د. سعد بن بجاد العتيبي
يمكن تعريف الاتجاه العقلاني الإسلامي: بأنه ذلك الاتجاه الذي يقدم العقل –في الجملة- على نصوص الشرع عند توهم التعارض، ويدعو إلى التجديد والنظر في الأحكام الشرعية حسب مقتضيات العصر الحديث، وأصحاب هذا الاتجاه هم ممن يتبنون المرجعية الإسلامية في الجملة.
وإنه باستقراء أقوال وآراء أصحاب هذا الاتجاه يمكن تلخيص أبرز سمات هذا الاتجاه والتي يشترك فيها معظم المنتمين إليه على النحو التالي:
(أ) الإعلاء الشديد من قيمة العقل ومكانته، والذي يتجاوز الحد الشرعي، ومن ذلك توسيع دائرة الوثوق به كمصدر للمعرفة، وخاصة في مجال العقيدة، وكذلك تقديم العقل على النص الشرعي عند التعارض حسب مفهومهم.
كذلك حرص أصحاب هذا الاتجاه في دعوتهم إلى استخدام العقل وتوظيفه، على إبراز عناية الإسلام الشديدة بالعقل والدعوة إلى إعماله، وذم المعرضين عنه، وفي المقابل أدخل بعضهم –جهلاً أو تجاهلاً- أتباع مذهب السلف في دائرة المنتقصين للعقل ودوره.
وقد كان للنزعة العقلية البارزة عندهم دور مؤثر في تعاملهم مع النص الشرعي الذي لم تقبله عقول كثير منهم، ويكون ذلك إما برد النص، أو بالتعسف والتكلف في تأويل هذا النص.
(ب) الدعوة المستمرة للاجتهاد، والإلحاح على فتح بابه، والذم الشديد للتقليد والمقلدين، واعتبار التقليد من أهم أسباب التخلف الحضاري للأمة، وهذا من حيث المبدأ لا إشكال فيه، ولكن الإشكال يأتي من جهة أن هذه الدعوة رافقها دعوة إلى إعادة النظر في بعض العلوم المتعلقة بالنص الشرعي، وبالأخص أصول الفقه.
وإضافة إلى ذلك تصدى للاجتهاد بعض من ليست لديهم الأهلية، كما وجد تقصير من بعضهم في بذل الوسع في الاجتهاد.
كما أن بعضهم ربما وسع مفهوم التقليد ليدخل فيه من يعتصم بالنصوص الشرعية، ويرى أن ذلك نوع من التقليد المخالف لإعمال العقل والفكر-بحسب مفهومه.
(ج) النزعة الدفاعية ظاهرة عند كثير من أصحاب هذا الاتجاه، مما دفعهم إلى محاولة تقديم الإسلام للغربيين في صورته المثلى –بحسب نظرهم-، ورد ما نسب إلى الإسلام من الشبهات حول عقيدة وأحكام هذا الدين.
ولا شك أن هذا مقصد نبيل، بل هو واجب شرعي، ولكن – للأسف- لم يلتزم بعضهم بالمنهج الصحيح، فقادهم إلى عكس ما أرادوا؛ إذ قدموا صورة مشوهة مجتزئة لبعض أحكام الشريعة، ويعود السبب في ذلك إلى أنهم انطلقوا من نفسية انهزامية منبهرة بالغرب وحضارته المعاصرة في بعض جوانبها، وبالأخص جانب الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وقد أدت هذه النزعة الدفاعية غير المنضبطة بالمنهج الصحيح إلى ظهور الكثير من التأويلات والآراء الخطيرة، وخصوصاً في قضايا الجهاد، والمرأة، والولاء والبراء.
ولا يقبل ما يبررون به موقفهم من أنهم يريدون سد ثغرات ينفذ منها الأعداء للطعن في الدين؛ فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
(د) الواقعية المفرطة، وذلك نتيجة للرضوخ لضغوط الواقع، فجاءت الدعوة من قِبل كثير منهم إلى تقديم الحقائق والأحكام الشرعية في كيفية يمكن تطبيقها في الواقع المعاش، ولو كان في ذلك تجاوزاً لبعض النصوص الشرعية، وعدم التزام بالضوابط المنهجية التي قررها أهل العلم.
ومما لا يخفى أن الإسلام دين يراعي في أحكامه ظروف الواقع، ولكن ذلك يتم ضمن ضوابط شرعية، والإخلال بذلك يؤدي إلى جعل الواقع حاكماً على النصوص الشرعية؛ مما يفتح الباب لأهل الأهواء لتجاوز أحكام الشرع، وهذا ما وقع فيه كثير من أصحاب هذا الاتجاه؛ إذ راعوا متغيرات الواقع أكثر من مراعاة ثبات الأحكام، على تفاوت بينهم في التفصيلات والتطبيقات.
ومن مظاهر تلك الواقعية المفرطة ما نراه من إلحاح كثير منهم على أن لكل عصر من العصور مشكلاته، واهتماماته، النابعة من طبيعة كل عصر وخصائصه العامة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بكافة الظروف الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
والمشكلة ليست في تقرير ذلك ولكن المشكلة هي فيما بُني على ذلك، من مثل: المناداة بتجديد طريقة التفكير والاستدلال، بما يتناسب مع نمط تفكير أبناء هذا العصر، وبما يكون أقرب لإقناعهم وبث اليقين في نفوسهم، ومثل: القول بعدم كفاية النصوص الشرعية في تحديد أحكام نوازل العصر المستجدة؛ ومن ثم تجاوز كتب المذاهب الفقهية القديمة إلى كتابات ورؤى فقهية وأصولية تجديدية تعالج مشاكل العصر وقضاياه الملحة بما يحقق مصلحة الإنسان المعاصر –بحسب تلك الرؤية .
(هـ) النزعة التوفيقية بين العقل والنص الشرعي، أو بين الحضارة الغربية والإسلام، أو بين حقوق الإنسان بمفهومها الغربي وبين حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، أو بين الديمقراطية والشريعة الإسلامية، أو بين العلمانية والإسلام، ونحو ذلك من المفاهيم التي يسعى أصحاب هذا الاتجاه إلى التوفيق فيما بينها، على ما بينهم من التفاوت في دائرة هذا التوفيق،وفي مقدار التكلف والتعسف في تأويل النصوص الشرعية، بل وردها أحياناً.
(و) الموقف السلبي لكثير منهم من مذهب السلف وأتباع مذهب السلف، ويتجلى ذلك فيما أطلق بعض أصحاب هذا الاتجاه من أوصاف على هذا المذهب وأتباعه، من مثل: المذهب النصوصي، مذهب الجمود على الموجود، الفقه البدوي، النصوصيون، الحرفيون، عبدة النصوص، الظاهرية الجدد، أهل الجمود والتقليد، ونحو ذلك من الأوصاف.
والسبب في هذا الموقف السلبي –في نظري- يعود إلى أسباب، منها:
1- عدم تصور كثير منهم لحقيقة مذهب السلف بشكل صحيح.
2- محاكمة مذهب السلف إلى أقوال وآراء وتصرفات خاطئة لأفراد ممن ينتسبون لمذهب السلف، أو قد تكون فهمت خطأ، أو أن الخلاف يسعها، ثم يعمم الحكم على مذهب السلف من خلال ذلك، وهذا تجنٍ ظاهر.
3- أن أصول مذهب السلف تصادم بعض أقوالهم واجتهاداتهم الشاذة؛ فيلجأ بعضهم إلى انتقاص المذهب من أجل تبرير موقفه.
(ز) ضعف الالتزام بالمنهج العلمي في دراسة المسائل الشرعية، ومرد ذلك إلى أحد أمرين:
أحدهما– ضعف البناء العلمي في العلوم الشرعية؛ مما نتج عنه اجتهادات شاذة، وفهم سيء للنصوص والأحكام الشرعية وأقوال العلماء، وأحياناً الخطأ في نسبة تلك الأقوال، ونحو ذلك من الأخطاء الكبيرة.
وثانيهما– ضعف الالتزام بالمنهج العلمي –وإن كانت الأهلية متوفرة- نتيجة للرضوخ للواقع، أو تحكيماً للعقل، أو غير ذلك من الأسباب.
(ح) وجود خلل ظاهر في استخدام المصطلحات، من مثل: ترديد مصطلحات تتضمن معان مجملة من دون تحرير كاف لما فيها من الصواب والخطأ، مثل: التراث، والأصالة والمعاصرة، والتقدم، وحقوق الإنسان، والمواطنة، وغيرها.
وكذلك توسيع دائرة مصطلحات شرعية لها مدلول خاص، مثل: المقاصد، والمصالح، والاجتهاد، والتجديد، والوسطية، ونحو ذلك.
وفي مقابل ذلك نلحظ عند بعضهم قصوراً في استخدام المصطلحات الشرعية، أو سوء فهم لها، كما حصل من بعضهم تجاه مصطلحات: التأويل، والمجاز، وأهل الذمة، ونحوها.
(ط)- غلبة مبدأ التيسير والتخفيف في الأحكام الشرعية، من خلال: توسيع دائرة المباح، وتقليص دائرة المحرم في الشريعة، والأخذ بالرخص فيما دون الحد الشرعي، إلى درجة تجعل من ذلك قاعدة مطردة؛ أدت إلى تأويل بعض النصوص الشرعية المتعلقة بالأحكام، أو تأجيل تطبيقها بحجة المشقة التي قد تكون مبالغاً في تقديرها.
(المصدر: مركز البيان للبحوث والدراسات)