بقلم الفاتح عبد الرحمن محمد
الإسلامُ دينٌ متكاملٌ، يهتم بأدق تفاصيل الحياة اليومية لأتباعه، وينظِّم علاقات من يدينون به تنظيماً دقيقاً؛ سواء كانت هذه العلاقات في إطار الأسرة الصغيرة (المنزل)، أم الحي، أم المدينة، أم القرية، أم الدولة بأكملها، وسواء كانت هذه العلاقات مرتبطة بعضها بعضاً، أم متداخلة، أم منفصلة؛ والأعجب من ذلك أن لديه تنظيماً لجميع هذه العلاقات في شتى صورها وتقلباتها؛ فهو ينظم علاقاتنا في حالة الانسجام والمودة والرحمة، كما ينظمها في حالة التناحر والتفرق والشقاق.
من هذه العلاقات التي ينظمها الإسلام؛ علاقة الأبناء بالآباء، فقد فرض الإسلام على الأبناء طاعة الآباء واحترامهم، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [النساء: 36]، وقال أيضاً: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الأنعام: 151]، وغيرها من الآيات التي تدور حول هذا المعنى، كما فرض أيضاً على الآباء رعاية الأبناء وإظهار الحب لهم، قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فالزينة تقتضي المحافظة عليها وحمايتها من كل سوء. وقال (صلى الله عليه وسلم): (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يغفر لكم).
في هذه الوقفة سأتناول نوعاً جديداً ونمطاً غريباً في علاقة الآباء بالأبناء، بدأ يطفو على سطح هذه العلاقة، ويوجّهها توجيهاً يمكن أن يؤدّي إلى تغيير مسارها بالكلية، أو يغيّر ملامحها بصورة تصبح معها هذه العلاقة جامدة وفاترة وخالية من جميع مظاهر المشاعر الجيّاشة والعواطف النبيلة؛ فقد بدأت تتلاشى في الآونة الأخيرة مسافات الاحترام والتقدير من قبل الأبناء للآباء، بل ووصل الأمر إلى حد تمرّد هؤلاء الأبناء على آبائهم، وهناك كلمة جميلة للخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز قال فيها: (الهداية من الله والتربية من الآباء)، وبالمقابل أصبحت علاقة الآباء بالأبناء يسيطر عليها إنفاق المال للمأكل والمشرب والتعليم وغيرها من ماديات الحياة، دون النظر لما تتطلبه تربية هؤلاء الأبناء من مجالسة ومخالطة ونزول لمستوياتهم العقلية والنفسية، لمعرفة ما تريده كل مرحلة من مراحلهم العمرية، فللطفولة معاملة تختلف عنها في مرحلة المراهقة، وخلال العام الدراسي معاملة تختلف عن سائر العام خصوصاً عند العطلات، وهكذا.
وإذا أردنا الغوص والتعمّق أكثر فأكثر في أسباب تلاشي هذا الاحترام من قبل الأبناء للآباء، يمكننا إسناده بصورة أساسية للأسباب الآتية:
[1] التدليل الزائد من الآباء للأبناء، والنزول عند رغباتهم مهما كانت، مما يولّد شعوراً لدى الأبناء بأنّ الأب لم يُخلق إلاّ لتلبية رغباتهم كلها، وفي حالة عجزه عن ذلك، فالثورة والصياح وارتفاع الأصوات، وربما التعدّي عليهم بالضرب أحياناً كما يحكي أحد الآباء من أن ابنه كسر له قدمه، وضربه ضرباً مبرحاً؛ لأنه لم ينفذ له بعض رغباته!!
[2] عدم توفير الصداقة الصالحة للأبناء، إضافة إلى إهمالهم وعدم أخذهم إلى مجالس الكبار، فلو جلس هؤلاء الصغار مع الكبار لاستفادوا فائدة عظيمة وتعلموا منهم؛ لأن (المجالس مدارس) كما يقولون، وقد كان عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) يقول: “كان والدي يأخذني إلى مجلس النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان فيه أبو بكر وعثمان وعلي وكبار الصحابة”. وقد أفرد الإمام البخاري (رضي الله تعالى عنه) باباً في أخذ الصغار إلى مجالس الكبار.
[3] عدم إعطاء الأبناء الثقة والاحترام والتقدير والحب والحنان، فوجود هذه الأشياء كفيلٌ بأن تسهم في صلاحهم، وجعلهم يقدّسون هذه العلاقة التي تربطهم بآبائهم. كما لا بُدَّ من التذكير بقوله (صلى الله عليه وسلم): (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم)، فإذا رأى الأبناء أن الأب يبر أباه بالكلمة والاحترام والتقدير، وبالدعاء والصدقة إن كان ميتاً، فإن هذا ينعكس في نفوسهم فيتأثرون به.
من جانب آخر نجد أنّ انشغال الآباء بتوفير لقمة العيش لأبنائهم، وإسنادهم أمر التربية للأمهات فقط؛ فيه كثير من المخاطر والمحاذير، وهو قد يكون ناجعاً في مرحلة الطفولة حيث النعومة والارتداع، ولكن بتقدّم العمر والانفتاح على المجتمع ومخالطة الأصدقاء ومشاهدة الفضاء المفتوح، تكون هذه المهمة عسيرة جداً على الأمهات وحدهنّ، فهناك أمور تحتاج لتدخُّل حاسم وتصرف حكيم، وهو ما لا يتوفر لدى الأمهات دائماً؛ حيث تغلب عليهنّ العاطفة والطبطبة على المشكلات مهما كبرت، وهنا يأتي دور الأب كقائد ومربٍّ وموجّه لدفة الأسرة من الضياع والانحراف.
عموماً سفينة الأسرة تخالف المثل القائل بأنّ (المركب الذي له قائدان يغرق)، فهي حقيقةً تحتاج لقائدين للوصول بها إلى بر الأمان، وهما الأب والأم، وتحتاج في نفس الوقت إلى تفهُّم نفسية الأبناء، وعدم إهمال صغائر الأمور في تربيتهم؛ فمعظم النار من مستصغر الشرر.
المصدر: الاسلام اليوم.