سلفية المخابرات.. كيف يستخدم الجامية والمدخلية الاغتيال النفسي لتدمير خصومهم؟
“إذا ذكرت محاسن الدولة يقولون أنت مباحث! يُشرفني أن أكون مباحث لهذا الوطن، واستخبارات لهذا الوطن، وعميلا لهذا الوطن. نعم أنا مباحث لدولة التوحيد.
ولكن أنت مباحث لِمَنْ؟!
مباحث للإخوان المسلمين أم مباحث لإيران؟! أم مباحث لأعداء هذا الوطن؟!”
(محمد بن أحمد الفيفي – شيخ مدخلي)
منذ ظهور التيار المدخلي/الجامي [أ] على الساحة السعودية، أفردت له السُّلطة مساحة واسعة من الحركة والنفوذ، حيث مَثّل هذا التيار ظهيرا دينيا شعبيا لقرارات العائلة الحاكمة، ليبدو الحال وكأنها فُصِّلت على مقاس السُّلطة. فمنذ اليوم الأول، تولى محمد أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي مهمة التبرير للسلطات السعودية في تحالفها مع الولايات المتحدة عقب حرب الخليج، قبل أن يبرروا كل ما سيصدر من السلطة في السنوات القادمة.
بدأت آثار التيار المدخلي بالظهور جلية مباشرة عقب توجه السلطة السعودية للاستعانة بهم عقب بروز ما يُعرف بتيار الصحوة إثر معارضتهم للتوغل الأميركي في المنطقة في عام ١٩٩١. حملة شنها المداخلة الجامية عبر التشنيع والتسفيه تجاه معارضيهم من شباب الصحوة [ب] الدعاة المعارضين والذين سيقبعون بعدها، في حملة ممنهجة، خلف القضبان، وعلى الرأس منهم سلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر.
بدا غرض المملكة الرئيس من دعم هذا التيار سعيها لخلق ظهير ديني -لتيار الصحوة المتصاعد- يتجه نحو ترسيخ مبادئ الولاء التام والكامل للحكام، لكن بصبغة دينية تهدف لترسيخ حكم آل سعود باسم “طاعة ولي الأمر”، مع وظيفتهم الأثيرة في تشويه خصوم الدولة -خصوصا من الإسلاميين- جنبا إلى جنب مع تبرير أفعال السلطة الحاكمة.
اتجاه جعل التيار يلقى “دعما من الأسرة الحاكمة التي رأت فيه مُعادلا موضوعيا للتيار الإسلامي المتنامي، قبل أن ينتشر التيار أيضا في بلدان عربية وإسلامية أخرى”[1]. وليصبح هذا التيار بعد فترة وجيزة جهاز إعلام ديني عبر الخطب والدروس والمحاضرات والندوات والكتب التي تصب في جدول “الولاء لوليّ الأمر”، مهما أتى من جُرم أو فساد، أو ارتكب من مظالم، وهو ما مَثّل وصفة مثالية لأي حاكم باسم الدين في ترسيخ استبداده وتثبيت أركان عرشه، مهما بلغ سلوكه من بُعد عن تشريعات الدين الذي قامت دولته عليه. وليتجاوز ذلك التماهي الاقتصار على طاعة وليّ الأمر “ليمتد إلى طاعة الولاة والوزراء والمفتين، فكل هؤلاء تجب طاعتهم، حتى مع تيقّن الظلم أو الحيف منهم، لأن طاعتهم من طاعة من ولّاهم أو كلّفهم بالفتيا”[2].
من هذا المنطلق، بدأت الجامية المدخلية بشن حربها على مختلف الجماعات الإسلامية، حيث أصدروا آلاف الأشرطة للتحذير من معارضي الحاكم، وشيطنة الحقوقيين والشرعيين الذين يطالبون بإيقاف الظلم السلطوي، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى الهجوم على كل من خالفهم، ويُخرجون إليه الاتهامات المعلّبة، باسم العمالة تارة، والبدعة والفسق والخوارج تارات.
مارس السلفيون المداخلة هذا النهج مع كل من يختلفون معهم، حتى السلفيين أنفسهم، مرورا بالتيارات الحركية كالإخوان المسلمين والسرورية، ووصولا إلى التيارات الجهادية، وحتى التيارات المهادنة، مثل جماعة التبليغ والدعوة والجماعات الصوفية. فكل هؤلاء مبتدعة ضالون، لا يرضى عنهم الحاكم، وبالتالي فإنهم يخالفون منهج السلف، الأمر الذي وجّه غالبية سهام نقدهم ومعاركهم تجاه الإسلاميين، لا تجاه العلمانيين أو اللادينيين أو الحكام المستبدين، وهو ما جعل -كذلك- كل الإسلاميين خصوما لهم.
بعد وقت قصير من النشأة، بدأت ملامح التيار في التشكُّل، إذ بدا احتكار الحديث باسم الدين، وتبديع المخالف، وتسخير جهدهم في التبرير للحاكم، ركائز أساسية في خطاباتهم المتكررة، وليكسب هذا التيار عقب فترة وجيزة مساحات واسعة من وسائل ترويج الخطاب داخل المملكة، وليتوسع إثر ذلك في عدد من أقطار العالم الإسلامي، الأمر الذي يستدعي تسليط الضوء على أفكاره ونشاطه وآلات تعامله مع خصومه من “الإسلاميين”.
أما الملوك فهم آل السعود لهم … سمع وطاعتهم حتم بقرآن
ولا يحل لشخص خلع بيعتهم … ومن يخن فعليه إثم خـوان
أبا سعود أطال الله عـمركم … في نصرة الدين والملهوف والعان
(محمد بن هادي المدخلي)
مثَّلت حرب الخليج، وما تلاها من اهتزازات صاحبت البيئة الداخلية في المملكة، أرضا خصبة لظهور عدد من خطابات التدين التي ما زالت آثارها متفاعلة وممتدة حتى يومنا، فعلى النقيض من موقف هيئة كبار العلماء السائر على نهج السلطة كما جرت العادة، تجلّى تيار الصحوة ليشغل مساحة المعارضة بعدما استعانت المملكة بقوات أميركية امتد تأثيرها للداخل السعودي.[3] تيار قاده عدد من الدعاة الشباب، والذين كانوا هم الأعلى صوتا والأكثر شعبية في ذلك الوقت.
في الجهة المقابلة لدعاة الصحوة، كان هناك تيار ديني آخر تم تجميده لفترة طويلة، إلا أن الظروف التي تلت حرب الخليج دفعت الدولة لتفعيله[4]، وهو من سيُعرف لاحقا باسم التيار المدخلي أو الجامي، والذي سينتشر في ربوع السعودية، ثم العالم، مدّعيا امتلاكه الحصريّ لناصية فهم الدين وتفسيره، ويعمل -باسم الجرح والنقد- على تشويه وطعن كل مُخالف له في الفهم أو معترض عليه.
عمل المداخلة على استخدام المنابر والرسائل المكتوبة والأشرطة الدعوية للتحريض على خصومهم الدينيين، والتعاون مع الجهات الأمنية
انصب جهد المداخلة نحو تشويه خصوم السلطة السياسية، فقد أفتى محمد أمان الجامي بوجوب طاعة وليّ الأمر فيما يراه من مصالح العباد والبلاد. أما ربيع المدخلي فقد أخرج رسالة في كُفْر صدام حسين وبالتالي جواز قِتاله بالاشتراك مع غيره من الكافرين أيضا كالأميركان، وسمى رسالته: “صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة على قتالهم بغير المسلمين”، لِيختمها المدخلي بحثّ الشباب على التسليم والإذعان لله ورسوله وطاعة وليّ الأمر وعدم الانقياد لحماسة الدعاة الشباب العاطفية.[5]
يقول الباحث السعودي محمد بن صنيتان: “لقد أعلنوا ولاءهم للنظام، وقد استفادوا من هذا الموقف الذي أعطاهم تذكرة مرور في مدة زمنية محددة، وقد استثمروها في تصفية حساباتهم مع زملائهم وذلك بإحالة العلماء من أساتذة الجامعات للتقاعد من خلال الوشاية بهم وتجريحهم”.[6]
أما في الفترة “التي شهدت الصحوة السعودية فيها ركودا ومُنعت كُتب الصحويين وأشرطتهم من التداول والبيع، تمكّن المداخلة من المناصب العلمية في الجامعات لا سيما جامعة المدينة المنورة. وأصبحت كتب تلاميذ محمد أمان الجامي تُوزّع في المدارس، وهي وصايا حول طاعة وليّ الأمر وخطر الخروج على الحكومات وفضح الحركيين وخاصة الإخوان المسلمين”.
عمل المداخلة كذلك على استخدام المنابر والرسائل المكتوبة والأشرطة الدعوية للتحريض على خصومهم الدينيين، والتعاون مع الجهات الأمنية وكتابة التقارير حول خصومهم من الإسلاميين أو المعارضيين سعيا منهم، بحسب روايتهم، لضبط الحالة الدينية على وفق مُراد وليّ الأمر. تجسّد ذلك بصورة جليَّة قبل أسبوع فقط من اعتقال ثلاثي الصحوة، سلمان العودة، وسفر الحوالي، وناصر العمر، حيث صعد شيخ المسجد الحرام عبد الرحمن السديس[7] منبر الحَرم، موظِّفا إياه في مراد وليّ الأمر، ومُحرضا على الشباب الدعاة، ليتم اعتقالهم بعد أسبوع واحد فقط، وهو ما قُوبل باستهجان واسع من جمهور الناس.[8]
https://youtu.be/v4a75DkcIUk
يقول الشيخ المدخلي عبد العزيز الريس عن المداخلة: “فهم مُعِينون دولة التوحيد على ما فيه حفظها من شرور أهل الشر، سواء كانوا من الداخل أو الخارج، فهذا خير وعمل صالح، ومن التعاون على البرّ والتقوى وهو صنع العلماء”[9]، وبحسب الدكتور سعد الفقيه فإن المباحث قد دَسّت من رجالها من ينخرطون في أوساط هذا التيار ويعملون تحت رايته[10].
أما ستيفان لاكروا فيرى في كتابه “زمن الصحوة” أن المدخلية كانت جاذبة للترقي الوظيفي لدى الحكومة، “ففي الجامعة الإسلامية بالمدينة على سبيل المثال، ثم استبدال الصحويين موسى القرني وعبد العزيز القارئ وجبران الجُبران بالجاميين تراحيب الدوسري وسليمان الرحلي وعبد السلام السحيمي”.
كان هذا النهج في التنسيق الأمني من السمات المشتركة للتيار المدخلي حول العالم، في مصر واليمن وليبيا وبلاد المغرب وأوروبا. ففي مصر، ما يلبث محمد سعيد رسلان بأن يفتي بأن الإخوان خوارج مفسدون، وينبغي التعاون مع الدولة للخلاص منهم، ويفتي بإرشاد المباحث عنهم وعلى أتباعهم الذين وصفهم بـ “الجهلة الفسقة ومن الخوارج القعدة”[11].
أما المدخلي طلعت زهران، فقد أفتى علنا بوجوب تزوير الانتخابات لمبارك كي لا يأتي الإسلاميون ولا العلمانيون للحكم فضلا عن التبليغ عن المعارضين للحاكم.[12] وقد تضافرت الوقائع في مصر عن الوشاية من المداخلة لدى الأمن على مخالفيهم وكتابة التقارير الأمنية في ذلك [هـ].
“الحق الذي لا تشوبه شائبة الباطل، الحق الخالص، الحق الصافي من الكدر “عندنا عندنا عندنا”.. وإن رغمت أنوفكم، وشمخت رؤوسكم حتى تلحقوا المريخ!
سَمِعتم؟!”
( عبيد الجابري – من مشايخ الجامية)
ينطلق المَداخلة في طرحهم من مركزيّة تعريف أنفسهم على أنهم الممثلون حصرا للسلفية، مع التأكيد على قضيتين أساسيتين، أولاهما مركزيّة “الموقف من الحاكم وطاعته”، والثانية “الموقف المعادي لكل الإسلاميين الآخرين”.
