مقالاتمقالات مختارة

سلطة المنهج في الحركة النبوية 2/2

سلطة المنهج في الحركة النبوية 2/2

بقلم التهامي المجوري

ولكن ما هذا المنهج؟ وما هي خصائصه؟ وكيف نطبقه؟ وكيف يستثمر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟

فالبصيرة هي المنهج والمنهج هو البصيرة “بما هي مواجهة واستيعاب متوازن للموقف القائم؛ بفعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي” هي كلية أو قانون المنهج “الذي كثيرا ما يسميه الوحي بالبصيرة أو الحكمة، حيث يستخلص من مجمل النصوص القرآنية والحديثية ووقائع السيرة النبوية، أنه لا دعوة بدون منهج، وأن المنهج هو روح المعرفة وجوهر الوعي، وشرط الأصالة والفاعلية والإطراد والمصداقية” [سلطة المنهج..12 و42]، والبصيرة لا تقف عند مجرد استنساخ القول والفعل واستدعائه من التاريخ ليقام، هداية وتأسيا ورشدا، وإنما تتعمق في جوهر الشيء للوصول إلى إدراك الحقائق وإدراك مواطن التأسي المطلوبة.

ولبلوغ هذا المستوى من الفهم في تحليل أحداث السيرة النبوية، كان على الأستاذ الطيب برغوث، تخليص الوحي مما علق به من رواسب الماضي من بعض مسائل التراث التي لم ترتق إلى مستوى المنهج، من حيث أن لها مفهوما زمنيا محدودا، أو كانت مجرد تقليد غير واع، أو عصبية مذهبية فرضت محدودية النص المطلق، أو تذوق لقول أو فعل عرفت به مدرسة كلامية أو فقهة أو تربوية.

وأول ما يلفت انتباه القارى لكتاب سلطة المنهج…. هو استبدال مصطلح “السيرة النبوية” بمصطلح “الحركة النبوية”، التي لم يمر عليها الأستاذ من الوقوف عندها وإنما وضحها بما ه مناسبا.

ذلك أن السيرة النبوية حجمت في أحداث معدودة ومحدودة، بحيث ارتبطت ارتباطا وثيقا بالأحداث العسكرية، وعندما كانت بعض المحاولات التي أرادت تخليصها من هذا الانحسار، أوقعتها في أطر جزئية لا ترتقي لمقاصد الوحي الأعلى. أما مصطلح الحركة النبوية فتمثل الدعوة التي هي أشمل من الفعل العسكري والسياسي والتوجيهي على المستوى الفرد والأمة. وهذه العملية التي لا يظهر منها إلا استبدال مصطلح بمصطلح، تبدو مهمة جدا لكونها مرتبطة بالنظرة الكلية والمنهج الذي لم يحصر حركة النبي صلى الله عليه وسلم في أحداث عسكرية وغزوات عابرة، قادها النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعد مفهوم الحركة… عرّج الأستاذ الطيب على مفهوم السنة واقترح تخليصه من الفهوم الحزئية التي توارثتها الأمة الذي حصرته في ما يستحب من الأعمال كما هو معروف عند الفقهاء، بحيث لا يكون للسنة معنى إلا في إطار مراتب الأحكام التكليفية، في حين أن السنة من حيث هي منهج، لا تقف عند هذا الحد، وإنما تتجاوزه إلى فعل الأولى، وهذا الأولى قد يكون من المراتب الدنيا أو المراتب العليا من الأحكام..، قد سكون واجبا أو مكروها او مستحبا…إلخ، ففعل الأولى هو الموافق للمنهج وهو الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الوقوف عند الحكم التكليفي المستنتج ابتداء من نص الكتاب والسنة، وفي هذا الإطار حاول الأستاذ الطيب استرجاع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كقامة فكرية علمية اختطفتها الفئات التجزيئية، فأعاده إلى مكانته التي كان عليها في عهده، وطمست بسبب التعصب المذهبي وضيق الأفق الفكري والعلمي، وذلك باستحضار نصوص وشواهد من تراثه تكشف عن مكانة الرجل المنهجية، والتي لا يعرفها الكثير من الناس.

لقد اعترض البعض على الأستاذ في استعماله مصطلح المنهج وإخضاع الحركة النبوية له كآلية للدراسة والتحليل، على اعتبار أن الوحي له من القداسة والإطلاقية ما يجعله لا يخضع لما يضع البشر من مصطلحات وغفل هذا البعض على أن جميع علوم الوحي –التوحيد، الأصول، مصطلح الحديث، المقاصد، الفقه- التي وضعها علماء الإسلام كلها قواعد وضوابط لفهم النصوص… فعلم الأصول حاكم على جميع النصوص التشريعية وهي من وضع البشر، والمنطق حاكم على طريقة التفكير أصلا وهو من صنع البشر، ومصطلح الحديث الذي أخضع الرواية إلى مقاييس وضوابط لقبول الرواية وردها وهو أيضا من وضع البشر.

ومع ذلك فقد أوضح الأستاذ في كتابه هذا أن طبيعة المنهج كسلطة مقررة مسبقا مستوحاة من الحث القرآني على العودة إلى التاريخ كمصدر خبرة استخلافية، ومستقرأة من هيمنة القرآن كرسالة جامعة لمضامين الكتب المنزلة وزيادة، ومقررة فيه كمصدر هداية و”ميلاد للعقل الاستدلالي؛ بل ومقررة أيضا في ختم النبوة كحد فاصل بين العالم القديم والعالم الجديد” كما قال إقبال رحمه الله…، وبذلك وعلى ذلك سارت تجربة النبي صلى الله عليه وسلم، “فاحتل فيها المنهج مكانة محورية، وهو ما يجب علينا أن نهتم به أشد الاهتمام، في جهدنا الفكري والتربوي والاجتماعي على السواء؛ لأن الوعي بالمنهج وبقواعده الكلية، هو وحده الذي بإمكانه أن يحررنا من الاتباعية الحرفية الآلية، ومن النظرة التجزيئية، ومن الموقف التلفيقي، ومن العلاقات التنافرية، ومن الممارسات السلوكية والإجتماعية الاهتلاكية” [سلطة النهج… 11].

تلك هي مبررات تبني المصطلح كقيمة علمية أساسية في فهم حركة الوجود الإنساني…، التي تنطلق من مبدإ أساس تخضع له كل البشرية بجميع مكوناتها الثقافية والعقدية: وهو مبدأ الاستخلاف، الذي سيمارس كفعل دعوي محقق للمكانة والدور اللذين يدور معهما الوجود البشري على هذه البسيطة، ولتحقيق الخلود من كل فعل ودور ومكانة، وفق السنن والقوانين التي تقتضيها الخبرة الرسالية والإنسانية، لاكتشاف منظومات تسخيرية أربع، وهي منظومة سنن الآفاق، ومنظومة سنن الأنفس، ومنظومة سنن الهدياة، ومنظومة سنن للتأييد، وتحويلها من الاكتشاف المعرفي إلى واقع وممارسة ثقافية، متناغمة فيما بينها بحيث تشكل المفهوم المتكامل والمتوازن الذي تبحث فيه وعنه جميع المدارس الفكرية والفلسفية والنظم السياسية والاجتماعية أيضا.

واستعار غزوة بدر الكبرى للتعبير عن إعمال النبي صلى الله عليه وسلم للمنظومات التسخرية الأربع:

سنن الآفاق = الإعداد الجيد للمعرك ماديا، عددا وعدة وإمكانات

سنن الأنفس = توسيع قاعدة المشروة بحيث تكون المسؤولية جماعية يشعر بها المقود كما يشعر بها القائد

سنن الهداية = تطبيق الأحكام المتعلقة بالجانب التعبدي في المعركة

سنن التأييد = الدعاء والإلحاح فيه…،  قال عمر بن الخطاب رضي الله عن قال : “نظرَ نبيُّ اللهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إلى المشرِكينَ وَهم ألفٌ، وأصحابُهُ ثلاثُمائةٍ وبضعةُ عشرَ رجلًا، فاستقبَلَ نبيُّ اللهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ القبلةَ ثمَّ مدَّ يدَيهِ وجعلَ يَهتِفُ بربِّهِ اللَّهمَّ أنجِز لي ما وعدتَني اللَّهمَّ إنَّكَ إن تُهلِك هذهِ العصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ لا تُعبدُ في الأرضِ فما زالَ يَهتِفُ بربِّهِ مادًّا يدَيهِ مُستقبِلَ القِبلةِ حتَّى سقطَ رداؤُهُ عن مَنكِبَيهِ” [الدرر السنية، الألباني، صحيح الترمذي رقم 3081].

