مقالاتمقالات مختارة

سيد قطب.. سيرة حافلة بالصبر والعطاء

سيد قطب.. سيرة حافلة بالصبر والعطاء

بقلم عرابي عبد الحي عرابي

ربمّا لم يبلغ أحد من المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين ما بلغه سيد قطب سواء من حيث القبول أو الرفض، بين جفاء معه وتنفير منه واتهامه بالتكفير والتأسيس لنزعات العنف لدى جماعات الجهاديين المختلفة، وبين منافحة عن منهجه والاقتناع المطلق بجميع آرائه.

وهنا لا بدّ من التساؤل عن السبب الذي امتلك به سيّد هذا الحضور، وسبب استمراره في الساحة الفكرية الإسلاميّة إلى هذا اليوم؟

لحظات الشهادة، دقائق الشهود

فجر يوم الاثنين الموافق لـ29 أغسطس/آب 1966م، وقف رجل أزهريّ يلقّن سيد قطب الشهادتين قبيل تنفيذ حكم الإعدام به، قائلاً له “قل لا إله إلا الله”. فما كان من سيّد قطب رحمه الله إلا أن قال له: “وهل جئت هنا إلا من أجلها!”.

لقد كان الإصرار على إنفاذ حكم الإعدام ضد سيّد من أهم المحطّات التي يجب قراءتها والتوقف عندها في سيرة الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر، الذي لو تسنّى لنا الاطلاعُ على نفسيته عشيّة تلك الحادثة لربما رأيناه يطيل النظر في لحظاته حين كان يهتف لسيد قطب متعهّداً له بحمايته، ويقارنها بموقفه أثناء الخصومة المتخيّلة بينهما.

انتقد سيد قطب الملكيّة التي كانت مصرُ ترزحُ تحتها، كما دعم حراك ما عُرف بالضباط الأحرار عام 1952 حيث نشر في مجلة الرسالة مقالات عديدة في هذا السياق، ومن بينها “هدية للأحرار الذين طهروا الوادي وكرموه”، وقد اهتمّ الضباط الأحرار بسيّد وعدّوه ملهماً لهم، وقد اجتمع عددٌ منهم، من بينهم عبد الناصر، في منزله قبل الثورة بأربعة أيام، ولعلّ سيد كان الشخص المدني الوحيد الذي حضر أحياناً اجتماعات مجلس قيادة الثورة.

لقد توطدت العلاقة بين سيد قطب وجمال عبد الناصر الذي عيّنه عضواً في “هيئة التحرير”، وحين عقد عبد الناصر احتفالاً بهذه الهيئة في أغسطس/آب 1952 في نادي الضباط في منطقة الزمالك حضره الضباط الأحرار والأدباء، قال سيد في كلمة الحفل: “إن الثورة قد بدأت حقاً، وليس لنا أن نثني عليها، لأنها لم تعمل بعد شيئاً يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام”. ثم تابع سيد “لقد كنت في عهد الملكية مهيّئاً نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضاً، فأنا في هذا العهد مهيئٌ نفسي للسجن أيضاً، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل”. إلا أن عبد الناصر وقف يهتف “والله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا”.

لم تمض ستة أشهر حتى افترق سيد عن الثورة ورجالاتها بعد أن رأى ما لا يعجبه فتركهم، وما هي إلا شهور حتى دارت الأيام ضدّه فوضع سيّد مع آلاف الإخوان عام 1954 في زنازين الاعتقال وحكم عليه بخمسة عشر عاماً، فازداد صلابة وإصراراً رغم آلامه وأمراضه، وتجلّى نبوغه الشعري الصابر بقصيدته الشهيرة “أخي أنت حر وراء السدود” وقصيدته “هبل“، ورغم الإفراج عنه لدواعٍ طبيّة في مايو/أيار 1964 أعاد عبد الناصر اعتقاله مرة أخرى في 30 يوليو/تموز 1965م ليُحكَم عليه بالإعدام مع ستة آخرين.

في تلك الليلة نشر التلفزيون المصري صوراً لسيد قطب خارجاً من السجن رافع الرأس، يمدّ يده مصافحاً الجنود والحراس ومودّعاً إياهم بابتسامة مشرقة، وكيف لا وهو المقبل على الله المسرور بلقاء ربه، وهو الذي قال سابقاً: “ستظل كلماتنا عرائس من الشمع، لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها، دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة”.

فكر سيّد، البناءُ المركّب

امتلك سيد قطب توليفة من الصفات الكبيرة التي مكّنته من التعامل مع القضايا الفكريّة واليوميّة، فهو إلى جانب صبره وهمّته العالية، قارئٌ نهِمٌ ومفكِّر جادٌّ، وصاحب نزعةٍ ثوريّة في مواجهة الجهل والظلم والاستبداد والتخلّف، فقد اشتدّ في موقفه ضد الإقطاعيّة والملكيّة في مصر ووقف مع الفلاحين لتملّك الأرض في مواجهة الإقطاعيين كما جاء في “قوة الكلمة” ضمن مجلة الرسالة، وواجه مختلف نماذج التديُّن الفاسد خاصّة أنماطه المدعومة من جهات غير إسلاميّة، كما في مقاله “الإسلام الأمريكاني” الذي بوصفه لا يقاوم الاستعمار والطغيان، بل الإسلام الموظّف لمواجهة أعداء أمريكا كالشيوعية، الإسلام الذي لا يحكم ولا يستفتى في أوضاع المسلمين الاجتماعية والاقتصادية أو أنظمتهم الماليّة والسياسية وصلاتهم بدل الاستعمار. وحاول تبيين المنهج الاقتصادي للرأسماليّة وتنافرها مع الإسلام في كتابه “معركة الإسلام والرأسمالية”، ودوّن مقالات في كتابه “أمريكا من الداخل” ليوضّح فساد النموذج الأمريكي.

لقد كان سيد أديباً ألمعيّاً، جمع بين رشاقة القلم، وجمال الشعر، وفخامة المعنى، وجزالة اللفظ، والإحاطة بالمناهج النقدية، فأبدع بين التأصيل للنقد الأدبي وطرائق الفهم والبحث في البلاغة القرآنية، فنراه يكتب “التصوير الفني في القرآن” و”مشاهد القيامة في القرآن” و”كتب وشخصيات” و”مهمّة الشاعر في الحياة” و”النقد الأدبي أصوله ومناهجه” الذي أودع فيه خلاصة فكره ونظريته عن أصول النقد الأدبي والمناهج التي ينبغي اتباعها من الناحية الفنية أو القيمة الموضوعية.

لن يغيب عن سيد وهو الساعي لبيان أصالة كثير من العلوم والمناهج في الإسلام أن يكتب في التاريخ وهو يتحرك على الدوام في معالجة التاريخ والواقع في إطار التفسير الإسلامي لحركة التاريخ، ضمن منهجية تتناول تاريخ الخلافة الراشدة وما تلاها من مراحل ملك عضوض فكتب “في التاريخ فكرة ومنهاج” و”في ظلال السيرة” و”التصور الإسلامي للحياة والإنسان”، وقدّم في كتابه الأعظم “في ظلال القرآن” وفي كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” و”معالم في الطريق” إشارات مهمة حول قوانين التاريخ وسننه.

هدي القرآن، الطريق من هنا

لم يكن سيد قطب بعيداً عن إدراك حقيقة التحولات التي تضرب العالم وتحيط بالمنطقة، ولذا نراه يحيط بمقومات الفكر من جوانب متعدّدة، باحثاً في النظم الاقتصادية والسياسيّة والفكرية، ومدقّقاً فطِناً في سنن التاريخ، ليصل، كما وصل مفكرون كثيرون مثل رينيه غينون، إلى أن العالم يتعرّض للهلاك وأن نظم الحضارة الغربية تدفعه للبؤس والشقاء دون توقّف.

لقد كان الطريق أمام سيد واضحاً، فلتجاوز أزمات البشرية لا بدّ من جبل يعصمها من الغرق، وقد كان ذلك العاصمُ كلام الله المنزّل في آي القرآن، حيث انكبّ سيد يتأمّل القرآن في ضوء أزمات البشرية في ظلمات السجن، ليخرج لنا بموسوعته الفيّاضة بالجمال “في ظلال القرآن” التي ما قرأها أحدٌ إلا وتأثّر بها، داعياً الناس للاستماع إلى ربهم وأن يوفوا بمهمتهم التي أوكلهم بها، أي إعمار الأرض والإنسان، والطريق لديه واضح، فلا بدّ من التوجه بدءاً إلى النبع الصافي، أي القرآن، ليتلقى منه العقيدة الصافية وتعلّم الارتقاء إلى مستوى الرسالة المأمورين بتبليغها.

وهنا جاء كتابه “معالم في الطريق” حيث يعلي قيمة الحرية ويجاهد لقهر العبودية بمختلف مسمّياتها وأساليبها، حيث “تقف البشرية الآن على حافة الهاوية، لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها، ولكن بسبب إفلاسها في عالم القيم”.

لقد حصر سيد معركته ضد مكونات الجاهلية القديمة والمعاصرة أي الظلمَ والاستبداد والاستعباد وإفساد العباد، ولم يقل بتكفير أحدٍ بعينه فضلاً عن تكفير مجتمع ما، وإنما تصدى للظلم والعدوان وإذلال الإنسان.

البهتان الأثيم

يعيب كثيرون على سيّدٍ رحمه الله أنه عبّر عن حمولته الفكرية بتقاطعاتها وتوليفاتها الفريدة، بمصطلحات ما زال التنازُع في تفسيرها مستمرّاً إلى اليوم، بين محبّيه وكارهيه، حيث يأخذ كلّ متابع له معنىً غير ما يأخذه الآخرون، كـ”الجماعة المؤمنة”، و”المجتمع الجاهلي”، و”الحاكمية”، و”العزلة الشعورية”، و”المفاصلة”.

إن المؤكّد، والحال هكذا، أن منابر كارهيه لم تترك لحظة أو فرصة للطعن في سيد إلا استغلتها لتلقي عليه الاتهامات جزافاً، لا إحقاقاً للحق، بقدر ما كانت الغاية تشويه فكره بكل ما فيه ليقضى على جذوره وثماره، فجعلوه رمزاً لتكفير المجتمع والأفراد، وألصقوا به دعوى إباحة دم غير المؤمن.

لقد أولى سيّد اهتماماً بالغاً ببيان نواقض الإيمان التي يقررها الكتاب والسنة، وربط مبدأ “الحاكميّة” بـ”الحريّة” المبتغاة، فلا تصح العبودية المطلقة لله مع الإقرار بأيديولوجيات وتشريعات مناقضة لدينه وتعاليمه، ورغم ذلك فإن كتابات سيد، بحسب د. عمر الأشقر، لم تَحوِ نصّاً واحداً يُصرِّح فيه بتكفير المجتمعات والأفراد، ومن ثمّ فإنه يجب قراءة نصوصه وأفكاره على وجه مقارنٍ ومتوازن بعضها على ضوء بعض.

فهل يمكن أن يأتي ذلك اليوم الذي نشهد فيه إنصاف سيّد دون تعالي بغضاء المزيّفين؟

المصدر: تي آر تي TRT عربي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى