مثيرًا للحيرة، وهذا ما نسعى دومًا لتفسيره إلى يومنا هذا، فإن كانت الشعوب تخضع وتستسلم بهذه الطواعية، فلا بد من وجود أسباب عديدة بعضها مرجعه طبيعة الشعوب التي أُورِثت الخوف والخضوع وتشربته جيلًا بعد جيل، وبعضه الآخر مرجعه إلى الوسائل النفسية المعروفة بـ«علم نفس الجماهير»، والتي سنفرد لها مقالًا مفصلًا فيما بعد.
أيًا كانت الأسباب فإن النتيجة واحدة بالنهاية، لكن لنسلم بأن صفة الذل والخضوع لم يكونا ملازمين للفطرة البشرية بأي حال من الأحوال ولم توجد من فراغ، فالطغاة يُحكِمون قبضتهم وينفذون سياستهم رويدًا رويدًا بالقوة تارة، وبالحيلة تارة أخرى، بل ويستخدمون نظريات علم النفس الجماعي التي وضعت من الأساس لفهم وتوعية الجماهير لصالحهم، حتى يحولوا الجموع الغفيرة إلى مسوخ لا تملك مثقال ذرة من حريتها، ويصيروا مسلوبي الإرادة.
ولما كانت الغاية واحدة لدى كل الطغاة فجميعهم متشابهون ودائرة الطغيان لا تمل أبدًا من تكرار نفسها؛ كان من اليسير على علماء النفس والاجتماع معرفة طرقهم الخبيثة للسيطرة على الأمم والاحتفاظ بالحكم ومن ثم التلاعب بالجماهير وإخضاع الشعوب لحكمهم بكل استسلام.
فأول ما يشرعون به تدمير روح المواطنين، فيثقلونهم بالهموم والأعباء ليصبحوا عاجزين عن فعل أي شيء، ثم يتحكمون بقوتهم ويشعرونهم أن ما يأخذونه من حقهم الطبيعي هو منة منهم وفضل، فتنبت في نفوسهم الخسة والوضاعة. ثم يثيرون الفتن بين أبناء الوطن ليفرقوا وحدتهم، فلا يجب أن يتحد الشعب تحت أي مسمى أو ينتصر لنفس القضية، فتراهم يزعزعون ثقة المواطنين ببعضهم فيخوّن بعضهم بعضًا.
تعزز سياسات الطاغية الانقسام بدلًا من الوحدة، والفروق وتقسيم الشعب إلى فئات وطبقات، فيرفع الأغنياء ويخصهم ويثير حقد الفقراء عليهم بأن يزيد الأغنياء غنىً بسياسته المرهقة للفقراء فقط، والقوانين التي لا تسير إلا على الكادحين من المواطنين، فتنشب الفرقة والحقد والكراهية فيما بينهم، فلا يتفقون ولا يلتفون أبدًا تحت غاية واحدة. بل والأدهى من ذلك أن يحثهم على الكراهية فتراهم يشون ببعضهم البعض لدى حكومة الطاغية، وهو بذلك يجعل من المواطنين جواسيسه بعضهم على بعض فيترك أمرهم بينهم.
والطاغية يكره المعرفة وكل ما من شأنه أن يُكسب المواطنين الوعي ومعرفة الذات التي تكسبهم الثقة بأنفسهم، فتراه يمنع التجمعات الفكرية والملتقيات الثقافية ويهمل التعليم ومن ثم يقضي على أية رموز بارزة، والعقول الناضجة، والمفكرين، خوفًا من أن يعيقوا سياسته لإغراق المواطنين في الجهالة.
والطاغية يُذكر الشعب دومًا بأنه لولا وجوده في الحكم ما ظل الحال كما هو وأنه المنقذ والواهب، ويذكرهم بفضله عليهم، فالسلطة التي بين يديه يدّعي أنه لم يكن يريدها وإنما قد قبل بها لأجل الرعية، وذلك لينبت في نفوسهم الشعور بالامتنان والفضل له.
وهنا تنتهي مهمة الطغاة، فقد هيأوا الشعوب لتنساق وتخضع، فتتولى الشعوب باقي المهمة بممارسة المزيد والمزيد من الاستسلام، فكل ما سبق هو تمهيد فقط للمرحلة القادمة من بسط السيطرة والتحكم، فبعدما تم تدمير روح الأمة وإشعار أفرادها بالمهانة والخنوع وزعزعة ثقتهم في أنفسهم وزرع الخوف والشك بداخلهم؛ فقد تحولوا من أفراد لديهم وعيهم الخاص بذواتهم إلى جموع (جماهير).
وهذا في الأساس ما يسعى إليه كل مستبد، أن يقولب الشعب في قالب واحد مهما تعددت طوائفه ليلغي الوعي الفردي ويبدأ مرحلة من اللا وعي الجماعي، أو ما أسماه غوستاف لوبون «الوحدة العقلية للجماهير»؛ وفيها يكون الجمهور الغفير من الشعب تحت تأثير ذلك اللا وعي الجماعي فتنساق الجموع خلف من يستطيع أن يقودها[4].
هكذا يسيطر الطغاة، يتغلغلون إلى نفوس الشعوب فيرون ضعفها فيستخفّون أقوامهم فيُخضِعونهم، ولعل ما سبق لا يعني أن الشعوب الخاضعة ضحايا لأنظمة مستبدة وسياسات قذرة تتلاعب بهم، فبالطبع لا يمكن إخلاء مسؤولية الشعوب عما أحاط بهم من حكم الطغاة، فلا يوجد أي مسوغ لتقبل تلك الممارسات إلا إذا سمحت الشعوب بذلك في بادئ الأمر، ولعل التاريخ مليء بالأمثلة على شعوب خضعت واستمرت في الخضوع وأخرى انتفضت وقاومت ونالت حريتها.
(المصدر: موقع “إضاءات”)