بقلم أ. أنور قاسم الخضري
يمثل المجتمع بكل مكوناته وفئاته، إضافة إلى العوامل الطبيعية والموارد والثقافة، البيئة السياسية للقائم بالعملية السياسية. فهو لا يعمل في الفراغ أو في محيط مغلق وثابت بل في بيئة معقدة ومتشابكة وليس لها ثبات بل هي متحركة ومتقلبة. لذلك فإن من الأهمية بمكان على القائم على العملية السياسية في التيارات والأحزاب الإسلامية تحليل بيئته السياسية تحليلا دقيقا، ليشكل خريطة شاملة وكاملة لكل معطيات الواقع الاجتماعية والديمغرافية والثقافية. وهو بذلك يحتاج إلى البيانات والمعلومات الدقيقة والأسس العلمية والموضوعية التي ينتهجها في وصف وتحليل هذه البيئة. فلا يكفي اليوم أن تكون هناك تقريرات فردية أو سطحية أو عاجلة للحديث عن البيئة السياسية وبناء الخطاب أو الموقف السياسي بل والحركة والرؤية الكلية عليها.
وهنا يمكن تعليل حكمة أن غالب الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- أرسلوا في أقوامهم وبعد مضي الأربعين من أعمارهم وذلك حتى تتشكل لهم الخبرة المتراكمة عن المجتمع الذي يعيشون فيه وسيعملون خلاله. بل إن الله تعالى لما أراد إرسال موسى –عليه الصلاة والسلام- لآل فرعون هيأ له من الأسباب ما جعله يصل إلى البيئة المستهدفة بالبلاغ والخطاب ليكون ذلك أبلغ في التمكن من الأسلوب الأفضل والوسيلة الأسهل، فعاش وترعرع في قصور فرعون ومع حاشيته.
فالأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- لم يكونوا أناسا معزولين عن أقوامهم فضلا أن يكونوا من خارج البيئة المرسل إليها. كما أنهم لم يكونوا رهبانا منقطعين عن ممارسة الحياة الطبيعية والنشاط الاجتماعي والاقتصادي بل والسياسي. فهم أناس يتزوجون ويعيشون حياتهم الأسرية بشكل طبيعي. وهم أناس يسعون في طلب الرزق بما يتاح لهم من المهن والأسباب وهذا يوجب تعاملهم مع الناس. يقول تعالى: }وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ{[1]. وهم من أشراف قومهم وأوسطهم نسبا فليسوا من نسل ملوك أو أناس مهمشين، وهذا يعطيهم تمكنا من التواصل مع كافة الشرائح والفئات. وفي البخاري من حديث أبي سفيان –رضي الله عنه- أن هرقل قال له: “سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه”. كما أنهم مختلطون مع قومهم في همومهم وآلامهم وآمالهم. ومن قرأ كمثال على ذلك سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته علم ضرورة أنه -مع عصمة الله له- كان إنسانا طبيعيا في مجتمعه، محتكا بهم، ومعايشا لهم، وقريبا منهم، ومتعاملا معهم.
تركيبة البيئة السياسية:
إن الحديث عن تركيبة البيئة السياسية اليوم لأي مجتمع وتحت مظلة أي دولة، سواء في الوطن العربي أو الإسلامي أو أي دولة من دول العالم، لم يعد سهلاً وبسيطاً. وقد أشرنا في المقالات السابقة إلى طبيعة التحولات التي شهدتها دول ومجتمعات اليوم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، بحيث أننا لم نعد نرى الدولة البسيطة في تركيبها الاجتماعي أو الديني أو الاقتصادي أو السياسي. وهذا بدوره فرض نوعا من العلاقات والصراعات على كافة المستويات.
فأي بلد عربي أو إسلامي اليوم لم يعد يخلو من:
– تركيبة قومية وعرقية: فهناك عرب وأكراد وبربر وترك وفرس وأفارقة وأقباط.. إلخ، وهي مع هذا التصنيف قد ارتبطت وتداخلت اجتماعيا بالمصاهرة والنسب. ولكل عرق -أو قومية- لغته الخاصة، وثقافته المستقلة، وموروثه الحضاري وهويته الاجتماعية. ثم هي بعد ذلك تتوزع على:
– تركيبة قبلية وعشائرية: فكل قومية أو عرقية تتضمن عشائر وقبائل متباينة ومتفاوتة في نقائها السلالي أو في اختلاطها مع القوميات والأعراق الأخرى. ولكل واحدة منها خصائصها وعاداتها وتقاليدها، وبيئتها الجغرافية ونشاطها الاقتصادي.. ما بين رعي أو زراعة أو صيد أو تجارة أو غيرها.