يقول ربيع المدخليّ: “فأهل البدع لا بد من التحذير منهم، إذ إن كشف عوارهم، وبيان ضلالهم من أوجب الواجبات وأفرض الفرائض، لأن هؤلاء خاضعون لقيادات بدعية ضالة متسترون مكرا باسم السلفية، لكنهم ما لبسوا لباس السلفية بقوة إلا ليتمكنوا من سحقها”[13].
يكرر المدخلي في دروسه ومحاضراته أنه وطائفته الممثلون الحصريون للسلفية، ويتحدى مخالفيه ممن يصفهم بأهل البدع والأهواء بذلك، يقول المدخلي: “نحن نتحدى أهل البدع والأهواء، أهل البدع العقائدية، وأهل البدع السياسية؛ ونقول لهم: بيننا وبينكم السلف، بينا وبينكم الكُتب لنبين من هو المبتدع نحن أم هم!”.[14]
https://youtu.be/Q39yIcdfQu8
تتمدد طهورية المداخلة من اعتقاد تمثيل السلفية إلى الروح العدائية مع كل المخالفين لهم حتى تُصبح نهجا مطردا لكل المنتمين إلى الفكر المدخلي حول العالم. ففي مصر، يقول أسامة القوصي [ج]، أحد رموز التيار المدخلي في مصر سابقا: “أنا الدفة للسلفية، أنا الميزان، دعوتنا دعوة ضبط وربط، دعوة استبصار.. فمن أراد أن يستبصر بدين الله، والعقيدة الصحيحة يأتي هنا، يستفيد مننا”.
أما محمد سعيد رسلان، رأس المداخلة المصريين، فقد اعتاد في خطبة الجمعة على مهاجمة خصومه الدينيين بأقذع الأوصاف [د] من منبر المسجد. يقول رسلان لخصومه المنتقدين للمداخلة: “فما المدخليّة؟! كلمة لا يستطيع قائلها لها تعريفا! فإن قصدوا من هم على منهج الكتاب والسنة بفهم السلف فلا شك أنهم كذلك ولا يُضرّ التسمية. لكن أهل البدعة في كل عصر يلمزون أهل السنة، وأهل السنة ينالهم من ذلك قسط مما نال الرسول!”.
“يُبْصِرُ أحَدُكُمُ الْقَذَاةَ في عَيْنِ أخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنهِ”
(حديث شريف)
عُرف التيار الجامي “بتضخيم أخطاء وهفوات خصومهم بشكل مبالغ فيه، بالإضافة إلى نسبة التهم السيئة إليهم، وتشويه سمعتهم والتشهير بهم والتفرقة بينهم، وإطلاق الأوصاف السيئة عليهم وتحجيم أدوارهم وتأثيرهم داخل المجتمع”.[15] فأي داعية، في حال لم يكن جاميا أو مدخليا، فهو يدور -في نظر المداخلة- بين البدعة أو الفسق أو الخوارج أو الكفر البواح، وقلّما يسلم من ذلك مختلف واحد معهم.
يجعل المدخلي هذا الطعن في الآخرين بمنزلة المنهج المُميز لطائفته ويعتبره أوجب الواجبات، ولا ينظر لحسنات مخالفيه مهما بلغت، يقول ربيع المدخلي لمخالفيه: “سلهم عن بدعة وضلالة الإخوان، فإن قالوا إن نقدها وتحذير الناس منها من أوجب الواجبات، وإن بدعهم أكبر المنكرات، فهو من أهل الحق. وإن تأولوها، وجاءوا بمنهج الموازنات بين الحسنات والسيئات، فهم من غلاة المرجئة!”.
