بقلم د. مصطفى يوسف اللدواي
شبابٌ في مقتبل العمر يافعٌ ثائرٌ مقاومٌ، ورجالٌ أشداءٌ وأبطالٌ أخفياء أنقياء، بينهم وبين الأرض عشقٌ وحبٌ وولهٌ وهيامٌ، لا يعرفهم فوق الأرض أحد، ولا يلتفت إلى مهماتهم تحت الأرض أحدٌ، بصمتٍ يعملون، وبسريةٍ يقاومون، في الليل يتسللون، وفي النهار عند الفجر يسرحون، يغيبون عن أسرهم وعائلاتهم الذين لا يعرفون عن مهماتهم شيء سوى أنهم مقاومون، يؤدون الواجب الملقى على عاتقهم، وعند انتهاء أعمالهم يعودون إلى بيوتهم، يستحمون وينامون، ويعاودون نشاطهم من جديدٍ في حياةٍ اعتياديةٍ لا تلفت أنظار غيرهم، ولا تثير الشبهات حولهم، رغم أن عملهم شرف، ومهمتهم مفخرة، وتكليفهم تقديرٌ واعتزاز، إنهم صغارٌ في سنهم لكنهم أشداء في فعلهم، ومجهولون في أسمائهم ولكنهم معلومون بأفعالهم، يخافهم العدو ومنهم يحذر، ويخشى منهم المستوطنون ومنهم يشكون، أولئك هم أفراد وحدة الأنفاق.
على أكتاف الرجال المدججين بالسلاح حملوا، وبالأيدي المتوضئة الطاهرة رفعوا، وحولهم اصطف إخوانهم بلباسهم العسكري الذي يحبون، وهم يعاهدونهم بصوتٍ كدوي الرعد يتردد في صدورهم، وتصدح به حناجرهم، أنهم سيحفظون وصيتهم، وسيسيرون على دربهم، وسيحسنون من بعدهم استخدام الأنفاق التي حفروها، وسيقاتلون من الأنفاق التي جهزوها، وسيأتون العدو من الأنفاق التي موهوها وليومِ كريهةٍ معه أعدوها، وسيحافظون بفضلها على الاشتباك مع العدو دوماً من نقطة الصفر.
في المسجد العمري الكبير بغزة، زينة مساجد القطاع وأكبرها وأقدمها، التقت مساجد غزة الحزينة، ويمم المصلون المفجوعون من كل المناطق وجوههم إلى المسجد العمري، الذي توجهت إليه جماهير القطاع على اختلافهم، يتقدمهم سكان وأبناء حيي الدرج والتفاح، الذين ينتمي إليهما شهداء الأنفاق، ففيهما تربوا ونشأوا، ومنهما إلى كتائب القسام انتسبوا، فكان حقاً على سكان هذين الحيين الغزيين القديمين، أن يكونوا أوفياء مع أبنائهم، وصادقين مع أولادهم، ومحبين لهم حتى يوم شهادتهم، فخرجوا بأعدادٍ غفيرةٍ لهم مودعين وداعين، يرددون أسماءهم، ويذكرون صفاتهم، ويعددون أفعالهم، ويسألون الله لهم المغفرة والقبول.
غزة بكل سكانها وأطيافها السياسية رغم البرد والصقيع، والمطر والرياح والسيول، خرجت لتقترع وتدلي بصوتها وتنتخب المقاومة، وتختار رجالها الذين يرفعون رأسها، ويحققون مجدها، وينتصرون على عدوها، فكانت جنازات الأبطال السبعة استفتاءً على المقاومة، ولعنةً على المتخاذلين، وسبةً في جبين المتعاونين والمنسقين، ودعوا فيها أبطالهم بصمتٍ وخشوعٍ، وحزنٍ وخضوع، ولكن قاماتهم كانت منتصبة، وجبينهم كان عالياً، وعيونهم إلى نصرٍ آتٍ كانت ترنو، وخطاهم إلى غدٍ أكثر عزة وأوفر كرامةً كانت حثيثة.
غزة مدينةً واحدةً، وقطاعاً موحداً، التقت على المقاومة وتوحدت على قتال العدو، وبدت كأقوى ما تكون تماسكاً ومنعة، وقوةً وعزة، وظهرت في أبهى حلل الصمود والثبات، والثقة واليقين، بأن الغد أفضل من اليوم، والأجيال القادمة أقوى من سابقتها، والخلف سيكون أشد مراساً وأقوى عوداً وأعمق تجربةً من السلف المربي والباني، والمؤسس والمنظم، ومن فوق الأرض أرسلت المقاومة في غزة إلى العدو المرتعدة فرائصه على الجانب الآخر من الحدود، أن رجالنا إليكم قادمون، ومن كل الأنفاق إليكم سيصلون، وفيها سيمر أسراكم، وسينقلون إلى حيث كان شاليط وآرون، وستعلمون حينها أي منقلبٍ ستنقلبون، وأي مصيرٍ ستواجهون.