– تركيبة دينية ومذهبية: وهي تركيبة قد تضم أحيانا المتباين من الأعراق والقوميات والعشائر. فقد صهر الإسلام مثلا كثيرا من الشعوب في مكونه الاجتماعي بعد أن وصل ظلال الدولة الإسلامية مساحة عريضة من الأرض. كما أن الكنيسة المسيحية –وفي ظل الاستعمار وتبشيرها المستمر- وطنت الوجود النصراني في كثير من البلدان التي لم تكن في يوم من الأيام ذات علاقة بالنصرانية. ولم تعد الديانات السماوية اليوم خطا وحيدا بل هي خطوط متعددة إلى حد التناقض والتضاد، بما في ذلك حال المسلمين الذين توزعوا على فرق وطرق بدعية وأحزاب هدامة ومذاهب فقهية يتعصب لها ويوالى عليها. حتى النصارى العرب ليسوا على مذهب واحد، كما أن اليهود الذين في الوطن العربي متباينون فيما بينهم.
– تركيبة طبقية: يتم تصنيفها في ضوء معايير مختلفة: فاقتصاديا هناك الفقراء والأغنياء، وتعليميا هناك الشريحة المتعلمة والأميون، ووطنيا هناك المهمشون والمواطنون الأصليون، ونفوذا هناك الطبقة الحاكمة والشعب المضطهد، وفي بعض المجتمعات تمثل المرأة طبقة ممتهنة ومحتقرة لصالح الرجل! وصحيا هناك ذوي الاحتياجات الخاصة وذوي الأمراض المزمنة والأصحاء، وعمريا هناك الشباب والعجزة! واعتمادا على نمط العيش هناك البدو والريفيين والحضر. وهكذا.. فإن المجتمع اليوم وطبيعة الحياة فرضت العديد من العناوين التي يتم تصنيف المجتمع على ضوئها إلى طبقات وشرائح، ولكل شريحة من هذه الشرائح همومها وقضاياها الخاصة ومطالبها.
– تركيبة المصالح: وهي تركيبة تنشأ عن مصالح مشتركة بين عدد من أفراد المجتمع أو شرائح ومكونات منه، سواء كانت هذه المصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية أو غيرها. ومثال ذلك: شريحة العمال والنقابات المهنية وأصحاب رؤوس الأموال.. إلخ.
والخطاب أو الموقف السياسي الإسلامي اليوم يتوجه إلى هؤلاء جميعا، بكل أطيافهم وأحجامهم، وسينظر إليه ويقيم من قبل هذه الأطياف في ضوء رؤاها هي وأفكارها وثقافتها ووعيها وموقعها ومصالحها وقضاياها. وحيث أن الإعلام اليوم ووسائل الاتصال وطبيعة الانفتاح الاجتماعي أتاحت فرصة معرفة كل ما يدور هنا أو هناك والوصول للمعلومة فإن السياسيين الإسلاميين اليوم أمام تحد بالغ الصعوبة والتعقيد، وليس من السهل الاستشهاد بالماضي في واقع اليوم من حيث أسلوب التعامل. فإن من المهم إنزال كل موقف وخطاب على ذات الظروف والبيئة والملابسات التي أحاطت به وإلا فإننا بمجرد اتباع السابقين في مواقفهم وفتاواهم المرتبطة بأحوالهم وظروفهم، دون وعي، سنقع في كوارث لا أول لها ولا آخر.
تغير الفتوى بتغير الحال والظرف والملابسات:
وسوف أضرب هنا أمثلة في السياسة والاجتماع والفقه:
ففي السياسة أسقط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- سهم المؤلفة قلوبهم في الزكاة في زمنه لا إنكاراً للحكم، أو تعطيلاً له مع قيام مقتضاه، ولكن لما ارتبط بهذا الحكم من حكمة ظاهرة ومقصد واضح، حيث جاء في زمن الاستضعاف، فكان المسلمون بحاجة -بادئ الأمر- لأن يتألفوا بعض وجهاء وزعماء القبائل بالمال ليقفوا إلى جانبهم، أما بعد ظهور الإسلام ودخول الناس فيه أفواجا، وتمكن دولته وغلبة قوته، فلم يَعُد المسلمون بحاجة لمثل هذا الأمر، لذلك لم يعمل عمر بن الخطاب بهذا الحكم لأن البقاء على تأليف قلوب الناس بالمال سيفضي إلى إضاعة أصحاب الحق الأصيل في الزكاة.
وكذلك الشأن فيما فعله عثمان بن عفان –رضي الله عنه- من جمع الناس على مصحف واحد بقراءة قريش، رغم أن القرآن نزل بأكثر من لسان من ألسنة العرب، حيث أن الفتوحات في عهده اتسعت وانتشر الصحابة –رضي الله عنهم- وساحوا في الأرض معلمين ومربين، فأخذ الناس عنهم قراءاتهم، فوقع بين الناس -لعدم إدراكهم بتعدد أوجه القراءة ومعرفتهم بأوجه التنزيل- من الخلاف ما أوشكوا معه على الاقتتال، حتى أن حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- لمس هذا الخلاف واستظهر آثاره المستقبلية فجاء من الشام محذرا عثمان بن عفان لتدارك الأمر: “أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى”.
فحذيفة لا يتحدث عن واقع الناس زمن التنزيل وفي عهد النبوة وإنما يتحدث عن حال الناس الذين دخلوا في هذا الدين أفواجا فغاب عنهم طبيعة هذا التنوع وحكمته. ولذلك وافق الصحابة عثمان فيما ذهب إليه من جَمعِ الناس على مصحف واحد وحَملِهِم على وجه واحد من القراءة، وهي لغة قريش، دونما سواها؛ ولو أنه ترك الناس على ما تركهم عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- بدعوى مشروعية ذلك لهلك الناس كما قال حذيفة.
ومن أمثلة ذلك ما علقت به عائشة –رضي الله عنها- على وضع النساء في المدينة بعد حقبة من وفاة الرسول –صلى الله عليه وسلم- أثناء مجيئهن للمسجد. فقد جاء عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات)[2]، فكن نساء الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين- يلتزمن بهذا التوجيه النبوي. لكن هذا الحال تبدل مع طول الأمد ودخول أقوام آخرين للمدينة، فثبت عن عائشة أنها قالت: “لو أن رسول الله رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد، كما مُنِعَت نساء بني إسرائيل”[3]. قال ابن تيمية: “… فإن عائشة كانت أتقى لله من أن تسوغ رفع الشريعة بعد موته، وإنما أرادت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو رأى ما في خروج بعض النساء من الفساد لمنعهن الخروج، تريد بذلك أن قوله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) وإن كان مخرجه على العموم فهو مخصوص بالخروج الذي فيه فساد، كما قال أكثر الفقهاء: إن الشواب اللاتي في خروجهن فساد يمنعن. فقصدت بذلك تخصيص اللفظ الذي ظاهره أنها علمت من حال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يأذن في مثل هذا الخروج لا أنها قصدت منع النساء مطلقا. فإنه ليس كل النساء أحدثن وإنما قصدت منع المحدثات”[4].
وإن كان جاء في الأثر عن يحيى بن سعيد أنه سأل راوية الأثر عن زوج النبي عمرة بنت عبدالرحمن: “أَوَ مُنِعَ نساء بني إسرائيل المساجد؟!”، قالت: “نعم”! أي المنع وقع عليهن جميعا. لذلك قال الزرقاني في شرحه لموطأ مالك: “قال الحافظ: يحتمل أن عمرة تلقت ذلك عن عائشة، ويحتمل عن غيرها، وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة قالت: كُنَّ نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب يتشوفن للرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح. وهذا وإن كان موقوفا فحكمه الرفع لأنه لا يقال بالرأي. وروى أيضا عبد الرزاق نحوه، عن ابن مسعود بإسناد صحيح. قال: وتمسك بعضهم بقول عائشة: (لو رأى…. إلخ)، في منع النساء مطلقا وفيه نظر، إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم، لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنه، فقالت: لو رأى لمنع، فيقال عليه: لم ير ولم يمنع فاستمر الحكم، حتى أن عائشة لم تصرح بالمنع، وإن كان كلامها يشعر بأنها ترى المنع، وأيضا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى، وأيضا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثن، والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بمنع التطيب والزينة، وكذلك التقييد بالليل على رواية من روى: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن) ورواية الأكثر بدون الليل”، ثمَّ ختم معلقاً: “واستنبط من قول عائشة أيضا: أنه يحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا كما قال مالك، وليس هذا من التمسك بالمصالح المباينة للشرع كما توهمه بعضهم، وإنما مراده كمراد عائشة أن يحدثوا أمرا تقتضي أصول الشريعة فيه غير ما اقتضته قبل حدوث ذلك الأمر، ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال”[5].
وكان من فقه الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه لما سأله سائل: يا أمير المؤمنين ما بال أبي بكر وعمر انصاع الناس لهما والدنيا عليهما أضيق من شبر فاتسعت عليهما، ووليت أنت وعثمان الخلافة ولم ينصاعوا لكما وقد اتسعت فصارت عليكما أضيق من شبر؟ فقال: “لأن رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان، ورعيتي أنا اليوم مثلك وشبهك!”. فإن ما يتغير من حال الناس ليس أمرا قدريا لازما بل هو انعكاس للتغير الذي يحدثونه هم بأنفسهم.
وهكذا جاء رجل فسأل الإمام التابعي الحسن البصري –رحمه الله- عن طاعته لأبيه وقد أمره بتطليق زوجته، فقال له: “لا تطلقها”، فذكر له قصة عبدالله بن عمر مع أبيه الفاروق –رضي الله عنهما- في هذا الشأن، فقال له الحسن: “إذا كان أبوك مثل عمر فطلقها”. فالحسن البصري يعلم من حال أهل ذلك الزمن ما يجعله ينزل الأحكام في منزلها بوعي. بل ربما الأمر يختلف من بلد إلى بلد في ذات الزمن؛ فعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: “كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبدالرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلي عبدالرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. فغضب عمر ثمَّ قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. قال عبدالرحمن فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسُّنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما والله -إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة[6].
ويقول ابن القيم –رحمه الله- وهو يتحدث عن تبدل أحوال الناس، وتبدل حكامهم إثر ذلك: “وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم: فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكلما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة. فأعمالهم ظهرت في صور عُمَّالهم”، ثم يقول: “وليس في الحكمة الإلهية أن يولى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم. ولما كان الصدر الأول خيار القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة. فحكمة الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبدالعزيز فضلا عن مثل أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها”[7].
والمقصود أن الأمور في الحياة لا تؤخذ بصورتها المثالية وإنما تنزل في الواقع بحسب الحال والظرف. وما كان مستطاعا في زمن اجتماع الأمة على عقيدة واحدة ومنهج واحد، لا يمكن اليوم مع غلبة الفرق والشيع والمذاهب، وما كان مستطاعا في الأمة حين كان يغلب عليها جنس العرب، لا يمكن اليوم مع غلبة الأعراق والأجناس، ومن قرأ التاريخ ووقف على الحال التي بلغتها الأمة في زمن بني العباس من غلبة الأعاجم على الحكم والجيش، ثم في زمن العثمانيين وما بعدهم، يعرف إلى أي مدى دخل على الأمة من الفتن والمتغيرات والنزاعات.
ومن المؤسف اليوم أن بعض الإسلاميين يتصور الأمة اليوم فصيلاً واحداً، وجنساً واحداً، ومستوى واحداً من التدين، ومستوى واحداً من الوعي، فيتعامل مع الواقع كما يتعامل مع فلكه الخاص! أو بيئته الشخصية! أو محيطه الاجتماعي! غير آبه بما يفرضه التركيب المعقد للأمة اليوم من تباينات واختلافات وتهديدات حقيقية -إذا لم يتم التعامل معها بحكمة.
لقد كان من شأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وقد هاجر هو وأصحابه من مكة إلى المدينة أن رأى إلى الوضع الجديد الذي تشكل منه مجتمع المدينة وما قد يتبعه من إشكالات فاتخذ من التدابير ما يعالج ذلك الوضع.
فقد جاء إلى المدينة وفيها قبائل الأوس والخزرج وهم من نسل قحطان، ويهود وهم من نسل إسحاق (وليسوا عربا)، وهما أهل الأرض، فدخل عليهم المهاجرون وهم من نسل عدنان، وهم ليسوا أصحاب أرض، كما أنهم جاؤوا إلى المدينة فارين بدينهم تاركين أملاكهم وأموالهم بمكة. وهكذا تعدد التركيب الديني والتركيب الاجتماعي والتركيب الاقتصادي، وكان كل واحد من هذا كفيل بإيجاد مأزق للاستقرار السياسي والأمني في المدينة. لذلك فقد آخى الرسول –صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار بأعظم صور المؤاخاة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا، بحيث عالج النواحي الاقتصادية والتباين السلالي؛ وجعل بين الأوس والخزرج صحيفة وبين المؤمنين والمشركين واليهود من سكان المدينة وثيقة لتأمين العلاقة بين الجميع؛ كل ذلك معالجة لهذه التباينات التي كان من الممكن أن تشكل بؤر تدمير للمجتمع الجديد. فقد رأينا كيف أن يهود كانت تسعى لإعادة التوتر بين الأوس والخزرج، ورأينا كيف أن المنافقين استثاروا الحمية ضد المهاجرين باعتبارهم غرباء عن المدينة: }يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ{ [8].
المثالية في النظر لواقع المسلمين:
إن المسلمين اليوم ليسوا على عقيدة واحدة، ولا على منهج واحد، ولا على مذهب فقهي واحد، ولا على قومية واحدة، ولا عرق واحد، ولا طبقة واحدة، ولا على ولاء ومصلحة واحدة.. حتى باتت أوضاع كثير من البلدان الإسلامية هشة وقابلة للتفكك والتمزق واشتعال فتيل الاحتراب الداخلي.
إن مجرد مطالبة الشعوب للرجوع إلى (الأمر الأول)، هكذا بدون النظر إلى حقيقة الواقع وموقعه من منحنى التاريخ، هو أمر تعجيزي، يقصر بالناس عن بلوغ الحق ويقصر الحق عن أن يظلهم. وشأن المطالبين بذلك شأن من قال عنهم ابن القيم: “قلت هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرؤا أهل الفجور والفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل وعطلوها، مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها”؛ فكان أثرهم أنهم جرأوا الحكام على تجاوز الشريعة: “فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء أحدثوا لهم قوانين سياسية تنتظم بها مصالح العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه”.[9]
ويقول ابن تيمية –قبل ذلك: “ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسياسة خلفائه الراشدين. وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء يكثرون)، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (أوفوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)؛ فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة”؛ ومنشأ هذا عند ابن تيمية: “والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السُّنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات؟ والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى ويتحرى العدل[10]، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك”[11].
إذن فالتحديات السياسية توجب على الحكام مواجهتها بتدبير ما، فإذا لم يسعف أهل العلم السياسيون بتدبير فيه رعاية الحقوق والعدالة والمصالح العامة، وإلا فإن السياسيون سيتدبرون أمرهم بمن يلبي حاجتهم.
وعلى الأحزاب الإسلامية السياسية صياغة خطابها وبرامجها ومشاريعها السياسية وشعاراتها بما يراعي التباينات بكل صورها وأصنافها، ويربط بينها في أطر جامعة، ويتدرج معها بما يجعلها تطمئن إلى حكمة الإسلام وعدالته ووسطيته وصلاحيته للخلق أجمع، خاصة وأن هناك من يبث على الإسلام وأهله الشبه والشائعات، محاولا تنفير الناس عنه وعن أتباعه، وكسب عداوتهم له ولأتباعه. فإذا كان عليه الصلاة والسلام قد خشي في زمانه من مثل هذا الأمر: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)!
فإذا ما نجحت هذه الأحزاب في هذا التحدي واستطاعت أن تحبب الإسلام للناس بكل أصنافهم وأطيافهم، واستطاعت أن تكسب ثقة الناس بها باعتبار سلوكها وأدائها ليروا فيها القدوة الأمينة، والقيادة المتمكنة، والإحسان للجميع، فإنها سوف توفر جهدها في المعترك السياسي. أما إذا فشلت وحملت حقا مشوها وسمعة سيئة فإنها لن تضيف للإسلام أي مكسب يذكر.
________________________________________________________________________
[1] الفرقان: 20.
[5] انظر: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك: 676- 677.
[7] مفتاح دار السعادة: ج2/177- 178.
[9] إعلام الموقعين عن رب العالمين: ج4/137.
[10] ما أعدل ابن تيمية عندما ينصف أصحاب الرأي بأن منهم (من يحكم بلا هوى ويتحرى العدل) رغم كونه يحكم برأيه.
[11] مجموع الفتاوى: ج20/392- 393.
(المصدر: مركز البيان للبحوث والدراسات)