مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الرابعة)
أواخر الحرب العالمية الثانية في ألمانيا
لما ضيق الحلفاء على ألمانيا وشرعوا في الزحف على الأراضي الألمانية 1945 نقلتنا السلطات الألمانية إلى مدينة بادكشتاين في جنوب النمسا، وبسبب قلة البنزين تحولت السيارات لتعمل بالفحم.
ولما تفاقم الخطر شرعنا في التوجه نحو سويسرا، وفي الطريق علمنا بوفاة هتلر, ولما وصلنا سويسرا رفضوا استقبالنا كلاجئين سياسين، وعرضوا علينا تزويد طائرتنا بالوقود، ومن ثم نتوجه إلى إسبانيا كدولة محايدة, لكن الطيارين أخبروني أن الحلفاء قد علموا بأمرنا وربما يسقطوا الطائرة, توجهنا نحو الحدود إلى مدينة كونستانزة، ووجدنا الجيش الفرنسي محتلاًّ لتلك المنطقة فتسلمنا رجال الجيش.
كانت حالة ألمانيا في أواخر سني الحرب وعند انتهائها غارات ودمار ومعارك جوية وبرية وبحرية وحرمان, ورغم ذلك كله كان النظام والصبر والطاعة تسود الشعب الألماني.
في باريس
بعد أن تم اعتقالنا مكثنا في المعتقل خمسة أيام أعلمت خلالها ضابط المعتقل برغبتي في مقابلة الجنرال قائد الجيش الفرنسي لمحادثته.
تم نقلنا إلى ضاحية لافارين على بعد 12 كيلومتر من باريس, ووضعونا في منزل تحت الحراسة المشددة.
كانت بريطانيا تطالب بتسلمينا إليها بصفتها دولة الانتداب على فلسطين, كما أن قيادة الحلفاء العليا وعلى رأسها الجنرال ايزنهاور تطالب بأن تتسلمنا, لكن الحكومة الفرنسية لم تستجب لهما, كانت ترى أن لها حسابًا معنا من جراء اشتراكنا في مساعدة الثورة السورية ضد فرنسا, ولمساهمتنا -أيضًا- مع الألمان.
واعتقادي أن ما وقع في سوريا من الخلاف الشديد بين الفرنسيين والإنجليز عقب الحرب العالمية الثانية كانت -أيضًا- من أسباب عدم تسليمنا, وأيضًا كانت المظاهرات العربية والإسلامية ومطالبة الكثير من ملوك ورؤساء العرب بأن أقيم في ضيافتهم, كل ذلك جعل الفرنسيين يرفضون تسليمنا.
بذل اليهود الصهيونيون أقصى جهودهم لمحاكمتي كمجرم حرب في نورمبرغ, ولما كانت مواد القانون الذي أصدره الحلفاء في صفة مجرمي الحرب لا ينطبق عليّ فقد عمد اليهود إلى تلفيق تهم تحقق لهم أمنيتهم, منها أنني حرضت السلطات النازية على إبادة اليهود, قمنا بدحض جميع التهم التي حاولوا إلصاقها بنا, ونفينا أن نكون مجرمي حرب, وبذلك ردت الحكومة الفرنسية طلب محكمة نورمبرغ, وبقينا في فرنسا في منزل تحت المراقبة.
الخروج من فرنسا
تمكن أحد الأصدقاء من توفير جواز سفر لي وتغيير اسمي, ومن ثم غادرت فرنسا سرًّا إلى القاهرة بدون أن يكتشف أحد ذلك.
وكان سبب ذهابي إلى مصر أنها مركز الثقل في العالم العربي وفيها جامعة الدول, كما أن الملك فاروق أبدى اهتمامًا وتشجيعًا لوجودي في القاهرة.
الفصل الثاني
العودة إلى الوطن العربي
ظلت إقامتي في مصر مكتومة عن الجميع بسبب مباحثات الحكومة المصرية في قضية جلاء الجيش البريطاني عن مصر, حتى لا أسبب حرجًا للحكومة المصرية.
وفي 19/6/ 1946 توجهت إلى قصر عابدين والتقيت بالملك فاروق وأعرب عن سروره بلقائي ووجودي في القاهرة, وأبدى الملك رغبته في أن أكون في ضيافته فقابلت تلك العناية شاكرًا, وصدر أمر الملك للحاشية بالانتقال فورًا إلى قصر زهراء أنشاص, وتم نقلي إلى هناك في سرية تامة.
انتشر خبر وجودي في مصر وزيارتي لقصر عابدين, ونشرت الحكومة المصرية التي كان على رأسها إسماعيل باشا صدقي بيانًا عن وصولي إلى مصر وظهوري في قصر عابدين.
كانت لجنة التحقيق المشتركة التي عينتها الحكومة البريطانية بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية قد جاء تقريرها بعيدًا عن الحق والنزاهة، وساير رغبة الرئيس الأمريكي ترومان صنيعة الصهيونيين, وأوصت بإدخال مائة ألف من مهاجري اليهود إلى فلسطين, كما أوصت بإبطال القوانين والأنظمة التي تحدد انتقال الأراضي العربية لليهود, وقد قوبلت قرارات اللجنة باستنكار عام ومظاهرات صاخبة وإضرابات شاملة.
وقامت جماعات الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وعلماء الأزهر وطلابه بمظاهرات عديدة دعمًا لكفاح الشعب الفلسطيني.
وعلى أثر ذلك انعقد مؤتمر أنشاص 1946 بدعوة من الملك فاروق, وتقرر فيه التمسك باستقلال فلسطين وصيانة عروبتها, وتأليف هيئة عربية فلسطينية عليا تمثل الفلسطينيين وتنطق باسمهم، ثم تبع ذلك عقد جلسة استثنائية لمجلس جامعة الدول العربية في بلودان, وكانت أبرز القرارات التي أسفرت عن الاجتماعات الرد على تقرير لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية والتوصية بتأليف هيئة فلسطينية عربية, ثم اتخذت قرارًا بمفاوضة الحكومة البريطانية لحل قضية فلسطين, وفي حال فشل المفاوضات تعرض قضية فلسطين على الأمم المتحدة.
الواقع أن النتائج التي أسفر عنها اجتماع بلودان لم تكن على مستوى الآمال التي عقدت عليه, لقد كانت الحماسة لفلسطين تملأ صدور القوم والرغبة شاملة في الأخذ بالوسائل الناجعة لإنقاذها من الاستعمار والصهيونية ودعم الفلسطينيين بالمال والسلاح, لكن وصول الريغادير كلايتون مدير مخابرات الجيش البريطاني في الشرق الأوسط إلى بلودان مصحوبًا بالمستر برايانس مساعد مدير المخابرات في فلسطين أضعف تلك الحماسة التي كانت تتأجج في الصدور.
انتقلت إلى منزل في رمل الإسكندرية واتخذت فيه مكتبًا للعمل, ولم أشعر أن ثمة قيودًا علي، أو على أحد من إخواني العاملين الذين اتصلنا بهم, وشرعنا في العمل معهم, وجعل إخواننا يفدون علينا من فلسطين والأقطار العربية الأخرى, مثل زيارة الأمير شكيب أرسلان لنا.
معاودة النشاط
انتهت الحرب العالمية الثانية وخرجت بريطانيا وأمريكا منتصرتين, وكان الوجود البريطاني قويًّا في البلاد العربية، فلم يكن أحد يجرؤ على معارضة السياسة البريطانية, وبدأ بعض الأصدقاء الأقربين يتخلفوا عن زيارتي، أو يقوموا بها ليلاً في السر, ولم تكن تنقصهم الشجاعة لكن سياسة حكوماتهم في ذلك الحين هي التي قضت عليهم بذلك.
شرعنا في وضع خطة للعمل تبدأ بدعوة الهيئة العربية العليا لفلسطين للاجتماع، وبدعم موقف الشعب الفلسطيني, ومن ناحيتها شرعت المخابرات البريطانية في التجسس علينا، ونصب شباكها حولنا, وكان معظم جواسيسها من مراسلي الصحف الإنجليزية والأمريكية والفرنسية، وهم يخدمون القضية الصهيونية ويعادون قضية فلسطين والقضايا العربية.
أثناء إقامتي في مصر هذه المرة كان المرحوم مصطفى النحاس باشا خارج الحكم, وأريد أن أنوه هنا على موقف مهم له، وهو دعمه لمسلمي يوغوسلافيا إبان المجازر التي تعرضوا لها حين أرسلت له رسالة أعلمه بذلك, وكان حينها ملك يوغوسلافيا بطرس الثاني لاجئًا في مصر هو وعدد كبير من أتباعه, فذهب إليه النحاس باشا وهدده بإخراج كل الرعايا اليوغوسلافيين من مصر إذا لم يعمل الملك على وقف المذابح, وكان لموقفه ذلك أثر كبير في وقف تلك المجازر, وقدم النحاس تبرعات كبيرة وزعت على منكوبي المسلمين هناك.
اليهود ونشاطهم العسكري والسياسي
رفض اليهود السياسة التي انطوى عليها الكتاب الأبيض البريطاني؛ لأنها لا تحقق لهم مطامعهم, فهم يريدون هجرة يهودية واسعة, وقام زعماء اليهود الذين وطنوا أنفسهم على خدمة قضيتهم الباطلة بمساعي حثيثة ومتواصلة استطاعوا خلالها أن يستنفروا المنظمات والمؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية ويجندوا كل العناصر العاملة فيها للتأثير على الأميركيين ودعمهم وتأييدهم في الضغط على بريطانيا لإحباط مؤتمر لندن, واستطاعوا حمل بريطانيا على نقض الكتاب الأبيض.
توصل اليهود لبلوغ غاياتهم وتحقيق مطامعهم بوسائل شتى، فاغتنموا نشوب الحرب العالمية الثانية لتقوية أنفسهم وتعزيز أسلحتهم ومضاعفة قواتهم العسكرية, وتحصين مدنهم ومستعمراتهم.
وجندت بريطانيا خلال الحرب ألوفًا من شبان اليهود فدربتهم عسكريًّا وأشركتهم في بعض العمليات الحربية, وبلغ عددهم 33 ألفًا.
وقبل أن تنتهي الحرب كان اليهود قد أتموا تنظيم قواتهم وتسليحها, وأرادوا اغتنام الفرصة لتهويد فلسطين وإقامة دولتهم فيها خشية قيام حركة عربية عامة بعد الحرب.
وشرعت المنظمات الصهيونية في اقتراف جرائم واسعة النطاق ضد السلطات البريطانية والشعب الفلسطيني في آن واحد.
كانت نواة التشكيلات العسكرية اليهودية في فلسطين هي جمعية المحاربين القدماء من اليهود المسرحين من جيش الجنرال اللنبي الذين سمحت لهم الإدارة العسكرية البريطانية بالبقاء في فلسطين والاحتفاظ بأسلحتهم.
شرع اليهود في أعمالهم الإرهابية من مطلع عام 1944 وأسقطوا هيبة بريطانيا، وقتلوا العديد من رجالها وكبار موظفيها, وكانت جرائمهم هذه تقابل بتسامح غامض وتغاض لا نظير لهما, ولم يكن مسموحًا لقوات الجيش البريطاني بالتصدي لهؤلاء, على عكس قمع الجيش البريطاني لثورة العرب في فلسطين.
كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية تجاملان العرب وتخادعانهم خلال أيام الحرب العالمية الثانية لاستبقائهما في صفوفهما وضمان ولائهم لهما.
كان المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود قد بعث إلى الرئيس روزفلت خطابًا وجه نظره فيه إلى قضية فلسطين وحق العرب فيها وأن دعوى اليهود باطلة.
وجدير بالذكر أنه حين اجتمع الملك عبد العزيز مع رزوفلت في مصر عرض عليه الأخير أن يسمح لاستيطان اليهود في المنطقة الواقعة شمال الحجاز والمشتملة على أراضي خيبر وبني قريظة وبني النضير وتيماء ووادي القري وأبلغه باستعداد اليهود لدفع مبالغ عظيمة من المال لقاء ذلك, وكان طبيعيًّا أن يقابل هذا العرض المستغرب والمستهجن بالرفض والاستنكار.
شهدت الأيام الأخيرة من شهر تشرين الثاني 1947 نشاطًا عظيمًا وصراعًا شديدًا في دوائر الأمم المتحدة بين العرب وأنصارهم من الدول التي عارضت التقسيم, وفي النهاية وافقت الجمعية العمومية على تقرير أكثرية أعضاء اللجنة الدولية الذين أوصوا بالتقسيم, وصدر القرار بأكثرية 33 صوتًا ضد 13 واستنكف 11 عن التصويت, وهكذا قيض لمؤامرة تقسيم فلسطين أن تتخذ شكلها القانوني والدولي في 29 تشرين الثاني 1947.
الموقف من التقسيم
كان لقرار التقسيم صدى عظيم، واكتسحت العالم العربي موجة عارمة من السخط والاستنكار, وأعلن الشعب الفلسطيني الإضراب العام ثلاثة أيام متوالية مصحوبًا بالمظاهرات الصاخبة, وقامت في الأقطار العربية مظاهرات وإضرابات مماثلة، وفتحت الحكومة السورية باب التطوع للشباب, وأصبحت المصادمات تحدث كل يوم تقريبًا في فلسطين بين العرب واليهود.
وفي شهر كانون الأول عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية شهده أكثر رؤساء الدول العربية استنكرت فيه التقسيم، وأعلنت العزم على مقاومته.
أخذ الفلسطينيون يتسلحون بما يستطيعون شراءه بالأموال من الأقطار المجاورة, وأخذت الهيئة العربية العليا لفلسطين تعنى بهذا الأمر عناية جدية.
الوحدة العربية وجامعة الدول العربية
كانت الوحدة العربية أو الجامعة العربية هي هدف القائمين بحركة النهضة العربية، لكن السياسة الاستعمارية للدول الغربية كانت تعمل متعاونة مع اليهودية العالمية على نقيض ذلك الهدف.
فقد عملوا على تجزئة الأقطار العربية وتقسيمها دويلات وإمارات صغيرة ليسهل الاستيلاء عليها واستعمارها واستغلالها اقتصاديًّا وعسكريًّا.
وهناك مخططات استعمارية ويهودية لتقسيم تلك الأقطار العربية (المقسمة) إلى أجزاء صغيرة على أسس طائفية وعرقية أو قبلية, فتصبح في العراق دولة شيعية وأخرى سنية وثالثة كردية ورابعة تركمانية, وينقسم اليمن إلى دولتين زيدية وشافعية, والسودان شمال وجنوب… وهكذا دواليك.
وقد شعرت فلسطين قبل غيرها من الأقطار العربية بالحاجة إلى الوحدة وقيام جامعة تجمع العرب, ولذلك طالبوا بالوحدة مع سوريا وأطلقوا على فلسطين اسم سورية الجنوبية، وأعلنوا ذلك أمام لجنة الاستفتاء الأمريكية التي زارت فلسطين عام 1919.
في 8 ربيع الآخر, 22 مارس, 1945 تم توقيع ميثاق الجامعة العربية في اجتماع عقده ممثلو الدول العربية في القاهرة، واختير السيد عبد الرحمن عزام أمينًا عامًّا للجامعة.
قررت جامعة الدول العربية تأليف قوة مسلحة سميت جيش الإنقاذ قوامها متطوعون من الأقطار العربية، ومن جملتهم عدد من الفلسطينيين, وجعلت مركز الجيش دمشق, وكان عددهم نحو 5 آلاف جندي دخلوا فلسطين على دفعات.
واتخذ الجيش معظم مراكزه في مناطق عربية ما بين نابلس وطولكرم وجنين, حيث لا توجد مستعمرات ولا مدن يهودية, ورغم ذلك هاجمهم اليهود وكادوا يقضون عليهم في مرج ابن عامر لولا مسارعة أهل القرى المجاورة من الفلسطينيين إلى نجدتها وفك الطوق عنها وإنقاذها.
خلال الأشهر الخمسة منذ صدور قرار التقسيم إلى قبيل جلاء الإنجليز استطاع الفلسطينيون أن يلحقوا باليهود خسائر جسيمة في مواقع عديدة، وأن يسيطروا على الموقف رغم ضعف وسائلهم.
حين شرع أهالي المدن الكبرى كالقدس وحيفا ويافا وعكا بالعمل على تحصين مدنهم وتسليح أنفسهم تدخل الإنجليز دون ذلك محاولين إقناع الناس بأن بريطانيا لن تسمح لليهود باحتلال المدن الكبيرة، ولا سيما المدن والقرى العربية التي خصصت للعرب بموجب قرار التقسيم.
لما نشب القتال بين العرب واليهود أواخر 1947 إثر صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين كان موقف حكومة الانتداب البريطاني متحيزًا إلى اليهود، المتآمر معهم طوال عهد انتدابه.
وقد حدثت معظم المذابح التي اقترفها اليهود في القرى العربية الضعيفة تحت سمع وبصر القوات البريطانية كمذابح دير ياسين وناصر الدين وحواسة وعيلوط وغيرها.
(المصدر: مجلة كلمة حق)