بقلم ناصر بن سعيد السيف
إنَّ النظر في ملكوت السماوات والأرض يهدينا إلى معرفة السنن الكونية؛ والنظر في تاريخ الأمم وأحوال المجتمعات يهدينا إلى معرفة السنن الاجتماعية؛ وكلاهما -تبعاً للمنهج القرآني- ذو أهمية في الحياة العملية للإنسان. والظواهر الاجتماعية هي تلك التي تنجم عن تجمع الناس، وتفاعلهم مع بعضهم، ودخولهم في شبكة من العلاقات المتبادلة. والفعل البشري بالنسبة للظواهر الاجتماعية هو الذي تتشكل بموجبه حركة التاريخ زماناً ومكاناً، مقدمات ونتائج. وأمر البشر هذا وما يترتب عليه من تبعات يجري وفق قواعد ثابتة وسنن مطردة، مؤطرة بمشيئة الله تعالى وإرادته في خلقه وعادته فيهم.
وسنن الله تعالى في الاجتماع البشري والمجتمعات الإنسانية واضحة المعالم لمن تأمل في القرآن الكريم وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم. وهي جديرة بالدراسة والفهم. بل إن دراستها وفهمها من الأمور المهمة جداً والواجبة ديانة، لأن معرفتها معرفة لبعض الدين, قال تعالى: ((ونَزَّلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ تِبيَاناً لِّكُلِّ شَيءٍ وهُدًى ورَحمَةً وبُشرَى لِلمُسلِمِينَ))، النحل: 89, قال الآلوسي في تفسير الآية: “والمراد من (لكُلِّ شَيءٍ) ما يتعلق بأمور الدين أي بياناً بليغاً لكل شيء يتعلق بذلك، ومن جملته أحوال الأمم مع أنبيائهم”[1].
ومن الواضح أن أحوال الأمم مع أنبيائهم التي اعتبرها الآلوسي بحق أنها من جملة الدين، هذه الأحوال تعني ما جرى لهم مع أنبيائهم، وما حلَّ فيهم بسبب سلوكهم معهم وموقفهم منهم -وفقاً لسنّة الله تعالى. وما طلبه الله منا من الاتعاظ والاعتبار بهم. فيتحصل من ذلك أن معرفة سنن الله جزء من معرفة الدين أو معرفة جزء من الدين، وأنها معرفة ضرورية ومن الواجبات الدينية، لأنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة، حتى لا نقع في الخطأ والعثار والغرور والأماني الكاذبة، وبذلك ننجو ممّا حذّرنا الله منه، ونظفر بما وعد الله به عباده المؤمنين المتقين.[2]
مفهوم السنن:
السنة في اللغة: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة[3]. والأصل في هذا اللفظ –السنة- الطريقة والسيرة. وفي حديث المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، أي: خذوهم على طريقتهم وأجروهم في قبول الجزية منهم مجراهم[4]. ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم: (مَن سَنَّ سُنَّة حَسَنَة)، أي طرق طريقة حسنة. وسُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- طريقته التي كان يتحراها.[5]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: “السُّنة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار”[6]. وقال رشيد رضا -رحمه الله: “السنن جمع سنة، وهي الطريقة المعبدة أو السيرة المتبعة أو المثال المتبع”[7].
ونقصد بالسنن الكونية والاجتماعية القوانين التي تحكم نظام العالم، وفق إرادة الله الخالق باطراد وثبات.[8]
يقول الدكتور عبدالكريم زيدان -رحمه الله: “.. معنى سنة الله -تعالى-.. الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر بناء على سلوكهم وأفعالهم، وموقفهم من شرع الله وأنبيائه، وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة”[9].
طرق معرفة السنن وقانونها العام:
السبيل لمعرفة سنن الله تعالى يكون بالرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم. فما فيهما هو القول الفصل، وما بيّناه -أي القرآن والسُّنة- من أنَّه هو سنة الله تعالى، أي قانونه العام الذي تجري بموجبه أحداث ووقائع البشر، فهذا البيان هو القول الصدق: ((ومَن أَصدَقُ مِن اللّهِ قِيلاً))، النساء: 122، والإخبار الحق: ((ومَن أَصدَقُ مِن اللّهِ حَدِيثاً))، النساء: 87.
وسبيل المعرفة يكون -كذلك- بالآلات التي ركبها الله في الإنسان، السمع والبصر والفؤاد، أي بالمشاهدة والسماع والتأمل والفكر، واستخلاص النتائج في ضوء ذلك، للتعرف على القواعد التي تحكم موجودات هذا العالم وحوادثه المختلفة.
جاء في تفسير الألوسي -بصدد الآية الكريمة: ((واللّهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لا تَعلَمُونَ شَيئاً وجَعَلَ لَكُم السَّمعَ والأَبصَارَ والأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ))، قوله:” والمعنى: جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة، بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم -أي بعقولكم، وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس، فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية”[10].
خصائص سنن الله في المجتمعات:
من خصائص سنن الله تعالى في المجتمعات:
أنها تتسم بالثبات: بمعنى أن الله سبحانه قد حكم في كُلِّ أُمَّة كفرت وطغت بالعقاب، وكُلِّ أُمَّة أطاعت بالثواب؛ ومن ذلك سنته في إيقاع العذاب بلمم المخالفة لدينه وشرعته، قال تعالى: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب))، البقرة: 224.
كما تتسم السنن الإلهية بالعدالة التامة؛ قال تعالى: ((إنَّ الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون))، يونس: 44. وتتسم –أيضا- بالاطراد والعموم؛ قال تعالى: ((سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً))، الأحزاب: 62، وقال: ((أفنجعل المسلمين كالمجرمين))؛ القلم: 35.
وهذه السنن مقارنة للبيان وتابعه له: ذلك أنه –سبحانه- يبعث الرسل ويقيم الحجج على الأمم؛ قال تعالى: ((ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون))، يونس: 47، وقال تعالى: ((وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون))، الشعراء: 208. فما يجريه عليهم من سننه وحكمه جاء بعد أن بين لهم ما يتقون.
وهي سنن مقدرة بآجال لا يعلمها إلا الله تعالى: قال سبحانه: ((ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين))، يونس: 48, وقال: ((قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون))، الأعراف: 34.
صور من سنن الله في المجتمعات:
سنن الله تعالى في المجتمعات البشرية كثيرة جدا، ولا يمكن حصرها، فهي تشمل كل جوانب حركة البشر، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. ومن هذه السنن:
سنة الاختلاف، قال تعالى: ((لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)) المائدة: 48. ((ولَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ولا يَزَالونَ مُختَلِفِينَ * إلَّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ ولِذلِكَ خَلَقَهُم))، هود: 118- 119.
ومنها سنة تداول الأحوال بين العباد؛ قال تعالى: ((وتلك الأيام نداولها بين الناس))، آل عمران: 140.
ومنها سنة حلول العذاب على الأمم التي تنكبت صراط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة القائمين أو عدمهم, قال تعالى: ((فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين))، هود: 116.
—————————————-
[1] تفسير روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني, الألوسي: ج14/214.
[2] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية, عبدالكريم زيدان: ص11.
[3] لسان العرب, ابن منظور: ج17/89.
[4] النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير: ج2/409.
[5] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز, الفيروز أبادي: ج3/267- 268.
[6] مجموع الفتاوى، ابن تيمية: ج13/69.
[7] تفسير المنار, محمد رشيد رضا: ج4/140.
[8] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق: ص11.
[9] المرجع السابق: ص11.
[10] تفسير روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني, الألوسي: ج14/201.
المصدر: مركز تأصيل للدراسات والبحوث.