مقالاتمقالات مختارة

سطوة المخيال الحداثي

سطوة المخيال الحداثي

بقلم حسام شاكر

مِن سِمات المخيال الجمعي المتمكِّن أن يُواجِه الاجتراء على نقده بمقاومة صريحة أو مناوأة ضمنية، فهيْمنة هذا المخيال على الوجدان الجمعيِّ تجعل تفكيكه وبيان سذاجته مسعى مكلّلاً بالأشواك وقد يستثير تحسُّساً من جمهور تشبّع بصوره ومقولاته دون أن يستعمل الحسّ النقدي معها. ومن وجوه التحدِّي المركّب الذي يواجه هذا المسعى مع المخيال الحداثيِّ تحديداً أنّ نقده يستنفر شكوكاً في التزام النّاقد بمقولات الحداثة السّاطعة في الأذهان بما قد يستدعي تقريعه أو يفرض استتابته وقد يطارده هراوات التكفير القيميِّ على الملأ.

من المقدس إلى المقدس

من عادة البيئات والأنظمة التي تعلن ولاءها للحداثة أن تتذرّع بمقدّسات وتتمسّك بطقوس وتحتمي بحزمة “تابوات” على منوال عهود سابقة تنعتها بالظلامية، وإنْ جاء المنحى الجديد بصفة رمزية أو إيحائية غالباً تتجنّب التعبير الصريح أو الإفصاح الفجّ. يأنف المخيال الحداثيّ فكرة “التابو”، تأسيساً على أنّ الحداثة امتازت بثوْرتها على “تابوات” أو محرّمات ثقافية واجتماعية كانت لها سطوتها من قبل، أو لعلّ الحداثة هي الثورة الناقدة عليها أساساً. لكنّ المخيال الحداثي المتراكم لا يسعه أن يتجرّد من بعض “تابواته” إلاّ بفكاك من الحداثة ذاتها إلى ما بعدها، ولهذه “المابعدية” “تابواتها” المغلّظة أيضاً وإن لم يُعترَف بذلك.

ويُتصوّر في المخيال الحداثيِّ أنّ المجتمعات التي تُعلن ولاءها للحداثة تجاوزت المقدّس المهيْمن على وعيها أو حجّمته أو لعلّها حازت “شرف” انتهاكه وتدنيسه، دون أن يُلحَظ أنّ ما جرى في هذا الصدد لم يتجاوز – تقريباً – إزاحةً موضوعية مكّنت لمقدّسات أخرى يتذرّع بعضُها بإنكار المقدّس، فللحداثة مقدّساتُها المُبجّلة أيضاً؛ التي تأتي في هيئات صريحة أو رمزية؛ دون أن يقضي ذلك بالتسليم المُطلَق بصحّة الزعم بإزاحة المقدّس الدينيّ جانباً في بيئات تعلن ولاءها للحداثة.

قد تلحظ العيْنُ الفاحصة أصناماً -ماديّة ومعنويّة- نُحِتَت للحداثة، ومعابدَ رمزية شُيِّدت لها، وأنّ السّدنةَ الجُدُد وحاملي المباخر صاروا يظهرون في رداء حداثيّ يتمايزون به عن سابقيهم في الهيئة والمسلك وإنْ تشابهت بعض الأدوار والخصائص. لم تَعُد دور العبادة وجهةَ الخشوع الجديد؛ فقد انصرف القوم إلى أروقة الفنون والثقافة والأكاديميا؛ حيث تتجرّد الأصنام الجديدة من هالات القداسة التقليدية ووعود الخلاص الأخروي لتشحن قومها برمزيّات مُلهِمة تنشد خلاصاً أرضيّاً وتمنح تأويلاتها المتجدِّدة للوجود والغيْب.

لا عجب أنْ صارت ماريان قدٍّيسةً في أمّتها نًصِبت تماثيلها المكلّلة بالقداسة الحداثية تعبيراً عن الحرية والعقل؛ وأنْ تجلّى التثليثُ الصريح في أيقونات حمراء لماركس وإنغلز ولينين رفعتها أنظمة اشتراكية عقوداً متواصلة قبل تَهاوي أنظمتها، فالفطام عن المألوف شديد بتعبير الغزالي. ولمّا تشبّعت الحداثة بمقولات تدور حول العقل؛ أورثت جماهيرها زهواً عقلانوياً بذاتٍ لا تُتَصَوّر في سرديّات كهذه إلاً “مُعقلَنة”. وتجلّى مأزق الحداثة مع مقولات رُفِعت بها إلى مراتب المقدّس وشحنت المخيال الحداثيّ بقطعياتٍ صارمة وحتمياتٍ وثوقية تتحصّن بها من مغبة الشكّ في ذاتها. جاء القطع – المتوهّم – مع الماضي المشبّع بالأساطير متواطئاً مع حاضر يستبطن أساطيره ويصدر عنها وقد تكون بعضها حصيلة إعادة إنتاج أساطير الماضي بلبوس حداثيّة. أسدى هذا المخيال، في خصوبته وسذاجته، خدمةً جليلة لصالح “ما بعد الحداثة” التي وُلِدَت من رحم الحداثة ذاتها، أو لعلّها “الحداثة السائلة” بعد سابقتها “الصلبة” بتعبير زيغمونت باومان.

قيم الحداثة وسطوتها

تشبّعت خطابات الحداثة بقيَم يتّخذها المخيالُ الحداثيُّ شعاراتٍ تفرض سطوتها على الوعي الجمعي؛ وإنْ مِن حيث لم تحتسب. أذْكَت هذا المخيالَ شعاراتٌ وثوقية ورموزٌ جماهيرية وأناشيدُ حماسية تحظى بالتبجيل في أنظمة تُعلِن ولاءها للحداثة، على نحو قد يُغَلِّب الزّهْوَ بها على تمحيص الالتزام السابغ وغير المشروط بمقتضاها؛ مع الذّات ومع غيرها.

تبدو مقولة “الحرية” كما تطوّرت في الوعي الجمعي الأمريكي مثالاً على ذلك، فقد نُحِتت لها التماثيل واستعملتها خطاباتٌ جماهيرية لاستثارة التّصفيق والزّهو بالذّات، مع الافتقار إلى مساءلة القيمة في تَنَزُّلها وتمحيص مدى اشتغالها في الواقع عموماً. أمدّت القيمةُ عينُها حملاتِ التوسّع الأمريكية بذخيرة دعائية، وهو منحى لا ينفكّ عن الطابع الاستعمالي للقِيَم العليا في حملات البشر عموماً وإمبراطوريّاتهم خصوصاً؛ في الماضي والحاضر.

أتاح المخيالُ الحداثيّ لجمهوره الداخليِّ فرصةَ تعريف الذّات وتصنيف “آخرين” استناداً إلى حدود الوَصل والفصل المتذرّعة بمقولات الحداثة ومزاعم أنظمة وبيئات وأوساط تُعلِن الولاء لها. فالقيَم النبيلة تتأهّل لأن تُوظّف في تمجيد الذّات وازدراء آخرين بدعوى أنهم لا يحوزون امتيازَها، حتى أنّ شعارات الحرية، كما حقوق الإنسان ونحوها؛ شحنَت جمهور الحداثة بتبريرات اغترفت من مخيال حداثيٍّ منحت أقواماً مراتب رمزية متعالية على غيرهم. وَهَبت السّرديات القيميّة الحداثيّة المتذرِّعين بها امتيازَ المُخلِّص من شرور العالم، بما أغرى خطابات الحرب والتوسّع والصِّراع الدوليّ بأن تنتحل شعاراتٍ تبريرية ملائمة لهذه الحقبة، لكنّ نزعتها الجامحة انزلقت أحياناً إلى تعبيراتِ “الحرب الصليبية بين الأخيار والأشرار” المستوحاة من العصر الوسيط؛ كما جاءت في عهدي دونالد ريغان وبوش الابن مثلاً.

لم تكبح شعاراتُ الثورة الفرنسية المجيدة و”قيم الجمهورية” البازغة استشراء الاستعمار الفرنسي الذي هوى بهذه الشعارات والقيم في واقع سلوكه مع الثقافات والشعوب والقبائل التي هيْمَن عليها. استُعمِلت هذه الشعارات البرّاقة والقيم السامية في فرنسا وأمم أوروبية أخرى لشحن الرُّوح الاستعمارية بمخيال التفوّق الحضاريِّ المتصوّر والوظيفة التاريخية المزعومة مع أُمَم قُدِّمت في هذه السّرديات بصفة متخلِّفة أو بدائية.

وقد جمحت الروايات الشعبية وأفلام السينما بمخيال حداثيّ مشبّع بأسطرة الدور الذاتيّ المتصوّر وجادت عليه بما يعزِّز إحساسه بمشروعية منطقه وسلامة وجهته. ولا يُفهَم المنحى بمعزل عن تصوير “الآخر” على نحو ذميم بما يمنح الذات تفوُّقاً قيمياً إزاءه. تُفهَم الإسلاموفوبيا المتفشّية في بعض جمهور الحداثة من هذه الزاوية أيضاً؛ أي بما تُضفيه تعبيراتُها الرائجة من امتياز أخلاقيٍّ للذّات الجمعية المحسوبة على نسَق معيّن، فنزعة كراهية المسلمين تعميماً وذمّ الإسلام بصفة جارفة في تحاملها؛ تتغلّف في حضورها الجديد بالقيم والثقافة والهوية والمكتسبات الحضارية.

يتجلّى المخيالُ الحداثيُّ في تصوّر “الآخر” بما لا يُطابق المُتصوّر أو بما لا يتماثل مع حقيقته، وهو تصوّر يخترع “الآخر” بالأحرى عبر حيلة تنميطه وقولبته وإسباغ أحكامٍ مُسبقة عليه، وهو ما يبدأ بافتراضِ أنه “الآخر” المنفصل عن الذات الجمعية. فالمخيالُ الحداثي الشائع يستبطن تصوّراتِه عن “الآخرين” أيضاً عبر رسم حدود صارمة للهُويّات ومحاولة تسييجها على نحو يتواطأ مع نزعة التعالي الذاتي من جانب؛ ويمارس الإقصاء والتحيّزات السلبية بحق فئات وأوساط ومكوِّنات وثقافات وأديان من جانب آخر.

ثمّ تصير ريادة التنوير والنهضة، أو كما تُتصوّر، مبرِّراً لمنح الذات رشْفةً قد تسوِّغ رِدّةً ظلامية أو انحساراً قيمياً. فباسم “أننا أنجزنا” تُمارَس تلاعباتٌ متذاكية بحقّ مَن يُحسَب أنهم متخلِّفون عن مثل هذا. يجري في هذا السياق إسقاط الوعي بالتاريخ الذاتيِّ قبل التنوير والنهضة على آخرين، فيُجترَأ على تعريفهم أو تأويلهم من منظور خبرةٍ ذاتية مُسقطة عليهم من خارج سياقهم، وهو ما يبدو جليّاً – مثلاً – في إسقاط التاريخ الأوروبي مع الدِّين والكنيسة على المُعايشة المتجددة مع المسلمين في ديار أوروبية وغربية.

استلهام مشفوع بالقهر

غنيّ عن القول أنّ المخيال الحداثيَّ ليس مخيالاً أحادياً، فنسخه تتعدّد وقد يتجلّى تذرُّع بعضها بالحداثة أكثر من بعض، لكنّ ذلك لا ينفي المخيال الحداثيّ في ملامحه العامّة وسماته المشتركة وإن افترقت نماذجه وصوره وتعبيراته. ولا يَحضُر المخيال الحداثيُّ مع جمهوره “الداخلي” وحسب؛ فهو يُستلهَم أو يُتقمّص أيضاً من خارجه، أي في بيئات وأوساط ونُخَب تَحمِل تصوّراتِه على تعدّد مواقفها منه أو انفعالها به، وتتجلّى شواهد هذا المخيال في خطابات رائجة خارج ما تُوصَف عادة بالبيئات الأوروبية الغربية.

وإن جاد المخيال الحداثيُّ على حامليه في وَعيِهم الجمعي برشفة التّعالي والازدراء بين الأمم؛ فإنّ استلهامه وتقمّصه في “أمم الجنوب” يخدمان إظهار التمايُز الطبقي والتفاوُت في المكانة علاوة على مفعوله في المحاكاة الساذجة. تتمسّك نُخَبٌ وأوساطٌ بشعارات ومظاهر اغتُرِفت من هذا المخيال لتعرِّف ذاتها مجتمعياً من خلالها. قد لا يتطلّب ذلك تصريحاً مباشراً بمنطوق القوْل؛ فصناعة الأزياء المقرّرة من مصمميها تمنح فرصة التعبير الإيحائي الفعّال عن ذلك مثلاً، علاوة على التزام بعض طقوس المسلك الاجتماعي في الحياة اليومية.

يبدو واضحاً كيف هيْمنت سطوة المخيالِ الحداثيِّ على أجيالٍ متعاقبة، وكيف استبدّت بوعي “روّاد” و”نخب” تحت وطأة الإحساس بالفجوة بين عالميْن أو طبقتيْن؛ فمضى بعضها بسذاجة إلى حدّ إدراج سِمات المَلْبَس ضمن مقتضيات الحداثة؛ فجُعل الزيُّ الأوروبيُّ من لوازمها ونُزعت العمائم والطرابيش لصالح القبّعات الأوروبية في محاكاة فجّة استخدمت أدواتٍ قهرية أحياناً، وهذا من وجوه اشتغال المخيال بالعلامات ومنحها رمزيّات متجاوزة للوظائف المجرّدة.

إنّ لجوء بعض المتذرِّعين بالحداثة إلى القهر السلطوي لفرض اختياراتهم على الجمهور أو حرمان بعض مكوِّنات الشعب من حقّ الاختيار الحرّ لأنواع مخصوصة من اللِّباس؛ جسّد مأزق المسلك “الحداثي” الذي يضرب قيمة الحرية كي يمكِّن لاختيارات في الهيئة يُفترض أنها معبِّرة عن الحرية. لم ينقطع هذا المسلك بأفول العهد الأتاتوركي وما لفّ لفّه؛ فقد عاد مُحمّلاً بذرائع جديدة في القرن الحادي والعشرين من خلال ثقافة الحظر المستشرية في بيئات أوروبية تتصدّرها فرنسا؛ عبر سلسلة قوانين مقيِّدة لأنواع معيّنة من اختيارت اللِّباس لدى المسلمات تحديداً، وهي تأتي جميعها متذرعة بقيم الجمهورية ومبادئ العلمانية وشعارات الحداثة.

سطوة التجسيد – المعمار مثلا

ممّا أذكي المخيالَ الحداثيّ أنّ خطابات الحداثة ذاتها تتجاوز التجريد إلى الإيحاء، وتتخطّى المُعطى الموضوعي إلى الإشعاع الرّمزي. عبّر المعمار بوضوح عن مساعي إنعاش المخيال الحداثيّ ومحاولات تجسيده بصفة محسوسة، كما اتّضح، مثلاً، في اتجاهات العُلُوّ المعماري الذي يوحي بهيمنة الإنسان ومركزيّته وقدراته المتجاوزة لما كان. ومن نزعة التقمُّص ما عبّرت عنه المحاكاةُ المعمارية على هذا المنوال باستدعاء مظاهر حداثية؛ كنايةً – بصفة مضللة أحياناً – عن التمكّن من العصرنة والحداثة والتقدّم. إن محاولة “توطين” معالم الحداثة الأكاديمية والثقافية والفنية والمتحفية ببذل أموال سخية لاستزراع فروع عنها في بلدان ترفض بشكل صارم الأخذ ببعض وجوه الحداثة -مثل إحجامها عن الديمقراطية وانتهاكها المتأصِّل لحرية التعبير وحقوق الإنسان- يُسفِر عن سطوة التقمّص المخياليّ خارج بيئات الحداثة؛ إلى درجه تُمعِن في التناقض والتلفيق.

لا يقتصر هذا المنحى المخياليُّ على معمار مانهاتن وأخواتها في الحواضر الأمريكية والغربية؛ فقد نزعت إليه أيضاً تجارب معمارية أخرى كما جسّدها العهدُ الستالينيّ وما شيّده من قصور للثقافة والعلوم توحي بالسطوة البنيوية، وهو ما حاولت الفاشية والنازية أن تفتعله بمزيد من الجموح دون أن يُسعفهما الزّمن وتطوّرات الحرب “الحداثية” في تجسيده شاخصاً للناظرين. كانت حقائق الصِّراع المُستَعِر في ظلال الحداثة وبأدواتها تُشَكِّل مشهداً رمادياً كئيباً من الأشلاء والأنقاض والوجوه الشاحبة.

استدعى المخيال الحداثي في المعمار إرثاً رومانياً متصرِّماً، وحاكى نظيره الديني الكاثوليكي، حتى أنّ مَن يُعاين نموذج “عاصمة العالم” المسمّاة “جرمانيا” التي سعى هتلر إلى تشييدها؛ قد يخامره الإحساس بأنّها معبد أرضيّ ضخم يعلو فيه الإنسانُ النموذج على منوال تصوّرات كالتي نادى بها نيتشه في مفهومه السوبرمانيّ (سوبرمينش)، وإنْ تطلّب المشهدُ تأكيد نزعاتٍ مركزية تدور حول الذّات وتمنحها التّعالي كما تحققه الأعمدة مثلاً.

