سلسلة انتصارات رمضانية: معركة حطين (1)
المقدمات
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
تمكَّن صلاح الدين من تكوين جبهة إسلامية موحَّدة، اتَّسمت باتساع رقعتها، لكن سيطرة الصَّليبين على بعض مدن الساحل الشَّامي، فضلاً عن حصني الكرك، والشوبك، كلُّ ذلك يمثل عقبة كأداء في إمكانية الاتصال بين محوري دولته التي ضمت مصر، ومعظم بلاد الشام، وجزءاً من أرض العراق، يضاف إلى ذلك: أنَّ هـذه المدن، والموانأى الساحلية تمتَّعت بمكانةٍ استراتيجية هامَّة؛ لأنَّ سيطرة الصليبيين عليها جعلهم على اتِّصال دائمٍ بوطنهم الأم الغرب الأوربي، لذلك اهتمَّ صلاح الدين منذ بداية حكمه بالإغارة على هـذه المناطق، بل إنَّ اهتمامه بذلك يرجع أيضاً إلى أيَّام وزارته في الدولة الفاطمية.(الشامي، 1991، ص157) ومن مقدمات معركة حطين يمكن أن نذكر:
1 ـ وفاة بلدوين الخامس وتأثيرها على أوضاع الصَّليبيين: توفي الملك بلدوين الخامس في شهر جمادى الاخرة عام 582 هـ/شهر اب عام 1186 م بعد شهور من توليته، فبرزت من جديد مشاكل الصَّليبيين الدَّاخلية؛ إذ كانت وفاته إيذاناً بصراع حادٍّ بين الأمراء حول الفوز بعرش المملكة، وقد بدأت أولى حلقات الصراع بين ريموند الثالث، وجوسلين دي كورتناي اللذين كانا على مقربة من الملك عند وفاته في عكَّا، وظلَّ المعارضون لوصاية ريموند الثَّالث في حبك المؤامرات؛ حتى نجحوا أخيراً في سحب الوصاية منه، وتحويل المُلك من الطفل إلى أمِّه سيبيلا، وأوكلوا إليها اختيار الملك الجديد؛ لأنَّها لا تستطيع أن تحكم كامرأةٍ، وسلَّمت سيبيلا تاج الملك إلى زوجها جاي لوزينان وفق ما أراده المعارضون لريموند الثَّالث.(طقوش، 1999، ص140).
2 ـ استفادة صلاح الدين من الظروف التي تمرُّ بها مملكة بيت المَقْدِس: في الوقت الذي كان صلاح الدين يعمل جاهداً لتكوين قوَّة عسكريةٍ مزوَّدةٍ بالمؤن، والعتاد، واستعداداً لخوض معركة فاصلة ضدَّ الصليبيين؛ كان يتجنب الاشتباك مع الصليبيين في أكثر من جبهةٍ واحدةٍ، ولا يمكِّن عدوَّه من تعبئة قواه، وتوحيد صفوفه رداً على تعبئة القوَّات الإسلامية، فأرسل في سنة 583 هـ/1187 م إلى أهل حلب يأمرهم بمصالحة بوهيمند الثالث أمير أنطاكية ليتفرَّغ لجهاد الصليبيين من جانب واحد، كما عمد صلاح الدين الذي عرف بمهارته العسكرية أيضاً إلى استغلال تلك الظروف العصيبة؛ التي كانت تمرُّ بها مملكة بيت المقدس عقب تتويج جاي لوزجنان؛ الذي تنازلت له زوجه عن الحكم، وأصبح ملكاً لبيت المقدس بعد أن خلعت التاج عن رأسها، ووضعته على رأسه قائلةً: زوجي أقدر، وهو أحقُّ بالملك، وأجدر.(الشامي، 1991، ص176).
وفشل القومص ريموند الصنجلي أمير طرابلس في الفوز بذلك المنصب عندما رفض فرسان الداوية استقلاله بالحكم، وطالبوه بالعمل بالوصية؛ التي كانت تقضي له بحقِّ الوصاية فقط، الأمر الذي جعله يلقي بنفسه بين أحضان صلاح الدين طالباً منه مساعدته ضدَّ ملك بيت المقدس، والداوية، وأجاب صلاح الدين نداءه، وأمدَّه بالمعونه اللاَّزمة، وبذلك استطاع أن يضم إليه حليفاً جديداً من الصَّليبيين، مكوِّناً بذلك ثغرةً كبيرةً في صفوف الصَّليبيين.
3 ـ رينولد شاتيون ينقُض مجدداً الهدنة مع المسلمين: أثار تحالف صلاح الدين مع ريموند الثالث غضب رينولد شاتيون؛ الذي كان في هدنةٍ مع صلاح الدِّين، واشتهر بالتفكير المنفرد، وبفضل ما تنطوي عليه الهدنة من بذل الحماية صارت القوافل التجارية تتردَّد بين مصر، وبلاد الشام، مجتازةً الأراضي الصَّليبية بأمان ،(ابن واصل، 1957، 2/185) ولا شكَّ بأنَّ ذلك عاد بالفائدة على رينولد شاتيون نفسه، نظراً لما يفرضه من ضرائب، ومكوس عليها، كما يبدو: أنَّه لا يستطيع الحياة دون أن ينهب، ويسرق، فقام بنقض هدنته مع صلاح الدين عام 582 هـ/أواخر عام 1186 م حين أوقف قافلةً تجاريةً كبيرةً مارَّةً بأرض الكرك في طريقها من مصر إلى بلاد الشام، واستولى عليها، فقتل حرَّاسها، وأسر بعض الجند، كما قبض على مَنْ في القافلة من تجَّار، وعائلات، وحملهم إلى حصن الكرك.(طقوش، 1999، ص142).
لم تلبث أنباء الاعتداء أن وصلت إلى مسامع صلاح الدين، ولحرصه على احترام المعاهدة أرسل إلى رينولد شاتيون ينكر عليه هـذا العمل، ويتهدَّده إن لم يُطلق سراح الأسرى، ويعيد الأموال، غير أنَّ صاحب الكرك رفض استقبال رسله، وعندما وجد صلاح الدِّين إعراضاً من جانب رينولد؛ أرسل إلى الملك جاي لوزينان شاكياً، ومطالباً بالنصح لرينولد بإعادة الأسرى، والأموال. لبَّى جاي دعوى صلاح الدِّين، لكنَّه أخفق في الضغط على رينولد، وكان لهـذا الأسلوب الذي استخدمه صلاح الدين في موضوع الأسرى؛ الذين وقعوا بيد أرناط صاحب حصن الكرك، ومطالبته إيَّاه بإطلاق سراحهم، وردِّ أموالهم دون استخدام القوَّة كان له الأثر الأكبر في إدخال الخلاف، وعدم الثِّقة بين ملك بيت المقدس، وأرناط الذي لم يستجب لرجائه باحترام الهدنة المعقودة مع صلاح الدين، وأصبح الملك الصَّليبي يتشكَّك في نوايا أرناط، وطمعه في الانفراد بحكم تلك المنطقة، وإنَّ كلاً منهما بات حذراً من الآخر. (الشامي، 1991، ص176).
كانت هـذه التحالفات، ونقضها نقطة الانطلاق الأولى لمعركة حطِّين، ذلك: أنَّ تحالف صلاح الدين مع ريموند الثالث أتاح له مجالاً للتدخل في السياسة الداخلية للصَّليبيين، وإنَّ تجديد تحالفه مع كلٍّ من ريموند الثالث، وبوهيموند الثالث حرما مملكة بيت المقدس من مساعدة أقوى إمارتين صليبيتين في الشام، وهما إمارة طرابلس، وإمارة أنطاكية، وهكـذا نجح صلاح الدين في شقِّ الصفِّ الصَّليبي، وفي المقابل فإنَّه نجح في توحيد الصفِّ الإسلامي، فأعدَّ الجيوش الإسلامية في مصر، والجزيرة، والموصل، والشام، معنوياً، وعسكرياً للمعركة؛ التي أرادها فاصلةً.(طقوش، 1999، ص143).
4 ـ وقعة صفورية: في الوقت الذي كان صلاح الدين فيه معسكراً بالقرب من حصن الكرك، والشوبك لحماية الحاجِّ من اعتداءات الصَّليبيين؛ عمد إلى إرسال قَّوةٍ استطلاعيةٍ، انتخب أفرادها انتخاباً، وأسند قيادتها إلى مظفر الدين كوكبوري صاحب حرَّان، وبدر الدِّين دلدرم بن ياروق أمير عسكر حلب، وصارم الدين قايماز النجمي أمير عسكر دمشق؛ لتقوم بالإغارة على ممتلكات العدوِّ، لإضعاف معسكراته، وكشف مخطَّطاته، فسارت هـذه السرية المدجَّجة بالسِّلاح، والعتاد، باتجاه صفورية. وقد حرص قوَّادها على أن يكون مسيرها على قدر كبير من السرية، والخفاء، فكان سيرهم إليها في الجزء الأخير من الليل، على أن يكون هجومهم عليها في الصَّباح الباكر، وبالفعل فقد نُفِّذت تلك الخطة بدقَّة تامَّةٍ وصبحوا صفورية، وساء صباح المنذرين.(المقدسي، 1997، 2/75).
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، بيروت، 1429ه-2008صص 400-405.
محمد ابن واصل، مفرج الكروب في أخبار بني ايوب، دار الكتب، اقاهرة، 1377 هـ – 1957 م.
شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: ابراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ،1418-1997.
محمد سهيل طقوش، تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة دار النفائس، لبنان 1400 هـ 1999
أحمد الشامي، صلاح الدين والصليبيون تاريخ الدولة الأيوبية، مكتبة النهضة العربية، القاهرة، 1411ه1991م