مقالاتمقالات مختارة

ســادة الشـر

بقلم أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

بهذا العنوان المثير للفضول أقصد كل تلك الجماعات التي تدفع بالعالم إلى الضياع، بفضل نظام قائم على الحروب، والمراقبة، والترويع، والمؤامرات، وخاصة بالأكاذيب المتراكمة. جماعات قائمة على رأسمالية متطرفة لمروجي العنف وتجارة محرمة لمختلف أنواع الموبقات، وغربان أموال الفرق متعددة الجنسيات لتجارة السلاح… تلك الفئات الضالة ضميريا، المنطلقة للاستحواذ والسيطرة على العالم بزعم تطبيق حضارتهم ذات الطموحات الغازية، ذات ضراوة تجارية تحت قناع زائف من أقذر أنواع المصالح، من أجل اقتلاع الإسلام والمسلمين والاستحواذ على الموارد الطبيعية لبلدانهم.

خلفية لا بد منها
لكي نفهم كيفية وسبب كل ما يدور حولنا اليوم، لا بد وان نرجع إلى مجمع الفاتيكان الثاني (1962ـ1965) وكل المناخ العام الذي أدى إلى انعقاده. لأن إلحاد القرن العشرين في الغرب قد أثقل على كافة وثائق ومناقشات هذا المجمع. أو على حد قول أسقف مدينة ميتز بفرنسا: “لأول مرة تعقد الكنيسة مجمعا في مناخ يسوده الإلحاد النظري والعملي. فالعالم يتطور ويعيش بلا مساهمة الكنيسة بل وعلى عكس هواها”!
وقد تمت ملاحظة كيف كانت العقلية الملحدة قد تغلغلت في عقول الأتباع بما فيهم رجال الدين والقساوسة، فالكنيسة لم تعد تقود العالم. والأدهى من ذلك تورطها مع الغرب الممثل في دول رأسمالية وحضارتهم القمعية المنفلتة. فالأغلبية الساحقة من كبار رجال الكنيسة مرتبطون بالرأسمالية وبالهيكلة السلطوية للكنيسة.

من ناحية أخرى، فإن الأتباع باتوا ينتقدون بصورة متزايدة عمليات التحريف المتعددة التي تم فرضها على النصوص والأحداث التاريخية، وذلك على مر تاريخ المسيحية. فوجدت الكنيسة نفسها مضطرة للاعتراف بالطبيعة الأسطورية للمسيحية ذات الرقع المتعددة للنصوص المقدسة، أي الاعتراف بأنها غير منزّلة. ويكفي مطالعة ما كتبه البابا بنديكت 16: “إن كتبة الأناجيل ليست الأسماء التي هي معروفة بها”! وهو ما أضر بالحياة الدينية بصورة مزدوجة: فقد أثبت التلاعب بالنصوص، الذي لم يتوقف على مر التاريخ، وكمّ الأتباع المتزايد الذي يغادر الكنيسة، وهو ما أدى إلى عبارة: “النزيف الصامت للكنيسة”.. وتكفي الإشارة إلى أنه توجد حقائق في التراث لا أثر لها في النصوص، أي أنها من بنات أفكار الباباوات والمجامع. فالعقيدة الأساسية للثالوث لا توجد في النصوص الأصلية، وهي غامضة بالنسبة لمعظم البشر، خاصة الطبقة العاملة. والتغيرات التي أجرتها الكنيسة في هولندا بحذف عقيدة الثالوث تماما، لكي تحتفظ بالأتباع، لم تساعد على رأب الفجوة المتزايدة..

ولقد نظرت الكنيسة الى الماركسية على أنها أكبر خطر معنوي على الجنس البشري، بل “هي أسوأ في حد ذاتها وفي عواقبها من القنبلة الذرية، ولا بد من نسفها بصخب، على حد قول مونسنيور سوارس: ويتعيّن على الكنيسة أن تضع ردها الشخصي بوضوح وتقدم بديلا مسيحيا لمفهوم الماركسية” (مداخلته يوم 22/10/1964 في المجمع). ولأول مرة في التاريخ الكنسي تم تناول كيفية الاستعانة بالمدنيين في التبشير.

وفي مجملهم، ان الوثائق التي صيغت وتم التصويت عليها في مجمع الفاتيكان الثاني كلها بوجهين: مراعاة تطلعات الجماهير دون إدانة الرأسمالية ؛ إدانة الثوار في أمريكا اللاتينية وعدم انتقاد جرائم الأمريكان في شمال فيتنام ؛ التحدث عن التجديد في استمرارية الكنيسة الكاثوليكية، الوحيدة المعتمدة من الرب، والدعوة إلى اتحاد الكنائس ؛ التحدث عن انفتاح الكنيسة وقبول الآخر، والعمل فقط على اقتلاع الإسلام الذي يثير أحقادهم فالمعادلة الواقعية جد مريرة: ديانة صنع البشر على أيدي الباباوات والمجامع، وديانة أنزلها المولى عز وجل، ولم يتعرض نصها الإلهي الى أي تحريف..

لذلك قال البابا بولس السادس وهو يتحدث عن الشيوعية في سبتمبر 1963: “ان تطبيق علاجات حاسمة وشافية لمرض قاتل شديد العدوى لا يعني تغيير الرأي بالنسبة له، وإنما البحث عن مهاجمته واقتلاعه، ليس نظريا فحسب وإنما في الواقع”. وهو ما تم فعلا ببشاعة شيطانية وورع كنسي في عقد الثمانينات.

أهم قرارات مجمع الفاتيكان الثاني
لا أذكر هنا إلا بعض أهم القرارات التي وردت في الستة عشر وثيقة التي أصدرها المجمع، وهي: أربعة دساتير، ثلاثة بيانات، وتسع قرارات:
* تبرئة اليهود من دم المسيح، رغم كل ما تتضمنه الأناجيل من اتهامات حتى في أعمال الرسل، وتكرار هذا الاتهام في القداس لمدة ألفي عام تقريبا! وهذه التبرئة تعني التلاعب بالدين والعقيدة والنصوص.
* الاعتراف بأن الأناجيل تمت صياغتها في فترات أبعد بكثير من التواريخ المعروفة، وعن طريق أشخاص غير التي هي معروفة بأسمائهم، وأن بها الصالح والطالح!
* اقتلاع الشيوعية في عقد الثمانينات حتى لا يبقى سوى نظام الرأسمالية الغارق فيه الفاتيكان ليقود العالم. (وقد انتهى اقتلاع اليسار في مطلع 1991).
* اقتلاع الإسلام في عقد التسعينات حتى تبدأ الألفية الثالثة والعالم قد تم تنصيره، إذ تفرض الكنيسة المسيحية على أنها وسيلة الخلاص الوحيدة! (والحرب على الإسلام دائرة منذ مجمع الفاتيكان بشراسة، لكن بمزيد من الإجرام والعنف منذ أحداث 11/9 المصنعة محليا).
* تكوين وإعداد القساوسة وكافة أعضاء الكنيسة على القداسة، (على الرغم مما تعاني منه هذه المؤسسة من انحرافات جنسية وجرائم واختلاسات وتجارة أعضاء وتعامل مع الماسونية، وتطول القائمة..).
* إصدار وثيقة شديدة الدهاء والتنازلات لصالح اليهود وضد الإسلام، بعنوان: “في زماننا هذا”.
* فرض قرار: “تنصير العالم”،
* فرض قرار: “الحوار بين الأديان”، على أنها قرارات سارية، لا نقاش ولا رجعة فيها.
* فرض المساهمة في عملية تنصير العالم على كافة المسيحيين المدنيين وعلى الكنائس المحلية.
* انشاء مجلسان تحت إدارة البابا مباشرة لتنفيذ عملية اقتلاع الإسلام:
1 ـ مجلس الحوار بين الأديان
2 ـ مجلس تنصير الشعوب
لقد قرر مجمع الفاتيكان الثاني الأهداف والوسائل، وبات على مؤسسة الفاتيكان والكرسي الرسولي وأتباعهما من مؤسسات تطبيقها.

نقطة الانطلاق
في العاشر من نوفمبر 1998 أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، المتطابقة سياسيا، عن ان أول عقد في القرن الواحد والعشرين والألفية الثالثة، من 2001ـ2010، سيصبح العقد الدولي لتفعيل ثقافة عدم العنف والسلام لصالح جميع اطفال العالم..
كما أعلن الفاتيكان، المتطابق سياسيا أيضا، بما ان الألفية الثالثة قد بدأت ولم يتم اقتلاع الإسلام، مثلما تم اقتلاع الشيوعية في العقد المحدد لها، قام مجلس الكنائس العالمي في يناير 2001، بتكليف الولايات المتحدة، التي أصبحت القوة العسكرية المتفردة على الصعيد العالمي، مهمة اقتلاع “محور الشر” الذي هو الإسلام والبلدان المسلمة، وأعطاهم تلك الوثيقة الشهيرة المعنونة: “عقد اقتلاع العنف”..
وفي الحادي عشر من سبتمبر 2001، بعد سبعة أشهر من هذه الوثيقة الشيطانية الكنسية، تم نسف الثلاثة أبراج بطريقة الهدم تحت السيطرة، للتلفع بشرعية دولية لاقتلاع الإسلام والمسلمين. وتم إلصاق هذا الجُرم بالمسلمين، وانطلقت صيحة الحرب، حرب مقدسة، حرب صليبية كما أعلنها بوش الابن، وقام بتحويل هذا العدوان الى نجاح مبهر لحرب صليبية لقوى الخير ضد قوى الشر.. وقرر السياسة التي اختارها للانتقام من ذلك الهجوم المصنع بأيديهم لتدمير البلدان المسلمة. وتواصلت الأحداث بموازين متفاوتة حتى في الموت..