إنّ رشفة المخيال التي يُذكيها المعمارُ الكاثوليكيُّ الأوروبيُّ تجسِّد شيئاً من هذا المنحى مع فارق مركزية الكهنوت الأرضي المتذرّع بشرعية ربّانية مزعومة. تخدم الاتجاهات المركزيةُ والأعمدة الضخمة غير المنقوشة التي تعلو الهامات والقامات في حاضرة الفاتيكان هذا المعنى بوضوح، مع نزوع إلى علوّ لا يتناسب مع الأبعاد الإنسانية، بينما يأتي التجسيد المعماري المنسوب إلى الحداثة ليشحن المخيالَ الحداثيَّ بمزيد من التعالي الذي يفترق في التأويل عن سابقه.

 

معضلات التصور والأحكام

يتجلّى في المخيال الحداثي اضطرابُ بعض الأطروحات الحداثية، فالمخيال يجمح بها إلى غلوّ ظاهر أو جموح مُستَتر. فمن المعضلات التي تلبّست بعض الخطابات الحداثية إغفالها ميزان القيم، باستدعاء قيمة مخصوصة أو قيم معيّنة بصفة انتقائية ومنحها الصدارة باستقلال عن ملابساتها ودون ضمان انضباطها بقيَم أخرى ذات صِلة بالسِّياقات الموضوعية؛ بما قد يُفضي إلى اضطراب التصوّرات وجنوح الأحكام وجموح الممارسات. انعكس هذا الاضطراب بصفة جسيمة على المخيال الحداثيِّ بما أغوى باستسهال إطلاق أحكام جائرة وتسويغ ممارسات مارقة مع تغليفها قيميّاً ومبدئيّاً؛ وهو ما يتفاعل في مستويات الفرد والمجتمع والدولة.

يُعلي المخيالُ الحداثيُّ من مرجعية مقولات “تأسيسية” ومواثيق “مرجعية” وموادّ دستورية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكنّه يميل إلى التغافل عن جملة القيود التي تلحق بها في مواثيق وتشريعات تفصيلية بما يحدّ من مفعولها في واقع الامتثال ويكبح تنزيلها إلى حيِّز الممارسة. فالمخيال الحداثيّ إذ يغترف من شعاراته المُفضّلة يتجاوز حقيقةَ أنّ المبادئ لا تعمل في الواقع بإطلاق، وأنها تخضع بالأحرى لقيود وضوابط قد يمنح بعضُها امتيازاً استعمالياً يقوِّض اشتغال الشِّعار في بعض نطاقات الواقع لأسباب تمليها المصالح والتواطؤات والتقديرات المتعلقة بحدود الممكن.

ومن الأدوار الوظيفية التي يُتيحها المخيالُ قابليّته للاستنفار ضد وجهات محدّدة إنْ انعقدت ذرائعُ تأويليّةٌ له. جرى شيء من هذا في مواقف أوروبية سائدة من حركات التحرّر في القرنين التاسع عشر والعشرين. لم تبتعد عن هذا المنحى الدعاية الإنجليزية التي عرضت الثورة المهدية في السودان مثلاً، والدعاية الفرنسية التي حملت على الشعب الجزائري وثوْرته ضد الاحتلال الاستيطاني لبلاده. استهلمت أممُ الحداثة الكولونيالية خطاب “البرابرة” المستوحى من الإغريق والرومان واستحضرته في ثوب جديد أُخضِع من بعد لمزيد من الترقيع ليلائم الألفية الثالثة.

قد يكشف تمحيصُ الخطابات الرائجة والمضامين الثقافية عن عمليات إعادة إنتاج جرت في بيئات تعلن ولاءها للحداثة لقوالب نمطية وأحكام مسبقة يعود بعضها إلى ما قبل الحداثة، وبعضها يُغترَف من المخيال الجمعي أو يلامسه ويدغدغه ويتملّقه ويؤجِّجه سعياً إلى الرّواج الجماهيري وإيقاع تأثيرات ناجزة في مجالات شتى ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية.

لم ينفكّ المخيال الحداثيّ عن سابقه، وأعاد -باسم الحداثة- إنتاج تصوّرات اختمرت في أعماق الوعي الجمعيِّ لأممه. لم يقطع المخيال الحداثي الأوروبي – مثلاً – مع تحيّزات متحاملة طبعت تصوّره للإسلام والمسلمين زمن ما عُدّت “أوروبا المسيحية”، حتى يخال الناظر إلى بعض القيادات الجماهيرية المحسوبة على زمن الحداثة – وما بعدها – أنها نسخ معصرنة من البابا أوربان الثاني مثلاً، وأنّ بعض متحدِّثي الشاشات والشبكات المتذرِّعين بالحداثة، تصريحاً أو تلميحاً؛ هم أطوار مستجدّة من وعّاظ الكراهية والتحريض في أزمات مضت.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى