مقالاتمقالات مختارة

سيد قطب.. لماذا يزعج الأنظمة الطاغية؟

سيد قطب.. لماذا يزعج الأنظمة الطاغية؟

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

في فجر يوم 29 أغسطس من عام 1966م قبل اثنين وخمسين عاما تم تنفيذ حكم الإعدام على سيد قطب إبراهيم الشاذلي، أشهر مفسر للقرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري، عن ستين عاما، بعد رحلة حافلة من العطاء الأدبي والجهاد الفكري والتربية الروحية ترك خلالها تراثا عظيما نهض به الفكر الإسلامي وتربت عليه أجيال ترفدها هذه الأدبيات الجديدة بالعلم والبصيرة حين تُستقى من القرآن الكريم مباشرة والسنة النبوية المطهرة.

ولقد ترك الأستاذ سيد قطب أدبيات مبتكرة في مجالات شتى، منها: المجال الأدبي شعرا ونثرا، والمجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي، والمجال القرآني، والمجال التربوي، والمجال الفكري، ويعتبر الأخير هو أبرز المجالات التي أعطى فيها سيد قطب جهده ووجده، رغم أن عطاءاته في المجالات الأخرى فيها الإبداع والتجديد ماثلا وبارزا إذا قرئ في سياقه وملابساته، ووضع في إطار تاريخ العلوم التي كتب فيها: وحسبك أن تقرأ كتابيه: خصائص التصور الإسلامي، ومقومات التصور الإسلامي؛ حيث يعتبر الأخير محطة تاريخية فارقة في موضوعه.

ويبرز سؤال هنا له أهميته وحضوره، وهو لماذا يزعج سيد قطب الأنظمة الطاغية والحكام المستبدين فيسلطون علماء سلطاتهم وعملاء شرطاتهم عليه تجريحا، وتشويها، وعداءً، وافتراء في بعض الأحيان، ويبرز هذا في عصور الاستبداد والطغيان مما يعزز طرح هذا السؤال بشكل واضح؟! والجواب من وجهة نظري ومن خلال اهتمامي بسيد قطب وما تركه من تراث وأدبيات، وما روي عنه من مواقف وكلمات، يتمثل في عدد من الأسباب:

أولها: أن سيد قطب لم يخضع لطاغية عصره، ولم يوافقه على ما أراده عليه، ولم ينثنِ أو يعط الدنية في دينه وفكره وعقيدته، بل وقف كالطود الشامخ والجبل الأشم في عزة وشموخ واستعلاء تليق بمثله وتليق أمام هؤلاء الزبانية، حتى قدم روحه رخيصة في سبيل الله، وفي سبيل ما يحمل من إيمان وعمل وجهاد، وهذا يمثل نموذجا بطوليا يعشقه المسلمون لا سيما في عصور الاستضعاف والهزيمة والهوان .. وهذا لا شك يغيظ أنظمة الاستبداد، ويقض مضاجعهم، ويزعج نفوسهم، فيريدون أن يشوهوه أمام الأجيال حتى لا يتمدد أنموذجه وينشأ في الأجيال ما فيه منه مشابه.

ثانيا: أن كتابات سيد قطب لها مذاق خاص، ولها جاذبية كبيرة، لم يقرأه أحد إلا تعلق به، ورأى في عبارته المتكاملة: أدبا وروحا وفكرا ونفسا ووجدانا، ما كان يبحث عنه ويرجو قراءته، فتستبد به كتبُه وتنفرد به دون سواها من المصنفات، وعلى رأسها الظلال، ذلكم الكتاب الذي لم يُؤلَّف في الإسلام مثله! ..

ثالثا: أن كتب سيد قطب من أوسع الكتب انتشارا في العالم، ومن أكثرها ترجمة، فكتاب الظلال ترجم للغات الدنيا وأقبل الشيب والشبان عليه وعلى فكره وفقهه؛ نظرا لما في أدبياته الفكرية والقرآنية من تجديد واجتهاد فكري حقيقي، ولما تضمنته من أبعاد إنسانية شفافة ورقراقة في أدبه وشعره، وكذلك في نثره (أفراح الروح مثالا)، وما يحمله مشروعه الفكري من آفاق واسعة ومجالات رحبة جعلته مثار نظر المسلمين وغير المسلمين، ومنحت لإنتاجه مجالا رحبا للدراسات الأكاديمية والبحثية، وهذا ما يعطي لمشروعه الفكري أبعادا قوية تزيد من إزعاج الطغاة والمستبدين.

رابعا: أن سيد قطب لم يمثل الممانعة في مواقفه فحسب بل فيما خطب وكتب، ففي عصره انتشرت التنظيمات الماركسية والناصرية والطليعية وتقدمت كتائب الزحف الأحمر (الشيوعية)، وشرقت وغربت بتنظيماتها العنقودية، ولمواجهة هذه التنظيمات آمن سيد قطب أن هذه التنظيمات لا تواجه بأعمال فردية، ومحاولات عشوائية، ولكن لابد من مواجهة جماعية بتنظيم عضوي حركي يفوق هذه التنظيمات أو يكون مماثلا لها على الأقل، وهذا هو صلب فكرة كتابه المظلوم (معالم في الطريق) الذي كان سببا من أسباب إعدامه .. ولا يخفى ما في هذا الفكر المقاوِم والمواجِه من خطورة على الأنظمة الطاغية والحكام الفسدة المستبدين.

سيظل القطب سيد نجما في سماء الأدب والفكر والدعوة والتربية، وسيبقى يمثل ملحمة في التضحية النبيلة والثبات المبين، وستستمر الأنظمة المستبدة منزعجة منه ومن فكره وعمق تأثيره

خامسا: أنه – يرحمه الله -قد ضاعف مشهدُ استشهاده قيمة فكره ومواقفه، فصبغ به العلم بالعمل، وأبرز مع العطاء الممتد التضحية النبيلة، وخلعت على كتابه مصداقية وتمثلا، وهذا له تأثيره النفسي الكبير بما يثمر انتشارا واسعا مما تعبر عنه مقولته التاريخية: (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة) ومن هنا يريد الطغاة أن يحولوا بين الناس وبين سعة انتشاره وعمق تأثيره فيُقْدِمُون من خلال سماسرتهم على تشويهه وشيطنته، وتحميله مسئولية فكر التطرف وتطرف الفكر، ومسالك التفجير والتكفير.

لا شك أن سيد قطب بشر غير معصوم، لم يدَّع العصمة ولا ادعاها له أحد؛ فهو يصيب ويخطئ، ويؤخذ منه ويُترك، وقد ماتت العصمة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من اجتماع الأمة بعده، فهي لا تجتمع على ضلالة، ومع ذلك فسيظل القطب سيد نجما في سماء الأدب والفكر والدعوة والتربية، وسيبقى يمثل ملحمة في التضحية النبيلة والثبات المبين، وستستمر الأنظمة المستبدة منزعجة منه ومن فكره وعمق تأثيره وسعة انتشاره، فيقومون بتسليط علمائهم (عملائهم) عليه تجريحا وشتما وتشويها وافتراء؛ حيث لا يزداد شهيدنا به إلا انتشاره وتأثيرا وتألقا.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى