سليمان القانوني.. لماذا دخلت الدولة بموته عصر الانحدار؟
بقلم خالد محفوظ
لم يعرف التاريخ العثماني خليفة كسليمان القانوني ذلك الرجل الذي جمع بين الذكاء والدهاء وعلو الهمة والطموح مع فترة حكم قاربت النصف قرن. وبلغت رايات الخلافة في عهده أوج قوتها وقمة مجدها وأقصى اتساع لها. وقد قيل (اسع نحو القمة وإياك أن تصل إليها فليس بعد القمة إلا السقوط). كان ذلك أيضا المسار الذي سلكته دولة بني عثمان سنة الله في كونه. هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمان ساءته أزمان. وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان، ومما يثير التساؤل ويبعث في النفس شديد الاستغراب هو الانحدار والانحطاط الذي أظل الدولة العثمانية برحيل القانوني إلى بارئه فمن العجيب ألا تتمكن ذريته من الخلفاء من استكمال سبر سبل الازدهار الذي أرساه القانوني وركز دعائمه بما سنه من تشريعات وقوانين نظمت أحوال البلاد ورعاياها يدعمه في ذلك نظام قضائي في غاية التطور. ومن المستغرب أيضاً أن يقف الزمان عند وفاته وتدخل الدولة حالة من الجمود الفكري والعلمي. بل إن حالة الجمود تلك بدأت تلقي بظلالها حتى على حركة العمران والفتوحات التي صبغت فترة حكم القانوني وانشغل بها.
وتبعاً لكثير من المؤرخين والمستشرقين فإن أحد أهم أسباب انحدار الخلافة العثمانية هو تمكن بعض زوجات السلطان القانوني وعلى رأسهم روكسلين من تشكيل ما يمكن أن نطلق عليه بحكومة ظل أصبحت بمساعدة خصيان القصر قادرة على التلاعب بمقادير الحكم والتأثير على قرارات السلطان متجاوزة بذلك تأثير الصدر العالي والقضاة بل وحتى ديوان السلطان من رجال الدولة. جاء تتويج تلك التدخلات بقدرة حكومة الظل تلك على توغير صدر السلطان على ابنه مصطفى أكفأ أبناء سليمان على إدارة الدولة من بعده لقتله وتنصيب سليم الثاني خليفة من بعده على الرغم من قلة درايته بأمور الحكم. ذلك الرأي وإن كان ممثلا من قبل شريحة واسعة من المؤرخين إلا أن سلطانا عظيما واسع الخبرة والدراية كالسلطان سليمان كانت له القدرة على الحد من تأثير الحريم وعيونهم في البلاط على الدولة وقراراتها وذلك بما امتلكه من خبرة وحنكة افتقدها بعض من جاء بعده.
إن تدخل حريم البلاط في سلطة اتخاذ القرار ومآل مقاليد الأمور إلى سليم الثاني لا يمكن أن يكونا إلا عاملين ثانويين من عوامل انحطاط الدولة حيث أعان النظام الذي أرسى القانوني قواعده على إطالة حياتها أضف إلى ذلك وجود رجالات أفذاذ في مراكز صنع القرار كالصدر الأعظم محمد باشا الصوقللي والذين كان لأدائهم السياسي دورا كبيرا في تجنيب الدولة العثمانية كثيرا من الفتن والنكبات. وحتى لو افترضنا جدلاً مآل الأمور إلى الأمير مصطفى وانعدام تأثير حريم البلاط على السلطان فهل كانت الدولة ستستمر بالسير في طريق الانحطاط؟
توفي السلطان القانوني وهو على رأس دولة بلغت تخوم فيينا وبولندا في أوروبا واتسعت من بغداد شرقا حتى حدود المغرب الأقصى غرباً. كان اتساع الدولة بذلك الشكل سلاحاً ذو حدين فهو وإن كان يعني امتلاك العثمانيين لقوة بشرية هائلة ومنافذ جغرافية هامة واتساعا للموارد التي تجنيها خزائن الدولة إلا أنها جعلت عملية تحريك الجيش العثماني وتوجيهه في الحملات العسكرية أمرا مكلفا للغاية في ذلك الوقت. لقد كان اتساع رقعة الدولة عبئا على السلطان القانوني نفسه ففي كل وقت أراد فيه الانطلاق في حملة عسكرية كان عليه أن يجمع جيوش الدولة الجرارة في مكان معين غالبا ما كان القسطنطينية ومن ثم الانطلاق إلى المكان الذي يريد غزوه. تلك العملية كانت تستغرق شهورا عديدة وتكلف الدولة مبالغ طائلة يتم إنفاقها على العسكر.
إن ذلك الاتساع الجغرافي الهائل للدولة في ذلك الوقت قد أعاق على القانوني كما أعاق على من جاء بعده عملية استمرار الفتوحات. حيث أن تجميع الجيوش العثمانية في القسطنطينية أولا ثم الانطلاق بها للفتح شرقا أو غربا في أوروبا جعلها في غالب الأحيان لا تصل إلى هدفها إلا بحلول فصل الشتاء حيث كان البرد القارس والأوبئة أشد على الجنود العثمانيين من حراب ومدافع أعدائهم. هذا على صعيد التوسع برا أما التوسع في البحر المتوسط فقد حد منه وجود امبراطورية قوية مناوئة لطموح القانوني وخلفائه ألا وهي الامبراطورية الإسبانية والتي كانت تمتلك وقتئذ واحدا من أحدث الأساطيل البحرية وأقواها في العالم. أما الاتساع بحريا من جهة البحر الأحمر فقد كانت أساطيل البرتغاليين القوية تحد منه وتعيقه.
لم يكن الاتساع الجغرافي الهائل عائقا لتحرك الجيوش العثمانية فقط بل أدى إلى انقطاع التواصل بين من يحكم في القسطنطينية وبين الشعوب العثمانية. ذلك البعد الهائل بين الولايات العثمانية كمصر والجزائر وبين مركز الحكم في القسطنطينية أدى إلى استبداد كثير من الولاة ومن يليهم بالحكم وظلمهم وبطشهم بالرعية باسم الخليفة في الوقت الذي كان يصعب فيه على أولئك الرعايا الوصول إلى الخليفة وعرض المظالم عليه لبعد المسافات ومشقة السفر وقلة ذات اليد. ولعل مصر خير مثال على ذلك فكم وكم استبد ملك الأمراء الذي كان يعينه الباب العالي بالحكم وكم وكم ظلم من المصريين وكم أعدم منهم على الشبهة وكم فسد جنوده وعدو على أموال الرعية وأعراضهم بالباطل.
ومن سخرية القدر أن تكون الجيوش العثمانية نفسها أحد أسباب الضعف الذي ألم بالدولة وأودى بها إلى مهاوي التخلف والانحطاط. إن المتأمل في تاريخ الجيوش العثمانية يلاحظ أنها اعتمدت حتى فترة السلطان القانوني على كتائب الخيالة. تلك الكتائب كانت تمول بالضرائب التي تفرض على الأراضي العثمانية إلا أن فساد بعض رجالات الحكم في هرم السلطة واختلاسهم لجزء من تلك الواردات جعل الأموال المتبقية لجنود تلك الكتائب قليلة الأمر الذي أدى إلى انخفاض واضح في عدد جنود كتائب الفرسان حيث وصلت بحلول عام 1630م إلى 7000 فارس أي واحد على ثلاثين مما كانت عليه أيام القانوني. وصحيح أن الانخفاض في أعداد الفرسان في الجيش العثماني صاحبه زيادة في عدد جنود الانكشارية بأربعة أضعاف إلا أن هذا خلق مشكلة كبيرة في الدولة العثمانية تمثلت بصعوبة التحكم بجنود الانكشارية وتدخلهم في شؤون الحكم ورفضهم للإصلاحات التي كان يتبناها بعض الخلفاء وتعيينهم وعزلهم للخلفاء إضافة إلى كثرة تمردهم على قادتهم وفسادهم ونزوعهم إلى الراحة وترك القتال الذي وجد الجيش لأجله.
لقد كان تسليح وتحديث الجيش العثماني الآخذ في الضعف وكثرة جبهات القتال على تخوم الامبراطورية الواسعة عاملاً مهما في زيادة الضرائب على الأراضي لتمويل عمليات التسليح والعمليات العسكرية الأمر الذي أدى إثقال كاهل الفلاحين الذين كانوا يشكلون غالبية المجتمع العثماني آنذاك وبالتالي إلى تفشي الغلاء والمجاعات. إلا أن تلك الزيادات الضريبية على الأراضي لم تكن كافية لكل ذلك وهو ما دفع السلاطين إلى سك كميات كبيرة من العملة حملت مع مرور الوقت نسبا أقل وأقل من الفضة. هذه السياسة النقدية نجدها عند السلطان القانوني كما نجدها عند خلفائه فبعد عقدين من وفاة القانوني نجد أن نسبة الفضة في العملة العثمانية قد وصلت إلى نصف ما كانت عليه زمن القانوني. وهكذا ساهمت تلك السياسات النقدية غير الحكيمة بانخفاض قيمة العملة وانتشار التضخم في المجتمعات العثمانية وما يصحبه من غلاء وانتشار للفقر والفاقة.
ومما زاد في هزال الخزينة العثمانية تلك الامتيازات التجارية التي دشن أولها الخليفة القانوني مع فرنسا وجعلها سنة للخلفاء من بعده. تلك الامتيازات كانت تمنح الطرف الآخر والذي كان عادة إحدى الدول الأوروبية حقوقا في التنقل والملاحة وحقوقا في التجارة دون التزامات ضريبية. وإن وجدت فكانت عادة ما تكون رمزية. لقد أدت سياسة الامتيازات إلى فقد الدولة العثمانية لكثير من إيراداتها التي كانت تجنيها عن طريق التجارة كما أدت إلى فتح الباب على مصراعيه أمام التدخل الأوروبي في الشؤون العثمانية. وكما نرى فإن العوامل التي دفعت بالدولة العثمانية إلى براثن الانهيار تمثلت في أمور عديدة اقتصادية واجتماعية وعسكرية وسياسية وجغرافية.
وختاما فإن الخليفة سليمان القانوني لم يكن ملكا منزلا ولا نبيا مرسلا. لقد كان ملكا من الملوك له حسناته كما له مساوئه وأخطاؤه. ويجدر بنا أن ننظر إلى فترة حكمه وما تخللها من أسباب أوهنت الدولة وأضعفت من جاء بعده بعين الاعتبار والنقد بعيدا عن التمجيد والتقديس أو المبالغة في الذم واللوم ففي تاريخنا الإسلامي عادة ما تتغير الأحداث والتواريخ والوجوه ويبقى عامل واحد لا يتغير ألا وهو الرعية المغلوب على أمرها.
(المصدر: مدونات الجزيرة)