كان هذا النهج مطردا مع المداخلة منذ نشأتهم، فمنذ “أغسطس/آب 1990، وحين كان التوتر على أشدّه بين الصحوة والسلطة، كان المداخلة من أوائل العلماء الذين تعرضوا لمشايخ الصحوة بالانتقاد العلني”[16]، حتى غالى بعض المداخلة في نقده لتيار الصحوة وبالأخص سلمان العودة وسفر الحوالي، حتى وصل الحال بعبد العزيز عسكر وسليمان أبو الخيل بالمطالبة بقتل سلمان العودة وسفر الحوالي، والفرح العلني بإعدام الشيخ المعارض عبد الله الحُصيف[17]، ليُعيّن الثاني مديرا لجامعة المدينة بعد اعتقال العودة والحوالي. وقد وجّه الجامية تهما لمشايخ الصحوة بالضعف العلمي، إلا أن حجتهم لم تلبث سريعا حتى تهدّمت حين برهن الصحويون عمليا وعلميا على خلاف ذلك، وأثبتوا لأنفسهم مكانة في الوسط الدعوي في المجتمع العلمي [و].
الأمر الذي جعل المداخلة يلجؤون إلى أسلوب آخر، وهو اتهام المدرسة الحركية التي ينتمي إليها الحركيون بعدم النقاء العقدي، فكان الهجوم على الرموز الحركية مثل محمد قطب، مشرف سفر الحوالي والأب الفكري للصحوة في السعودية، وليطول التسفيه رموزا حركية كبيرة من الحركة الإسلامية. يقول عبد العزيز الخضر: “قاد الجامي والمدخلي أهم معركة فكرية دينية واجهها تيار الصحوة محليا، ونقدا لرموز إسلامية من مشاهير الدعوة المعاصرة في حركة الإخوان المسلمين، ونقدا لأفكار سيد قطب ومحمد قطب. وكانت الحملة شرسة استخدمت مختلف الأساليب بذريعة صفاء العقيدة والسلفية النقية”.[18]
امتد نقد الجامية ليطول حسن البنا، والذي اعتبره المدخلي ممثلا لعقيدة صوفية ضالة، كما طال أبو الأعلى المودودي، والشيخ يوسف القرضاوي، الذي كتب له “مقبل الودعي” ردا سمّاه “إسكات الكلب العاوي يوسف القرضاوي”. وامتد التجريح المدخلي إلى شخصيات حركية سيصبح لها ثقل نوعي فيما يُعرف بـ “الجهاد الأفغاني”، وعلى الرأس منهم الشيخ عبد الله عزام.
كان الهجوم على سيد قطب هو الأشد ضراوة، وبات الانتساب إلى قطب تهمة في حد ذاتها تُعرف بالقطبية، حيث كتب المدخلي عددا من الرسائل في الرد على قطب، ولم يدَع موطنا إلا وانتقص فيه من قطب، حتى نسب إليه عددا من البدع المُغلظة مثل القول بوحدة الوجود، ومساواة الأديان، والتنقص من الأنبياء[19]، الأمر الذي دفع علماء دين سعوديين للتدخل بهدف إيقاف هذا المنهج الهدمي الذي اعتمده المدخلي، فكتب بكر أبو زيد -عضو لجنة كبار العلماء- ردا على المدخلي، حيث وصف كلام المدخلي في سيد بأنه كلام “طغى عليه أسلوب التهيج والفزع على المنهج العلمي النقدي، وافتقد الرد أدب الحوار”.[20] وواصل بكر أبو زيد رده بأن عناوين المدخلي “بالجملة عناوين استفزازية تجذب القارئ العادي إلى الوقيعة في سيد رحمه الله”، لكن المضمون ذاته “يفتقد أصول البحث العلمي، ويغلب عليه الحيدة العلمية، ويفتقد إلى أمانة النقل والعلم، وعدم هضم الحق. أما أدب الحوار وسمو الأسلوب ورصانة العرض فلا تمت إلى الكتاب بهاجس، والاجتزاء والتقول على الرجل وعدم رده المتشابه للمحكم”.
تظهر الجامية سائرة في دورها الأثير عبر مهادنتها للحكام مع تسويغ تام لبطشهم وظلمهم، وتسفيه أحلام شعوبهم في الحرية والكرامة باسم الدين
وعلى الرغم من حالة السكون والوئام التي يتخذها المداخلة مع الحُكام، فإن مواقفهم تتخذ في كافة مساراتها عداء شديدا تجاه الإسلاميين بمختلف تياراتهم، لا سيما التيارات الحركية [ز] وعلى الرأس منها الإخوان المسلمين والسروريون، بدعوى التحذير من الحزبية، أو الجهل بعقيدة السلف، أو مخالفة وليّ الأمر، وليخلصوا في النهاية إلى تبديع الإسلاميين بكل طوائفهم من خلال ترسانة مفاهيمية ناجزة، وشرطة مصطلحات مفاهيمية، وعُدة من أدلة شرعية مبتورة من سياقها.
وهو ما جعل البعض يصف المداخلة بـ “أهل الجرح بلا تعديل، وقد سلم الكافرون من ألسنتهم ولم يسلم المؤمنون منها”، لتظهر الجامية سائرة في دورها الأثير عبر مهادنتها للحكام مع تسويغ تام لبطشهم وظلمهم، وتسفيه أحلام شعوبهم في الحرية والكرامة باسم الدين.
———————————————————————–
الهوامش
أ- المدخلي: نسبة إلى ربيع بن هادي المدخلي، أستاذ الحديث بجامعة المدينة، والجامي: نسبة إلى شيخه محمد أمان الجامي، وهو إثيوبي الأصل، نزل المملكة واستقر بها.
ب- تيار الصحوة/التيار الصحوي: هو تيار جمع العقيدة السلفية والحركيّة الإخوانية وتكوّن من عدد من الدعاة الشباب، وفتحت له الدولة الإمكانات بعد حادثة جهيمان، ثم ظهر كمعارض لها بعد حرب الخليج حين استعانت المملكة بقوات أميركية، ومن أبرز رموزه سلمان العودة وسفر الحوالي.
ج- الجدير بالذكر أن القوصي انخلع عن السلفية بالكلية بعد الثورات، وأصدر عددا من الفتاوى التي تؤيد العلمانيين وبات دائم الحضور في مؤتمرات الكنيسة، بل ونقد المداخلة أنفسهم، وأيّد الانقلاب العسكري.
د- انظر بعض الشتائم في خطبة جمعة واحدة
هـ – بحسب معلومات ميدانية، وقد نُشرت بعض الوثائق التي تفيد ذلك بعد اقتحام مقرات أمن الدولة عقب ثورة 25 يناير.
و- عمد تيار المداخلة إلى طريقة جديدة لنقد الصحويين غير الحديث عن مخالفتهم لوليّ الأمر، تمثلت هذه الطريقة في الادعاء بالضعف العلمي مقارنة بالشيوخ الكبار الشارحين لكتب العقيدة والفقه، وهو ما أكدّ الصحويون عمليا على خلافه، فنشط سلمان العودة في شرح بلوغ المرام وعقد مجالس التحديث في بلدته بُريدة. أما سفر الحوالي فقد شرح العقيدة الطحاوية، وكتب في نقد الأشعرية والصوفية، ولقي شرحه للطحاوية قبولا كبيرا في الأوساط العلمية، مما عزز من مكانة الشيوخ الصحويين وحوّلهم من مجرد دعاة إلى عُلماء حقيقيين مثل العلماء الرسميين، وقد ساعد الصحويين علاقتهم القوية بالشيخ ابن باز وثناؤه على بعضهم مثل سلمان العودة وتقديمه لرسالة علمية كتبها عوض القرني، وللمزيد يمكن مراجعة “زمن الصحوة” لاستيفان لاكروا.
[ز] لم يسلم أي تيار حركي من بغي المداخلة، حتى أشدها مُهادنة. على سبيل المثال ذكر الجامي راجي الفاروقي وأصحاب مشروع إسلامية المعرفة بقوله: “أنشأوا المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة هناك، ليس في دار الإسلام، ولكن زبائنهم هنا موجودون في البلاد الإسلامية”. [مجموع رسائل الشيخ محمد أمان الجامي].
(المصدر: ميدان الجزيرة)