وتواكبت معها الوقاحة لتبلغ مداها مع القس چرمي ڤاين الذي أعلن أن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام “شاذ جنسيا ومستحوذ عليه الشيطان”. وهي عبارة كان من الممكن ان تمر على أنها من متطرف منعزل، لو لم يكن من قالها هو راعي الكنيسة المعمدانية لمدينة جاكسون ڤيل بفلوريدا، ورئيس المعمدانية الجنوبية سابقا. كما ان القس فرانكلين جراهام قد تضامن معه بإعلان “ان الإسلام هو دين الشر وشيطاني بل وقبيح”.. أما بوش فقد أعلن ان الحرب على العراق هي “حرب عادلة” أوحاها له الرب!
ولقد تم استخدام عبارة “محور الشر” سياسيا لأول مرة في 29 يناير 2002، في إطار الدخول في الحرب على العراق سنة 2003.. وكان ريجان قد سبق واستخدم عبارة “امبراطورية الشر” لوصف الاتحاد السوفييتي. وقد تعاون معه البابا يوحنا بولس الثاني واثنان ضالعين من كرادلته هما أجوستينو كازاروللي وآشيل سيلفستريني. وساهم الفاتيكان بجانب شديد الفاعلية في اسقاط الشيوعية باختلاق “حزب تضامن” في بولندا، بلد ذلك البابا..

أما البابا فرانسيس فقد كرر أكثر من عشر مرات عبارة: “ان الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالتجزئة”، مشيرا الى مختلف الحروب الدائرة بين الغرب والإسلام.. الدائرة بالتجزئة الى ان يعطي الضربة القاضية بفضل تعاونه القريب مع الصهاينة كما سنوضح. فالبابا فرنسيس يمنح نفسه القيام بأدوار أبعد ما تكون عن مهام وظيفته الدينية. اذ أنه أسند لنفسه ثلاث مهام: تصفية عواقب الحرب الباردة ؛ وفك طوق الاحتلال الصهيوني دافعا بالبقية الباقية من الفلسطينيين الى “القتل العرقي ذاتيا” ؛ ومحو “الإرهاب الإسلامي” وذلك بحث المجتمع الدولي على القيام بأي شيء في سبيل اقتلاع الإسلام، بزعم تلك العبارة التي تم استحداثها في السبعينيات من القرن العشرين، وهي: “الإسلام السياسي”.

خارطة طريق صهيونية
في سباقه المهين للدين الذي يترأسه، بتقديم المزيد من التنازلات للصهاينة، استقبل البابا فرنسيس وفدا من الحاخامات يوم 31 أغسطس 2017، هم أعضاء من مؤتمر حاخامات أوروبا، والمجلس الحاخامي الأمريكي، والحاخامية الكبرى لإسرائيل، الذين قدموا له وثيقة من تسع صفحات، بعنوان “بين القدس وإسرائيل”، (رابطها بآخر المقال). وهي وثيقة موجهة للكاثوليك باعتبارهم “شركاء، وحلفاء، وأصدقاء، وإخوة في البحث المشترك عن عالم أفضل”، كما يؤكد الحاخامات..

وتقدم هذه الوثيقة وجهة نظر يهودية نادرة حول حالة الحوار اليهودي المسيحي، لكنها تسارع في تحديد: “إن الاختلافات العقائدية بين اليهودية والمسيحية لها أولوية قصوى ولا يمكن مناقشتها ولا المساومة عليها” ! وليفهم مغزاها من يشاء..

كما أعرب الحاخامات في نهاية الوثيقة عن قلقهم “من الخطر الحقيقي الذي يتهدد العديد من مسيحيي الشرق”، وقدموا معاونتهم الصديقة بدعوة الكنيسة للانضمام إليهم “لتكثيف صراعهم ضد البرابرة الجدد في جيلنا هذا، وهم اللقطاء الراديكاليون للإسلام الذي يتهدد مجتمعنا العالمي” !
ويا لقمة السخرية والاحتيال واللؤم الصارخ: يهود لا يعترفون بالمسيحية ولا بالسيد المسيح، بل يعتبرونه ابن سفاح من الجندي بانتيرا، ولم يتراجعوا أبدا عن هذا الموقف، إذ ان خلافاتهم مع المسيحية “لا يمكن مناقشتها أو المساومة عليها” كما يقولون بوضوح، هؤلاء يقترحون عن طيب خاطر تحرير مسيحيو الشرق الأوسط من أيدي البرابرة الجدد، الذين هم “اللقطاء الراديكاليون للإسلام” !! يهود صهاينة ومسيحيون متعصبون يتوجهون، يدا في يد، لاقتلاع الإسلام والمسلمين !
من الواضح أنهم يعدون للحرب العالمية الثالثة، التي يقول البابا فرنسيس أنها بدأت بالتجزئة، ضد الإسلام والمسلمين، حربا يريدونها شاملة قاضية، وليست مجزئة، حربا قاضية نهائيا..
هل من الممكن ان يكون المرء أكثر إجراما وأكثر شراً ؟!

(المصدر: صيد الفوائد)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى