سورة يوسف… ووجوه التميز والتفرد فيها
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
تعتبر قصة يوسف الصدّيق (عليه السلام) القصّة القرآنية الأطول التي ذُكرت في موضع واحد، ولم تُذكر في مواضع أخرى. ولو قارنتَها مع قصص كليم الله موسى وخليل الله إبراهيم عليهما السلام أو قصص أخرى، لوجدتّ أنّ تلك القصص تحتمل التّوزيع والتّقطيع على مشاهد متعدّدة؛ لأنّ كلّ مشهدٍ يُعدُّ وحدةً متكاملةً، مثل: (موسى والعبد الصالح)، (إبراهيم وحواره مع عبَدَة الكواكب والنّجوم) … إلخ. ولكنّ وحدةَ أحداث قصّة يوسف u لا تجعل من الممكن فنيّاً وموضوعيّاً أن تُقطّع أو توزّع على مرّات عرضٍ متعدّدة، وفي هذا يتجلى وجهٌ من وجوه الإعجاز القرآني، كما تتجلّى دقّة وحكمة هذا الكتاب الّذي هو ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]. [سورة يوسف دراسة تحليلية، أحمد نوفل، ص 10].
وهنا يقول الأستاذ محمّد المبارك فيما نحن بصدده من تميّز سورة يوسف وتفردها: إنّ لسورة يوسف موقعاً خاصاً في النّفوس، فلطالما اشتاقت إلى سماعها النّفوس مرّة بعد مرّة، ولطالما تفتحت القلوب والآذان لنغماتها الحلوة، وإنّ لها نغماً علوياً خاصاً بها، وإنّك لتحسّ فيها أنّ يدَ القدر الإلهي تحركُّ الحوادث، ولترى فيها الإنسان يريد ويقدر ومن فوقه عناية إلهية غالبة تبلغ من هذا الإنسان ما تريد لا ما يريد، وتصل بالأمور إلى عواقبها ونهاياتها المرسومة المقدّرة.
ولطالما هزّت سورة يوسّف المشاعر والعواطف وحرّكت الضمائر، وهي تجول بنا في عالم الحياة الإنسانيّة بحوادثها ووقائعها ومشاعرها، وعواطفها وأفكارها وعقائدها. وإنّ الله ﷺ يقصُّ فيها قصّة حياة الإنسان أحسن القصص؛ إنّها قطعة من الحياة بعروقها النابضة، ومشاعرها المتأججة، ونوازع الخير والشرّ فيها. إنّنا نرى فيها أنفسنا ولكن نرى مع ذلك يدَ القدَر ونحسُّ أثرها فينا وفي أعمالنا. إنّنا نراها تخط في الحوادث معبرنا، وتبلغ الغايات المقدرة، إنّها تفتح أمامنا أفق القدّر لنجعل إرادتنا من إرادة الله، منفّذة لقضائه، منسجمة مع غايات قدره الّتي هي الخير المحض؛ فنجمع بذلك بين الطاعة والإرادة والعمل والتفاؤل بالمستقبل. ذلك هو السبب الّذي يجعل لسورة يوسف هوى خاصّاً في نفوسنا، وهي تأخذنا بعقولنا وقلوبنا نحو الله.
إنّ هذه السّورة تكشف لنا النقابَ عن سرّ الإرادة والقدر وعن العناية الإلهية الّتي تخفى، إلّا على من آتاه الله حسّاً مرهفاً وإيماناً عميقاً من وراء حوادث الكون، وأسبابها الظاهرة، وعواطف الإنسان، ومقرراته وتصميماته. وذلك ما أبصره يعقوب u من أوّل القصّة فانكشفت له الحقيقة الكبرى فصبر وآمن وترقّب لطف الأقدار وصنيع العناية.
وإنّك إذ تقرأ هذه السّورة أو تسمع إلى من يقرؤها لتحسّ بأنغامٍ عذبة علويّة ترافق ما يتراءى لك فيها من صور الحياة الإنسانيّة وما تقرؤه من ورائها من أحكام القضاء وسطوة القدر.
افتُتحت السّورة بهذه الحروف المقطّعة الثلاثة (الر)، الّتي تريك من الكلمات موادها الظاهرة وتُخفي عنك سرّ ظهورها قرآناً بألفاظ عربية، وأمّا قصّة يوسف الّتي هي موضوع السّورة وقوامها، فقد استغرقتها كلّها وهي تزيد على مائة آية عدا نحو عشر آيات هي آخرها تضمّنت عبرتها ومرماها. [دراسة أدبية لنصوص من القرآن، محمد المبارك، ص 79-82].
وسورة يوسف إحدى السور المكيّة الّتي تناولت قصص الأنبياء، وقد أفردتْ الحديث عن قصّة نبيّ الله (يوسف بن يعقوب) وما لاقاه u من أنواع البلاء ومن ضروب المحن والشدائد من إخوته ومن الآخرين في بيت عزيز مصر، وفي السجن، وفي تآمر النّسوة، حتّى نجّاه الله من ذلك الضيق. والمقصود بها تسلية النبيّ ﷺ وما لاقاه من أذى القريب والبعيد.
والسّورة الكريمة أسلوب فذّ فريد في ألفاظها وتعبيرها وأدائها وفي قصصها الممتع اللطيف، تسري مع النفس سريان الدم في العروق، وتجري برقّتها وسلاستها في القلب جريان الروح في الجسد، فهي وإن كانت من السور المكية الّتي تحمل في الغالب طابع الإنذار، إلّا إنّها اختلفت عنها في هذا الميدان، فجاءت طريّة نديّة في أسلوب ممتع لطيف، سلس رقيق، يحمل جوّ الأنس والرحمة والرأفة والحنان، وقال عطاء: “لا يسمع سورة يوسف محزون إلّا استراح إليها”. [سورة يوسف (عليه السلام)؛ دراسة تحليلية، نوفل، ص 14].
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من مسودة كتاب: “النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي.
المراجع:
- سورة يوسف دراسة تحليلية، أحمد نوفل، دار الفرقان، عمان- الأردن، ص 10.
- دراسة أدبية لنصوص من القرآن، محمد المبارك، دار الفكر، الطبعة الرابعة، 1973م، ص 79-82.
- النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام (مسودة)، د. علي محمد الصلابي.