مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الخامسة)
الفصل الثالث
وقائع كفاح الشعب الفلسطيني وجهاده
كنت على يقين من أن القضية الفلسطينية لا تحل إلا بالقوة المسلحة، ولذلك صرفت معظم جهدي لبسط هذه الحقيقة لإخواني وأبنائي الفلسطينيين، ولزعماء العالم العربي والإسلامي، ومن ثم الحصول على السلاح من أي مكان، رغم الظرف الدقيق الذي كانت تجتازه قضية فلسطين أثر انتصار أمريكا وبريطانيا في الحرب، وضلوعها مع الصهيونية، واندفاعها في دعمها.
اتجهت الهيئة العربية العليا لفلسطين في تجنيد الفلسطينيين وتدريبهم وتسلحيهم، ثم في تكوين جيش فلسطيني، وقدمت بذلك مقترحات مع ميزانية كاملة، ولو تمت الموافقة على ذلك لأمكنهم من تخفيف آثار كارثة 48، ثم لأمكنهم إنقاذ الشطر المحتل من فلسطين قبل أن يثبت العدو أقدامه في الأراضي المحتلة، ولاستطاعوا دحر الأعداء.
وفي عام 1950 أرسلت الهيئة العربية العليا لفلسطين مذكرة إلى الحكومة المصرية أشارت فيها إلى الخطر اليهودي على مصر عامة وعلى سيناء خاصة.
وشبه جزيرة سيناء هي مطمح أبصارهم وهم عاملون بجد وقوة لانتزاعها من مصر؛ لأن لهم فيها ذكريات تاريخية؛ ففيها نزلت التوراة والألواح، وتاه فيها بنو إسرائيل 40 سنة، بالإضافة إلى أن لسيناء موقعًا جغرافيًّا واستراتيجيًّا وعسكريًّا فريدًا، وهي فوق كل هذا غنية بالمعادن والعناصر الثمينة كاليورانيوم والبترول.
ولقد عمدت الحكومة البريطانية سنة 1906 إلى إرسال بعثة علمية فنية إلى سيناء لدراسة حالة هذه المنطقة وطبيعتها، وذلك تمهيدًا لتوطين أكبر عدد ممكن من اليهود فيها، فالخطر على مصر وسيناء خصوصًا هو خطر حقيقي، وليس وهميًّا، ولعله أقرب كثيرًا مما يظنه بعض الغافلين أو المتغافلين.
وفيما كانت عيون الصهيونيين والمستعمرين إلى سيناء ونفوسهم منصرفة إليها بكل ما تنطوى عليه من أمانٍ وأطماع، كان بعض ولاة الأمور في الأقطار العربية لا يقيمون لها وزنًا حتى إن حسين سري باشا قال عنها أثناء توليه رئاسة الوزراء عام 1949: وما قيمة سيناء، إنها ليست إلا رمالاً، ولا فائدة منها!!
حدث هذا عندما تقدم الصهيونيون بمذكرة بواسطة إحدى الدول الكبرى يطالبون فيها بتخلي مصر عن قطاع غزة، وتسليمه إليهم، ونحو دلك من المطالب الصهيونية الوقحة.
ولما كان موقف حسين سري غاية في الضعف والميل للاستسلام فقد طلب من السيد عبد المنعم مصطفى الذي كان يتولى منصب الإدارة السياسية أن يقدم إليه تقريرًا يمهد للاستجابة إلى مطالب الصهيونيين، لكن السيد عبد المنعم المعروف بوطنيته امتنع عن ذلك، وبين لحسين سري الخطأ والخطورة في ذلك، فرد عليه حسين سري بلهجة الآمر وعنجهية المسيطر: إنك موظف، وعليك أن تكتب ما أطلب منك، فرد على حسين سري بالرفض وقدم استقالته، فعندئذ تراجع حسين سري، وخشي سوء العاقبة وذيوع الخبر، فصمت ولم يعد إلى مراجعته.
وظلت المذكرة تنتظر الرد إلى أن تشكلت حكومة مصريه ائتلافية برئاسة مصطفى النحاس باشا، وتولى وزارة الخارجية فيها الدكتور محمد صلاح الدين، ولما عرضت عليه المذكرة مجددًا وقف موقف الرجل الشريف الحازم، وأجاب على تلميح اليهود بالقوة للحصول على مطالبهم: (أنا على استعداد لصدهم بالقوة ونار حرب مقدسة يخوضها العرب والمسلمون جميعًا)، فعندئذ طويت المذكرة اليهودية.
وفي عام 1951 قدمت الهيئة العربية مذكرة لمصطفى النحاس باشا تناولت مختلف الشئون الفلسطينية والتنبيه على مطامع اليهود في سيناء.
وكذلك في عام 1953 قدمت الهيئة مذكرة إلى الدول العربية تبين فيها مطامع اليهود وأخطارهم.
ثم بعد أيام قلائل من قيام الثورة المصرية 1952 قابلت اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وقدمت له مذكرة عن الأخطار التي تهدد ذلك القطاع، كما تهدد مصر من المطامع اليهودية، وقدمت له عدة مقترحات من تجنيد قوة فلسطينية للدفاع عن أهل غزة؛ منعًا لسقوطها في أيدي الأعداء، وتحدثت معه بشأنها، وأقيمت موانع في سبيل تشكيل تلك القوة، فتقدمت بمذكرة أخرى إلى اللواء محمد نجيب، وقد كان يومئذ رئيس الحكومة المصرية.
وقد ظللنا مثابرين على مطالبة الدول العربية ومجلس جامعتها ومصر خاصة بتجنيد الفلسطينيين، ولاسيما على أثر الهجوم اليهودي الغادر على مخيمات الفلسطينيين في غزة، وسقوط عدد كبير منهم، فعندئد بادرت بتقديم مذكرتين إلى اللواء عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة، وبمناسبة العدوان الوحشي على القرى العربية في ضواحي القدس أبرقنا إلى رؤساء الدول العربية سنة 1953 نبين لهم فضاحة العدوان ووحشية هجوم اليهود.
أيضًا في عام 1952 قابلت كمال الدين حسين، وقدمت له المذكرة آنفة الذكر، وبحثت معه مسألة تمكين الفلسطينيين من منطقة غزة من التدريب والاستعداد.
فأجابني بأنه تلقى تقارير من المنطقة تفيد بأن المبادئ الهدامة قد فشت بين الفلسطينيين، وأنه يخشى من نتائج ذلك، ثم قال: ألا ترى أن تقوية مصر تكون أنفع وأجدى من هده المحاولات؟
فأكدت له أن ما يشاع عن الفلسطينيين غير صحيح، وأن الأعداء هم الذين يذيعون عنهم هذه الادعاءات، ويحاولون تشويه سمعتهم بمختلف التهم؛ لإبعادهم عن معركة قضيتهم، لما يعرفون من خطرهم على الصهيونية.
ثم تلا ذلك تقديم المذكرة إلى السيد حسين الشافعي وزير الحربية والبحرية عام 1954.
وفي حديث لي مع اللواء عبد الحكيم عامر عن مصير مذكرتين كنت قد أرسلتهما إليه الأولى خاصة بالأخطار العسكرية التي ينطوي عليها مشروع جونستون، والأخرى خاصة بطلب تجنيد الفلسطينيين وتسليحهم وتدريبهم، فأجابني بأنه اهتم كل الاهتمام لما اشتملت عليه المذكرة الأولى من الأخطار العسكرية، وأنهم درسوا ذلك المشروع الدراسة الوافية.
أما بشأن تجنيد الفلسطينيين فقال: إنني أحب أن أؤكد أن المتطوعين الفلسطينيين قد أبدوا في المعارك الأخيرة بسالة ورجولة كانت موضع إعجابنا وتقديرنا، ونحن مهتمون جدًّا بتجنيد أكبر عدد ممكن من شبان فلسطين، وقد تم إلى الآن تجنيد لواء كامل يناهز ثلاثة آلاف، وسيزداد العدد باستمرار.
وعلى أثر هده المساعي المتوالية واستمرار اليهود في عدوانهم على منطقة غزة، استجابت الحكومة المصرية ففتحت باب التطوع أمام الفلسطينيين، وتم تجنيد لواء منهم تحت قيادة الجيش المصري، ولما كنت أتوق إلى التوسع في تجنيد الفلسطينيين، ولاسيما اللاجئين لتحويل الصالحين منهم إلى مجاهدين، فقد قدمت كتابًا إلى الرئيس جمال عبد الناصر 1956 أرجو فيه التوسيع في تجنيد الفلسطينيين، وأن تطبق الحكومة المصرية عليهم أنظمة التجنيد والقوانين العسكرية.
إن ما عرفه الإنجليز واليهود وما خبروه من بسالة الفلسطينيين وقوة روحهم الحرة، جعلهم يتخذون كافة الوسائل المباشرة وغير المباشرة لإبعادهم عن ميادين القتال، وقد نجح الإنجليز في ذلك، وعملوا على تعديل خطة الدول العربية، وحملوا بعضها على إدخال جيوشها إلى فلسطين، وعلى إبعاد المجاهدين الفلسطينيين عن ميدان معركتهم، وكانت خطة الدول العربية التي تقررت في اجتماع عالية_ لبنان 1947 أن يكون المعول في حرب فلسطين على أبنائها، وأن لا تدخل الجيوش العربية النظامية إلى فلسطين، لكن حين شعرت برغبة بعض الأشخاص الرسميين من العرب إدخال الجيوش العربية إلى فلسطين توجست خيفة، لكن الضغط الغربي كان أقوى، واتخذت الجامعة العربية قرارات منها قطع المساعدة المالية عن المجاهدين في فلسطين، وأوقفت توزيع الأسلحة، وصادرت الأسلحة الوفيرة التي دفع ثمنها أهل لبنان عام 1947 لتسليح المجاهدين، وعبثًا حاول الشهيد عبد القادر الحسيني الحصول على أي سلاح لتحرير جبل القسطل، فتم رفض طلبه بحجة أنهم ليسوا جنودًا نظاميين.
وقد غادر الشهيد دمشق في 6 نيسان وهاجم جبل القسطل في 8 نيسان وحرره من أيدي اليهود، واستشهد -رحمه الله- في تلك المعركة.
كان الموقف حرجًا عندما عارضت الهيئة العربية العليا دخول الجيوش العربية واستبداد الجامعة العربية بالقضية الفلسطينية، وانبثقت دعاية قوية بين الفلسطينيين بأن جيوش الدول العربية السبع ستقضي على الصهيونيين وتنقذ فلسطين دون أن تكبد أهلها خسائر في الأموال والأنفس، وقد لقيت هذه الدعاية المضللة آذانًا عند كثير من الفلسطينيين.
ومن الإنصاف أن نورد هنا أن المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود، والمرحوم النقراشي لم يكونا راغبين في دخول الجيوش العربية فلسطين، فالنقراشي كان يرى أن مصر لا تستطيع دخول الحرب والجيش الإنجليزي جاثم على قناة السويس، لكن الملك فاروق استجاب لرؤساء وزارات الدول العربية الذين قابلوه وأقنعوه بذلك.
ولقد كان الضغط الاستعماري هو العامل الأكبر في تلك الخطة في إبعاد الفلسطينيين عن المعركة؛ خشية من تفاقم حرب العصابات والفداء التي هي العلاج الوحيد لداء الظلم والعدوان ورد كيد الاستعمار في نحره.
كما كان من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الجهات العربية المسؤولة والتي لا تقل خطرًا عن وعد بلفور نفسه أنها منحت الأعداء الصهيونيين فرصة فريدة استمرت عشرين سنة كاملة من المهادنة والمسالمة، اغتنمها أولئك الأعداء لتثبيت أركان دولتهم، واستكمال استعداداتهم الحربية.
لقد كان معظم العرب يستخف بالمؤامرة الصهيونية والمطامع اليهودية، ولا يقيم لها وزنًا، وكنت أرى ابتسامة الاستخفاف والاستغراب على أفواه كثير من زعماء العرب وساستهم وكبرائهم عندما كنت أحدثهم عن الأخطار اليهودة المقبلة، حتى إن بعضهم صارحني بقوله: إنه لا يعقل أن تقدم بريطانيا على المغامرة بعلاقاتها والتفريط في مصالحها الواسعة في العالمين العربي والإسلامي استرضاء لليهود واستخفافًا بالعرب والمسلمين، وإنما هي تخادع اليهود وتماطلهم!!
ومن الخطط التي أضرت بالعرب ضررًا فادحًا، الخطة الشيطانية التي اتبعها الأعداء في بلبلة الأفكار وتشتيت الآراء في البلاد العربية، وبث روح الخصومات الحزبية، والاختلافات بين عناصر الأمة، والحرب النفسية التي قام بها رجال المخابرات الأجنبية وعملاء الصهيونية، وأوحوا إلى ضعفاء النفوس ومرضى القلوب من العرب بأن لا سبيل إلى التغلب على الأعداء، ولا وسيلة لصد عدوانهم؛ لأنهم أعلم بالتكنولوجيا، ويجب علينا أن نتريث مدة جيلين أو ثلاثة أجيال إلى أن نبلغ مبلغهم من التكنولوجيا، وهذا كلام سمعته بنفسي ودحضته قائلاً: أين نسبة التكنولوجيا بين الجزائر وفرنسا، أو بين فيتنام وأمريكا.
ومن الخطط الشيطانية القضاء على رجال هذه القضية في كثير من الأقطار العربية، وإبعاد الرعيل الأول، ومن حذا حذوهم ممن نشؤوا مع القضية، ورضعوا لبان الإخلاص وصدق الوطنية.
وصفوة القول: إن هذه المعركة مع الصهيونية هي معركة حاسمة بين فريقين مختلفين في العقيدة والقومية واللغة والمصالح وفي كل شيء، وإن عدونا عنيد ماكر يعمد إلى الحيلة والدهاء، ويؤلب علينا الخصوم، ويخادعنا بالتعايش السلمي والصلح، وهو يوقن أن لا سبيل إلى ذلك، بل لا يريده في قرارة نفسه، وإنما هي سياسة مرحلية خادعة منه؛ لأنه مصمم على إبادة أمتنا، ومحق ديننا، واستئصال جذورنا، ويجب علينا أن نكون على مستوى الأحداث ونقدر الأخطار المحيطة بنا، والزاحفة إلينا حق قدرها، فنعد لها عدتنا، ونواجهها بما تتطلبه من وعي وجد وحزم.
من الحقائق التي لا ريب فيها والتي ينبغي لأهل فلسطين وسائر العرب أن يوقنوا بها أن قضية فلسطين هي قضية دينية قبل أن تكون سياسية، أو أي شيء آخر.
فاليهود يعتبرونها قضية دينية ويجاهرون بذلك، ويتحدون العالم بصلف وعنف غير مبالين بحق أو عدل، فالصهيونية فكرة يهودية ذات هدف ديني وسياسي معًا.
فاليهود المتدينون انخرطوا في منظمات الهاجانا والأرغون تسفاي ليومي والبالماخ وغيرها من المنظمات المسلحة اليهودية، وأن الذين أنزلوا الضربة الوحشية في دير ياسين وبقروا بطون النساء الحوامل هم من اليهود المتدينين من جماعة أغودات إسرائيل.
إن ارتباط المسلمين الوثيق بفلسطين هو أقوى سلاح، وأنفذ سهم في أيدي المجاهدين، والأعداء يعرفون ذلك، ويبذلون قصارى جهدهم لإبعاد المسلمين عن قضية فلسطين.
إن الأعداء من يهود ومستعمرين وبعض المخدوعين من العرب يحاولون بكل جهودهم إبعاد القضية الفلسطينية عن الإسلام، ويبثون دعايات مسمومة مضللة.
إن اليهود منذ عهد بعيد يتبعون خطة مبيتة لاغتصاب بلادنا، وتدمير مقدساتنا، ولقد كانت القدس محرمة عليهم بنص العهدة العمرية التي أعطاها عمر بن الخطاب لأهل (إيلياء) القدس، وظلت تلك العهدة مفعلة طوال عهود الخلافة الإسلامية، ولم تنقض إلا في عهد محمد علي وحربه مع الدولة العثمانية، فقد استطاع بعض كبار اليهود الحصول على تصريح لعشر عائلات يهودية بالإقامة هناك، وكانوا يزورون الحائط الغربي لسور المسجد الأقصى ويبكون خلفه، فأنكر أهل القدس وتقدموا بشكواهم لمحمد علي فأمر اليهود بعدم رفع الصوت بالبكاء والاقتصار على الوقوف أمام الحائط.
فهذه العائلات اليهودية العشر كانت أصل الداء وأساس البلاء؛ لأنها بدء هجرة اليهود إلى القدس (ومعظم النار من مستصغر الشرر).
إن أقل تسامح مع العدو الطامع يؤدي إلى الضرر البالغ والخسارة الكبيرة، ولطالما كنت عرضة للوم والنعت بالشدة والتطرف لأنني لم أكن أقبل التفريط للصهيونيين في أي حق من حقوق الأمة مهما كان ضئيلاً؛ لأن التساهل يؤدي إلى التفريط في الأمانة، وإهدار حق الأمة.
(المصدر: مجلة كلمة حق)