في غزة لم يكن موطئاً لقدمٍ غير المقاومة، ولم يسمع فيها صوتٌ لغير قتال العدو، فقد تزاحمت الأقدام المقاومة والوجوه المغبرة بثرى الوطن وترابه، وتعالت الأصوات العزيزة، تهتف للشهداء بحرقةٍ، ولكن العيون كانت على من سيأتي من بعدهم متطلعة، ومن سيحمل الراية خلفاً لهم، ومن سيكمل دورهم، وسينزل إلى الأنفاق ليحل مكانهم، ويسد فراغهم، ولكنهم كانوا على يقين أن غزة ستواصل الإعداد، وستستمر في التجهيز، ولن تخاف من حربٍ رابعةٍ بها يهددون، ولها يضعون الخطط ويرسمون لها التصورات، فغزة التي أكرهت العدو على الانسحاب، وأجبرته على الرحيل، وأفشلته في ثلاث حروبٍ متتابعة، ستفشله في الرابعة وفي غير الرابعة إن هو تهور وقرر.
المقاومة هكذا يجب أن تكون، إعدادٌ مستمرٌ، وتجهيزٌ دائمٌ، واستعدادٌ قائمٌ، وحضورٌ يفرض نفسه، وجاهزية للعمل فوراً، وقدرة على التنفيذ السريع، وضمانة للنجاح الأكيد، وتوزيعٌ للأدوار منظمٌ، وتقسيمٌ للمهام منسق، فريقٌ يعمل تحت الأرض، يحفر الأنفاق عميقاً ويحصنها، ويجهزها بالمعدات ويزودها بالسلاح، وآخر ينشط فوق الأرض، يدرب ويهيئ، ويجهز ويعد، ويفكر ويخطط، ويبدع وينجز، وغيرهم يغوصون في البحر ضفادع بشرية وكوماندوز بحرية، ومهندسون يجربون في السماء طيراناً بدون طيار، وصواريخ تصل إلى مدى أبعد، وتصيب أهدافاً بدقةٍ أكبر، وتحمل حشوةً متفجرةً أضخم وأكبر.
بهذه المقاومة الحاضرة ننتصر، وبهؤلاء الرجال الأماجد والأبطال الكبار نحقق أهدافنا ونصل إلى غاياتنا، فهؤلاء يخيفون العدو بحق، ويرعبونه بجد، وينتصرون عليه قبل يوم الجد، فتراهم يسمعون بهم دبيباً تحت أقدامهم، وحركة نشطةً أسفل منهم، وينتظرون من جوف الأرض ظهورهم، ومن باطنها خروجهم، ينتصبون أمامهم عمالقةً لا يخافون، وجبالاً لا يتزحزحون، يحققون أهدافهم وإلى غزة عبر أنفاقها ينسحبون، ويتركون خلفهم عدوهم مخبولاً كما المجنون، يتساءل بعبطٍ كيف وصلوا، ويخبط رأسه في هبلٍ كيف انسحبوا، ويبدأ حساباته من جديد، هل يعودون مرةً أخرى وكيف سيعودون، ومن أين سيخرجون، وهل سيقتلون جنوداً أو سيأسرون ضباطاً، وهل سيتركون وراءهم أثراً أم سيفجرون العيون التي خرجوا منها.
غزة اليوم حزينة باكيةٌ، إذ على هؤلاء الرجال يبكي الرجال، ويتوجع الكبار، وعليهم تذرف الحرائر دموعها، وتبكي النساءُ أبطالها، وقد تتأوه النفوس وتئن،ٍ وتبكي العيون وتحزن القلوب، وقد تتحسر المقاومة على رجالٍ كان سيكون لهم صولةٌ وجولةٌ، ولكن ظهرها لن ينكسر من بعدهم، وجمعها لن ينفرط في غيابهم، وإرادتها لن تضعف برحيلهم، ولن يتوشح أهلها السواد طويلاً، ولن يسربل الحزن أيامها أبداً، بل سينبلجُ صبحٌ آخر، وسيتفتق الغد عن فجرٍ جديدٍ، له وهجٌ كالشمس وومضٌ كما البرق، ونصلُ سيفٍ كصمصامةٍ من حديدٍ من نيازك السماء قد نزل.
المصدر: موقع الأمة.