سياقات التطبيع مع “إسرائيل”.. هشاشة المشروعية والتناقضات البينية
كيف يشتغل الإسرائيلي في المنطقة العربية؟!
لا يوجد أوضح من اشتغاله على التناقضات العربية، فعودة العلاقات المغربية الإسرائيلية كانت الثمن المدفوع مغربيّاً مقابل الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء الغربية، وهي قضية كان ينبغي أن تُحلّ عربيّاً، وعلى الأقل أن تُحلّ بين المغرب والجزائر في إطار ما يخدم المصلحة العربيّة، وما يزيل المخاوف المتبادلة، ويجعل المصالح الضيقة بكلّ دولة مسقوفة بفضاء أوسع، تدور تحته التناقضات المتوقعة وتضارب المصالح المحتمل، كما هو شأن الأمم الآخذة في التفاهم والتعاون، بالرغم من ماضي الصراع الذي حكمها قروناً. والمغرب والجزائر هما الأقرب جغرافيّاً إلى أوروبا، ذات التجربة الفريدة بهذا الخصوص.
ظلّ السؤال قائماً، خاضعة إجاباته لكثير من النظريات، عن الأسباب التي خلّفت العرب وراء الأمم، وحالت دون استيعابهم اختلافهم في إطار جامع، يكرّس التعاون الجادّ والتكاملي بدلاً من التنافر، ويملك أدوات تنظيم المصالح، وعلاج التناقضات، وحلّ الخلافات بفاعلية، وبقدر ما كانت الإجابات تحيل لدور الاستعمار، والنخب الحاكمة التي تلته في بلداننا العربية، والتزامها بالشرط الاستعماري، فإنّ أزمة المشروعية عامل مهم، لا يقلّ أهميّة عن العامل الاستعماري، وهي مرتبطة به على أيّ حال.
تتسلّح السلطات الحاكمة في تثبيت موقعها في النظام الدولي وفي دفع الضغوط عنها، بمشروعيتها الشعبية، ولذلك كانت المشروعية الشعبية مستهدفة دائماً من القوى الاستعمارية. ويمكن باختصار، تأكيد هذه النظرية باستذكار المؤامرة الاستعمارية لإسقاط حكومة مصدق في إيران سنة 1953، بتنظيم مشترك بين CIA وMI6، وبات الدور الغربي في هذا الانقلاب حقيقة، تقرّ به القوى الغربية التي شاركت فيه، ولم يعد الأمر محض أوهام ناجمة عن هيمنة نظرية المؤامرة، وكذا سلسلة الانقلابات في تركيا، والتي كان آخرها محاولة 2016. ولم يكن الانقلاب على الرئيس الدكتور محمد مرسي ببعيد عن العامل الاستعماري، ولا سيما الدور الإسرائيلي، وذلك في سياق المساعي لاحتواء الثورات العربية.
القضاء على الرأي العام العربي، والإجهاز على التحوّل الديمقراطي في البلاد العربية، كان مصلحة مشتركة واضحة بين قوى الاستبداد والاحتلال الإسرائيلي
السعي لاحتواء الثورات العربية عزّز من تحالف قوى الاستبداد في النظام الإقليمي العربي مع الاستعمار، وهذه المرّة مع الاستعمار المباشر في قلب المنطقة العربية، أي مع “إسرائيل”. فالقضاء على الرأي العام العربي، والإجهاز على التحوّل الديمقراطي في البلاد العربية، كان مصلحة مشتركة واضحة بين قوى الاستبداد والاحتلال الإسرائيلي، وهذا الأخير استفاد إذن، من جهة، من هشاشة مشروعية تلك الأنظمة، واستنادها تاريخيّاً للحامي الغربي (في مشرقنا العربي: البريطاني ثم الأمريكي)، أكثر من استنادها لمشروعية شعبية في عالم متغير، ثمّ استفاد من تناقضات تلك الأنظمة فيما بينها.
مليارات الدولارات، على حساب أرزاق العباد ومشاريع التنمية، صبتها الأنظمة الخليجية في صراعها البيني، وبعد حصار قطر على اللوبيات ومراكز النفوذ في الولايات المتحدة، فضلاً عن الرّشا في أماكن مختلفة في العالم، في صورة صفقات سلاح وتمويلات واستثمارات، لم تكن أولوية وإنما أملاها الصراع البيني الذي تستفيد منه “إسرائيل” لتعزيز نفوذها عربيّاً، ولابتزاز الجميع، حتّى تجد بعض الدولة، غير راغبة، نفسها مضطرة للتعاطي مع هذا الابتزاز، إمّا لصغر حجمها وحساسية موقعها، أو لأنّها لم تتمكن من مراكمة قوّة ذاتية وشرعية شعبية، أو لأنّ المنطقة برمّتها، بحكم ارتهانها للخارج وفساد نظمها عموماً، لا تسمح بانفراد دول في تطوير نفسها على نحو مختلف.
إذا كان الفلسطيني يعاين الجندي الإسرائيلي، فإنّ العربي بات يعاين وكلاءه، أو يعاين تخلّفه وهشاشة دولته وتبعيتها وارتهانها وتخلّفها عن تحقيق شيء ذي بال من وعودها، والإسرائيلي سبب أساس في ذلك
الأحداث المتلاحقة منذ الثورات العربيّة وحتّى الآن، لا ينبغي أن تترك مجالاً للحديث في ما هو أولى، فلسطين، أم القضايا العربية الداخلية وفي طليعتها الاستبداد والارتهان للخارج، ولا ينبغي أن تسمح بذلك الهذر حول إمكانية التخلّى عن فلسطين، فالقضية الفلسطينية هي قضية العرب، لأن الاستعمار الصهيوني يستهدف إبقاء البلاد العربية ضعيفة، وهشة، وذليلة، وتابعة، ويستهدف سحق الرأي العام العربي، لأنّ استمراره (أي الاحتلال) محال دون ذلك، كما أنّ هذه وظيفة أريدت منه أساساً.
يمكن قول الكثير عن الأسباب الموجبة لمركزية فلسطين في الاهتمام العربي، بعض هذه الأسباب سيوصم بالخطابي، أو بالتاريخي مما أنهته التحولات المتعاقبة الضخمة، ومع أنّها أسباب صحيحة ومحقة ولا تسقط بالتقادم، ولا يمكن أن يخلو منها الضمير العربي والمسلم، فيكفي الحديث في سبب واحد عمليّ واقعي، يمس العربي بقدر ما يمس الفلسطيني، فإذا كان الفلسطيني يعاين الجندي الإسرائيلي، فإنّ العربي بات يعاين وكلاءه، أو يعاين تخلّفه وهشاشة دولته وتبعيتها وارتهانها وتخلّفها عن تحقيق شيء ذي بال من وعودها، والإسرائيلي سبب أساس في ذلك.
(المصدر: عربي21)