سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها
عرض أحمد التلاوي
اهتم المستشرقون بالنظام السياسي والاجتماعي الإسلامي، ومفهوم الدولة في الإسلام، وكانت صور هذا الاهتمام إما بدراسة تاريخ الدولة الإسلامية – أيًّا كانت هويتها – منذ دولة النبوة في المدينة المُنوَّرَة، وحتى الدولة العثمانية، أو البحث في النصوص؛ القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، والمتون؛ التي ظهرت مِن كتب التراث، سواءٌ في شرح القرآن والسُّنَّة، أو في وضع تصوُّر مِن جانب فلاسفة ومفكرين مسلمين لشكل الدولة كما يرونه مِن وجهة نظر الإسلام، مثل أفكار ابن رشد، وأفكار الفارابي في “المدينة الفاضلة” على سبيل المثال.
إلا أنَّ أهم مدرسة للاستشراق هي تلك التي ارتكزت على رصد التاريخ؛ حيث إنَّ الحَدَث التاريخي – إذا ما تمَّ بالموضوعية اللازمة – هو أحد أكثر الأدوات التي يمكن أن تتأسس عليها حقائق الأمور، وأرضية حديث مشتركة، خاصة لو كان الرصد بعيدًا عن التأويلات وتفسيرات الحدث قدر المستطاع.
وبين أيدينا كتابٌ بعنوان “سلطة الدولة ونهوضها”، للباحث والمستشرق الأمريكي نوح فيلدمان، وأهميته في كونه أحد الوجوه الاستشراقية القادمة من المعبد اليهودي، بحيث تكون لشهادته أهمية كبرى إذا ما كانت في الاتجاه الإيجابي.
وفيلدمان، من مواليد 22 مايو 1970م، ويعمل أستاذًا للقانون في كلية هارفارد للحقوق، وفي كتاباته وأفكاره، يهتم فيلدمان بالقضايا التي فيها شكلٌ من أشكال التماس بين الدين والسياسة، سواء فيما يتعلق بالإسلام أو المسيحية، وبالذات قضية الكنيسة ودور الدين في الحكومة وحياة الفرد الخاصة في الولايات المتحدة.
وبشكلٍ عام؛ يرى فيلدمان أنَّ العلاقة بين الدين والسياسة محتومة، وأنه لا يمكن الفصل بينهما.
واشتبك فيلدمان مع قضايا العالم العربي والإسلامي في هذا الاتجاه، من خلال الأزمة العراقية بعد الغزو الأنجلو أمريكي في العام 2003م؛ حيث عَمِلَ مستشارًا لدى الإدارة الاحتلالية الأمريكية التي أدارت العراق بعد الغزو مباشرة، وكان في الفريق الانتقالي لبول بريمر، من أجل المشاركة في كتابة دستور دولة العراق الانتقالي، ولكن من غير المعروف إذا ما كان قد شارك فيه أم لا.
ولكنه عبَّر عن رأيه في أكثر من موضع؛ حيث يكتب لـ”النيويورك تايمز و”بلومبرج فيو”، بأنَّه لا يمكن نشر أسس الديمقراطية في العراق من غير جذور إسلامية.
هذه الخلفيات كلها، نجدها في كتابه الذي بين أيدينا الآن؛ حيث إنَّه ينطلق من مركزية أساسية، وهي أنَّ سقوط الدولة الإسلامية الأخيرة، وهي الدولة العثمانية، جاء بسبب قيام السلطة العثمانية في الفترات الأخيرة من تاريخها بتحييد سلطات وتأثير طبقة العلماء والمؤسسات الدينية، مقابل إفساح المجال للمؤسسات التنفيذية، تحت مسمَّى الإصلاحات الدستورية والإدارية.
مع الكتاب:
الكتاب جاء في ثلاثة فصول ومقدمتَيْن وخاتمة، وأهم ما أشار إليه في مقدمتَيْه للكتاب، هو تصوراته عن إمكانية نهوض تجربة ديمقراطية وسياسية مختلفة من جانب أحزاب ما يُعرف بالإسلام السياسي، سواء الراديكالية، كما جرى في تجربة جبهة الإنقاذ في الجزائر عام 1991م، أو الوسطية، كما في تجربة العدالة والتنمية التركي.
ويمزج في نقاشاته حول العلاقة بين الإسلام وبين السياسة في المجال الحركي، وكيف أسس الفكر الإسلامي عند بعض المفكرين المعاصرين، مثل الغنوشي، لتجارب مهمة في مجال السعي لتأسيس دولٍ دستوريةٍ حديثة من وجهة النظر الإسلامية؛ يمزِج ما بين الحديث عن هذه التجارب، وعن الواقع السياسي ذاته الذي يتحركون فيه، منذ الثمانينيات والتسعينيات الماضية، وحتى مرحلة ما بعد ثورات ما يُعرَف بالربيع العربي.
ويركِّز في هذا الإطار على تجربة الإخوان المسلمين، ولاسيما في مصر بحكم تأثير مصر وأهميتها، ومركزية جماعة الإخوان المسلمين بالنسبة للحركة الإسلامية بشكلٍ عام.
ولكن تحليله لم يكتمل بطبيعة الحال، في ظل تطورات الحدث التي تلت تأليفه للكتاب؛ حيث يقف عند حدود العام 2012م، وإنْ اهتمَّ بتحليل الاتجاهات العامة للانتخابات التي جرت في ذلك الوقت في أكثر من بلدٍ من بلدان الربيع العربي، مثل تونس ومصر وليبيا واليمن، وأسباب اختلاف الموقف فيها عن الموقف في سوريا؛ حيث تطورت الأمور إلى حرب أهلية دامية.
الفصل الأول من الكتاب، كان بعنوان: “أين كان مكمن الصواب؟”، كان عبارة عن رصد شامل لتطور مفهوم دولة القانون والتشريع في الإسلام منذ عصر النبوة وحتى ظهور الدولة العثمانية.
الكاتب في هذا الفصل كمن يرصد العوامل التي أدت إلى نجاح الدولة الإسلامية واستمراريتها، وقام بإطلاق مفردات مُسَمَّيات علوم النظم الحديثة على مفردات الدولة الإسلامية، باعتبار أنها “دولة قانون ومؤسسات”.
ويضع في هذا الإطار، أهمية كبرى لدور الخليفة والقضاة والعلماء في تنظيم الدولة في الإسلام، من خلال منظومة من السلطات والصلاحيات لكلِّ طرفٍ من هذه الأطراف، تتكامل فيما بينها لكي تعطي الشكل العام للدولة، واضعًا ذلك في إطار المصطلح النُّظُمِي السياسي الحديث “التوازن بين السلطات”.
الفصل الثاني، حمل عنوان “الأفول والسقوط”، وفيه تناول تجربة العثمانيين في مجال الإصلاح المؤسسي والقانوني، وقال إنَّ أزمة الدولة العثمانية، والتي قادت إلى سقوطها وتفككها، كان تخلِّيها عن المنظومة القديمة الأصلية التي ابتدعها المسلمون عبر التاريخ في دولهم المختلفة، وأَخْذ العثمانيين بالروافد الغربية الحديثة للدولة، مثل النموذج البريطاني في الإدارة، والنموذج الفرنسي في التشريع.
وعلى إيمانه الكامل بأهمية النموذج الذي ساد في عصر الأمويين والعباسيين والدول الإسلامية الأخرى المختلفة، فإنَّه يعطي أهمية كبيرة للنموذج السعودي الحالي في الحكم؛ حيث يرى أنَّ النظام السعودي الذي يقوم على مرتكزَيْن؛ سلطة الحاكم السياسية وسلطة العلماء في المجال الروحي والتشريعي – قبل “إصلاحات” محمد بن سلمان الأخيرة – يضمن شكلاً من أشكال الاستقرار للدولة.
ويقول إنَّ أهم علامات قوة النظام الحالي في المملكة العربية السعودية، هو التنسيق القائم بين السلطة التنفيذية العلماء، وأنَّ المؤسسين الأوائل للدولة السعودية الحالية، لم يكرروا خطأ العثمانيين في الأخذ عن النماذج الغربية للدولة الحديثة، والتي يرى أنَّها لا تلائم البيئة العربية والإسلامية.
بل هو لا يرى ضرورةً لذلك من الأصل؛ حيث يملك العالم العربي والإسلامي تراثًا رائدًا مهمًّا في مجال السياسة والحكم وإدارة شؤون الدول.
الفصل الثالث، حمل عنوان: “نهوض الدولة الإسلامية الجديدة”، وفيه يميِّز فيلدمان بين “الإسلاموية”، أي حركات الإسلام السياسي، وبين “الإسلامية”، والتي تمثل بالنسبة له، النموذج الأصلي للدولة الإسلامية.
ويناقش في هذا الإطار، مجموعة من القضايا المطروحة أمام الحركات الإسلامية إذا ما أرادت الحكم والنجاح والاستمرار فيه، مثل مسألة العدالة الاجتماعية، وإضافة الطابع الديمقراطي على الشريعة على حدِّ قوله، ودسترة الشريعة.
وهو كما أفرد مجالاً مهمًّا للدولة السعودية في الفصل الثاني؛ يفرد مكانة مهمة للنموذج الإيراني، باعتباره النموذج الأقرب إلى ما يمكن تصوره بالإسلاموية الحديثة، وحكم العالِم.
الخاتمة، كانت موجزة بخلاف مقدمتَيْ الكتاب؛ حيث يطرح فيها فكرة أساسية، وهي التحدي الذي رآه رئيسيًّا لخروج الدولة الإسلامية إلى النورِ من جديد، وهو كيفية إضفاء طابع دولة القانون على دولة الشريعة.
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: نوح فيلدمان
اسم الكتاب: سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها
ترجمة: الطاهر بوساحية
مكان النشر: بيروت
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
تاريخ النشر: 2014م
الطبعة: الطبعة الأولى
عدد الصفحات: 190 صفحة
(المصدر: موقع بصائر)