لقد وضع الكتاب خطة متميزة في كيفية استثمار وقائع وأحداث السيرة النبوية، وغيرها من نصوص الوحي عموما، بشكل تربوي مقاصدي وقائي، يأبى التناقض والاضطراب والتردد والانحراف؛ بل حول بهذا المنهج الذي تبناه الأستاذ الطيب برغوث، النصوص المعروفة عند أهل الأثر “بأحاديث الفتن”، إلى برامج علمية، تربوية، تثقيفية، استشرافية تهتم بالدراسات المستقبلية وليست مجرد أحاديث معبرة عن معجزة تفيد تقوية الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقها.

بقع الكتاب في 306 وصفحات، ولكنه يصلح لأن يكون برنامجا عمليا في استثمار نصوص الوحي والتراث واكتشاف كنوزنا وفق منظور سنني يعرض الإسلام بأفقه الإنساني، متجاوزا جميع الكبوات التي وقعت فيها الأمة، والوصول إلى تشغيل آليات سنن المداقعة والتجديدة.

الأستاذ الدكتور الطيب برغوث، مفكر جزائري من مواليد 20 أفريل 1951م بالجزائر، لأبوين مجاهدين في الثورة التحريرية الجزائرية 1954/1962، وظل وفيا لمعاني الجهاد وثوابته وروحيته حتى اليوم، وهو ما كان له تأثيره الكبير في كل أبنائه وجيله.

درس العلوم الشرعية في معهد التعليم الأصلي في مرحلتي المتوسط والثانوي، وبعد حصوله على الباكالوريا في العلوم الشرعية، التحق بقسم علم الاجتماع لنيل شهادة الليسانس في علم الاجتماع سنة 1393هـ / 1979، ورغم التحاقه بمقاعد الدراسة متأخرا بسبب حيث دخل المدرسة في السن الثانية عشر، فقد واصل دراساته الجامعية العليا في علم الاجتماع الثقافي الجامعة الجزائرية، إلى ان حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في مناهج الدعوة.

اشتغل بعد تخرجه من الجامعة في حقل الإعلام الإسلامي التابع لوزارة الشئون الدينية الجزائرية، حيث أشرف على مجلة الرسالة، وكان عضوا في هيئة تحرير جريدة العصر ومجلة الأصالة. بدأ الكتابة الصحفية منذ أن كان طالبا في نهاية مرحلة التعليم المتوسط.

خلال هذا المسار كانت القراءة والكتابة والكتاب والأفكار… حبه وهمه ومتعته الكبرى منذ صغره، حيث يمضي أكثر من 12 ساعة يوميا في القراءة والكتابة والعمل الفكري والتربوي والدعوي المتواصل، منذ أكثر من 40 عاما.

وفي سنة 1995 أكره الأستاذ على مغادرة البلاد خلال المأساة التي مرت بها الجزائر خلال سنوات التسعينيات فيما يعرف بالعشرية الحمراء 1989/1999، ليستقر به المقام في النرويج، بعد معاناة طويلة ومكابدة تستحق التقدير والاحترام، فقد فيها زوجته.

الأستاذ الطيب متأثر بالإمام العلامة عبد الحميد بن باديس، وعبقريته الحركية الفذة، ومتأثر أيضا بالإمام العلامة البشير الإبراهيمي، كما يرى في التجربة التاريخية لـ “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” نموذجا ناجحا في الوعي والفعل الحركي الفعال، كان على الحركة الإسلامية في الجزائر أن تستثمره وتجدده.

واعتبره شخصيا في منهجيته الفكرية، امتدادا لفكر عبد الرحمن ابن خلدون ومالك بن نبي، اللذان وضعا أسسا جديدة لفهم الواقع والتكيف معه من غير إخلال بالأصول المرجعية للأمة.

له أكثر من خمسين مؤلف، طبع منها الكثير ولا يزال الكثير ينتظر دوره للخروج إلى العالم، ليستفيد منه الناس في تصحيح مساراتهم الفكرية ومناهجهم الإنجازية في الحياة.

(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى