مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (1)
نبذة مختصرة عن حياته
ولد السيد محمد أمين الحسيني عام 1897م، وتلقى تعليمه الأولي في فلسطين, ثم التحق بالجامع الأزهر الشريف، وكان يحضر في كلية الأداب وفي الحرب العالمية الأولى تخرج ضابطًا في الجيش العثماني والتحق بالفرقة 46, ولما انتهت الحرب عاد إلى فلسطين ليسقبل عهدًا جديدًا من الكفاح لتحرير فلسطين، وعمل بصورة خاصة على مقاومة الانتداب البريطاني (وعد بلفور) ليقود الحركة الوطنية الفلسطينية.
نشبت ثورة القدس الأولى عام 1920 التي قادها سماحته, وتشكلت محكمة بريطانية لمحاكمة المشاركين في الثورة، وصدر عليه حكم غيابي بالسجن 10 سنين، لكنه تمكن من الفرار من المستعمرين، وانتقل إلى سوريا في بداية عهدها بالاستقلال.
ولما احتل الفرنسيون سورية وقضوا على استقلالها ذهب إلى صحراء سورية، وعاش فيها، وحين تم إلغاء الحكم الصادر بحقه عاد إلى فلسطين، وتولى دار الإفتاء خلفًا لشقيقه عام 1921، وانتخب عام 1922 رئيسًا للمجلس الشرعي والإسلامي الأعلى، فأصلح إداراتها، وحرص على منع أراضي فلسطين من التسرب للصهاينة، وبادر إلى عمارة المسجد الأقصى وتجديده.
وفي عام 1930 شارك في الوفد الفلسطيني الذاهب إلى لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية بشأن فلسطين وتحقيق مطالب الشعب.
وكان سماحته يعمل جاهدًا لإخراج قضية فلسطين من الحيز المحلي الضيق إلى نطاق العالمين العربي والإسلامي ونجح إلى حد كبير في ذلك.
وفي سبيل ذلك دعا سماحته إلى عقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس عام 1931 الذي حضره مندوبون من كافة الأقطار الإسلاميه للنظر فيما يحاك لفلسطين من مطامع اليهود الدينية والسياسية، وهدفهم إلى تحويل فلسطين إلى دولة يهودية.
ولما نشبت ثورة فلسطين عام 1929 حاول اليهود رشوته بنصف مليون جنيه؛ ليفرط لهم في حقوق ليست لهم في مكان البراق الشريف، ولما رفض طالب اليهود بمحاكمته، واعتبروه مسئولاً عن الثورات المتعاقبة.
وفي عام 1934 حاول سماحته وقف الحرب بين السعودية واليمن، وتكللت جهوده بالنجاح وحقنت الدماء.
وفي عام 1936 انتخب سماحته بإجماع أحزاب فلسطين لرئاسة اللجنة العليا التي أدارت دفة الثورة في البلاد، وانتهت بتدخل ملوك العرب وأمرائهم كما هو معروف بنداء وجهوه لوقف الثورة، واعدين إياه بأن تعمل بريطانيا على إنصاف العرب، وقد استمرت الثورة 6 أشهر.
ولكن ما حدث هو ما قامت به بريطانيا بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، فتجددت الثورة عام 1937، وحاولت القبض على سماحته لكنه تمكن من النجاة وهرب إلى لبنان..
وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية ضغطت بريطانيا على فرنسا لتسليمها سماحته، ولكنه كان قد غادر لبنان سرًّا وذهب إلى بغداد، ولما أوشك الإنجليز أن يحتلوا العراق اضطر سماحته للخروج إلى إيران، ولما احتلت القوات البريطانية والروسية إيران أعلنت بريطانيا مكافاة عشرون ألف جنيهًا استرليني لمن يرشد عليه.
لكن الله سهل لسماحته الهروب إلى أوروبا بعد أن رفضت تركيا قبوله لاجئًا سياسيًّا ممالأة للإنجليز، وتمكن من الحصول من دول المحور على اعتراف باستقلال فلسطين.
وبعد انهيار ألمانيا تمكنت السلطات الفرنسية من اعتقاله.
وحاولت المنظمات الصهيونية تقديم سماحته إلى محكمة نورمبرغ؛ بتهمة تحريض ألمانيا على إبادة اليهود، ومساعدة مسلمي البوسنة على المقاومة للدفاع عن أنفسهم من العصابات الصربية.
ولقد فشلت مساعي الصهيونيين واليوغسلافيين ضد سماحته بسسب استنكار المسلمين والرأي العام الإسلامي…
وأخيرًا تمكن سماحته من الخروج من فرنسا سرًّا إلى مصر عام 1946، وكان هبوطه في مصر حدثًا مدويًا في العالم العربي والإسلامي والخارجي.
وسارعت السلطات البريطانية تطالب باعتقال سماحته, ولكن السلطات المصرية أكرمت وفادته، وسرعان ما التف حوله رجالات فلسطين.
وشرع سماحته في تنظيم الفلسطينيين واستنئاف الجهاد، وقام بتأليف جيش الجهاد المقدس، وانتصر الفلسطينيون في أغلب المعارك التي دارت بينهم وبين اليهود، رغم قلة وسائل الكفاح، مقارنة بما يملكه اليهود.
وفي عام 1948 حدثت النكبة وتشرد مليون عربي فلسطيني.
واستمر سماحته يعمل جاهدًا لتخفيف آثار هذه الكارثة مدافعًا عن فلسطين.
وفي عام 1951 رأس مؤتمر العالم الإسلامي في كراتشي، وكذلك عام 1952 في كراتشي -أيضًا.
وفيما تلا ذلك من أعوام استمر سماحته في نضاله على رأس الهيئة العربية لفلسطين، وموتمر علماء المسلمين.
وانتقلت روحه إلى ربه ظهر يوم الخميس عام 1974، وكان لموته الأثر البالغ في نفوس العرب والمسلمين.
الفصل الأول
الهجره من فلسطين
لم تكن الهجرة من فلسطين ضمن خطتي؛ لاعتقادي أن مكافحة الأعداء من الداخل أولى وأجدى، وأنه لا يجوز لمجاهد أن يهجر وطنه إلا مضطرًا أو مرغمًا لأمر هو في صالح القضية التي يجاهد من أجلها.
وكنت قد أزمعت السفر إلى أوربا، وأعددت لذلك، فلما ظهرت بوادر الشر المبيتة من اليهود قبيل حادثة البراق، شعرت بخطورة الموقف، وبضرورة بقائي فعدلت عن السفر.
وانجلت المعركة عن نصر عظيم للعرب، وقامت لجنة برلمانية من بريطانيا بزيارة فلسطين للوقوف على أسباب الثورة، وحاول محامو اليهود أن يحملوني وز الدماء المهراقة, وأني حاولت الخروج من فلسطين لأخلص من أوزارهم، فكان جوابي أني كنت على وشك السفر، وبقيت، وحتى لو كنت سافرت لسارعت بالعوده إلى البلاد؛ لأواجه عدوانكم، ولأتحمل المسئولية كاملة.
وحينما قلت هذا القول لم أكن أظن أني سأضطر لهجرة موطني بعد ثمانية أعوام, أي بعد عام من نشوب ثورة 1936, تلك الثورة التي رافقها الإضراب الفلسطيني العظيم، الذي تم وقفه نتيجة تدخل ملوك العرب، وقيامهم بالوساطة لدى بريطانيا؛ لإقناعها بإنصاف العرب الفلسطينيين.
وأوفدت بريطانيا لجنة ملكية برياسة اللورد بيل إلى فلسطين للتحقيق في أسباب هذه الثورة, وتقديم توصياتها بشأن حل دائم للمشكلة, وكانت اللجنة العربية وعرب فلسطين يميلون إلى مقاطعة اللجنة، لكنهم لم يسعهم بعد استشارة الملوك والرؤساء العرب إلا النزول على رأيهم والاتصال بهم.
وفي 23 حزيران 1937 قدمت اللجنة الملكية تقريرها إلى ملك بريطانيا، ثم تواترت الشائعات عن استكمال اللجنة لتقريرها ونصيحة الحكومة البريطانية بتقسيم فلسطين.
خلال هذه الفترة سافرت إلى المملكة العربية السعودية بصحبة وفد لمقابلة الملك عبد العزيز آل سعود, ولبسط قضية فلسطين وشرح ظلامتها لحجاج بيت الله.
بعد ذلك سافر الوفد إلى سوريا وقابلنا رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي, ولم نمكث هناك طويلاً؛ إذ وصلتنا أخبار مقلقة عن فلسطين تشير إلى أن بريطانيا قد ركبت رأسها، وأنها ستشرع في اتخاذ وسائل الشدة والعنف، وستقمع بالقوة كل حركة وطنية، وأنها شارعة في اعتقال المجاهدين الفلسطينيين.
بادرنا بالعودة إلى فلسطين لمجابهة هذا العدوان الاستعماري, وقد قام الإنجليز معنا بكل وسائل المساومة لوقف النضال، ولما فشلوا في التأثير علينا بالإغراء والوعد, عمدوا إلى التهديد والوعيد، وأرسلت لي رسالة شفوية تهددني بالقتل.
ولما يئسوا من جدوى الوعيد والتهديد عزموا على اتخاذ خطة جديدة من العنف والبطش, ونشرت الجرائد البريطانية واليهودية أن المفتي هو العقبة الكؤود في سبيل كل حل للمشكلة وأي تفاهم مع اليهود, ويجب على الحكومة أن تصفيه وتعزله من رياسة المجلس الإسلامي الأعلى، وأن تبطش به وبالفريق المتصلب العنيد من المتطرفين -على حد قولهم.
فاجأتنا السلطة البريطانية باقتحام دار اللجنة العربية العليا في القدس في 17 يوليو 1937، لكن تمكنت من الفرار منهم, وتوجهت نحو ساحة المسجد الأقصى المبارك, ولما كان المسجد يضم في ذلك الوقت عددًا من المجاهدين ومعهم البنادق والمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية فقد اضطرت السلطة البريطانية إلى وضع حراسة على أبواب المسجد الأقصى وحول أسوار المدينة القديمة لمنعي من النجاة.
دام الحصار لحوالي ثلاثة أشهر، ثم جاءت بريطانيا بقوة عسكرية من مسلمي الهند قاصدة أن تقتحم أبواب المسجد للقبض علي وعلى المجاهدين, حينها قررت المخاطرة ومحاولة اختراق الحصار والخروج إلى أحد الأقطار العربية، حيث تتوفر لي حرية العمل، ومتابعة حركة التحرر والجهاد.
وصلت لبنان عن طريق التهريب لكن ألقي القبض عليّ، وتعرف عليّ مساعد مدير الأمن الفرنسي، وحاول المندوب السامي الفرنسي الكونت دو مارتيل نقلي إلى باريس, لكن قامت مظاهرات عربية في بيروت أدت إلى بقائي في لبنان, وبقيت هناك لمدة عامين تحت إشراف البوليس حتى نشبت الحرب العالمية الثانية.
أبلغني الكولونيل الفرنسي بأن المندوب السامي لا يرغمنا على الإقامة هنا، ويسمح لنا بالخروج والإقامة في لبنان تحت إشراف إدارة الأمن العام, لكنهم لم يسمحوا لي بالسفر إلى سوريا، ولا على الإقامة في بيروت أو طرابلس.
أقمت في قرية (ذوق مكايل) من منطقة كسروان, واستأجرت هناك دارًا، وشرع الإخوة العاملون معنا يفدون علينا ويستأجرون الدور المجاورة لدارنا بالتدريج حتى أصبحت المنطقة أشبه بحي خاص بنا، مما ساعدنا كثيرًا على تحقيق أغراضنا، والاجتماع سرًّا مع قادة المجاهدين وكبار رجال الحركة الوطنية لفلسطين والأقطار العربية.
استمرت نار الثورة في فلسطين مشتعلة عامين كاملين من أكتوبر عام 1937 إلى أكتوبر 1939, وقد كان هتلر زعيم ألمانيا النازية معجبًا أشد الإعجاب لكفاح عرب فلسطين وبسالتهم التي بهرته.
وقد بالغت السلطات البريطانية في اتخاذ وسائل البطش والإرهاب لقمع الثورة، وحشدت في فلسطين على التوالي أربع فرق عسكرية جديدة، أي: ما يعادل 50 ألف جندي, ليبلغ إجمالي الجنود القامعين للثورة حوالي 70 ألفًا.
انعقد في مصر المؤتمر البرلماني الذي دعا له محمد علي علوبة باشا، وشهده ممثلون للأقطار العربية والإسلامية، وأبدوا جمعهم تأييدهم لفلسطين ورفض الانتداب, كما أبدت الحكومة المصرية برئاسة محمد محمود باشا مظاهر اهتمام بالغة بقضية فلسطين.
حاول اليهود دس الدسائس والمؤمرات وإثارة الفتن بين العرب وإثارة النعرات الطائفية بين المسلمين، وقد أخبرني حينها ضابط فلسطيني يعمل في المخابرات البريطانية أن الإنجليز جندوا عددًا من المجرمين وسلحوهم وأمروهم بالهجوم على القرى المسيحية وقتل أفرداها, وأخبرني الضابط أنه سلّح بعض المجموعات بنفسه.
سرعان ما اتخذت قيادة الثورة الوسائل الضرورية لمكافحة هذه العصابات المجرمة وإخماد نار الفتنة, وتم القضاء على المجرمين وتشكيل محكمة عسكرية وطنية لمحاكمتهم.
نجحت الثورة في القضاء على مشروع التقسيم، وأدنت العرب من تحقيق آمالهم, وأصدرت الحكومة البريطانية بيانًا أشارت فيه إلى أنها ستدعو إلى عقد مؤتمر في لندن تحضره الحكومات العربية وممثلون عن العرب واليهود للوصول إلى حل ملائم لقضية فلسطين.
تألف الوفد وسافر وعقد المؤتمر في أوائل عام 1939 لكنه فشل بسبب تعنت الإنجليز وتدخل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لصالح اليهود, وأصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض الذي اشتمل على تشكيل حكومة فلسطينية مستقلة خلال 10 سنوات بشرط موافقة العرب واليهود على تشكيلها، وأن يسمح لآخر مرة بدخول 75 ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين خلال خمس سنوات.
رفضت اللجنة العربية بنود الكتاب، وكذلك رفضه اليهود, وظلت الثورة مستمرة بعد صدور الكتاب بضعة أشهر.
ــــــــــــــــــــــــــ
* الكتاب الأصلي من إعداد: عبد الكريم العمر، الناشر: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 1999م، عدد الصفحات: 546
(المصدر: مجلة كلمة حق)