بقلم د. سلطان العميري
تبلغ بعض الأفكار الاجتهادية في درجة الاقتناع بها إلى أن تكون لها سطوة كبيرة وتأثيرا بالغا على ذهنية المتبني لها , وقد تصل هذه السطوة في بعض المظاهر إلى أن تكون هي المسيطرة على تفكير المرء والمتحكمة في توجهه ومنتجه العلمي , بينما يخيل إليه أنه هو الذي يتحكم فيها أو هو الذي يسيرها !
وترجع هذه السطوة إلى أسباب عديدة , فهي إما أن تكون راجعة إلى جمال الفكرة وحسنها , وإما أن تكون راجعة إلى كونها تلبي حاجة اجتماعية أو علمية ملحة, وإما أن تكون راجعة إلى طبيعة العقل المتبني لها , وإما أن تكون راجعة إلى طبيعة التحولات الفكرية التي تعيشها الساحة , فكثير من الأفكار تجد لها رواجا في زمن التحولات والموضات .
فهذه الأحوال تفتح الباب على مصراعيه للإعجاب ببعض الأفكار , وتجعل لها سطوة على ذهنية الشخص , وتصيرها المتحكمة في توجهه الفكري وطرحه العلمي , وتجعله خاضعا لها ومبليا لمتطلباتها وسائرا في مسارها من حيث لا يشعر .
فبعض الأشخاص تسيطر عليه فكرة التجديد والإضافة فتجده يميل إلى كل ما يفوح منه ذلك المعنى , ولا يتوجه مؤشر علقه إلا إليه , ويتبنى أقوالا عديدة بحجة أنه منطلق من الدليل وهو في الحقيقة واقع تحت سطوة فكرة التجديد , وربما يغفل اعتبار معاني أخرى مما له تأثير في بناء الفكرة وتصحيحها , وربما يتكلف في تبرير رأي معين لأجل أنه واقف سير الفكرة التي سيطرت على عقله , وهو لا يشعر بذلك .
وبعض الأشخاص تسيطر عليه فكرة الإبقاء على الأصل والمحافظة على المعهود , فتجده يميل إلى كل ما يوافق هذه الحالة , ويتبنى أقوالا عديدة بحجة أنه منطلق من الدليل وهو في حقيقة الأمر واقع تحت سطوة فكرة الإبقاء على الأصل , ويظل يتشكك في كل فكرة فيها خروج عن المعهود وانفصال عن المشهور بحجة الاحتياط والتدقيق , وهو لا يشعر أنه واقع تحت سطوة الأفكار , وربما يتكلف في تبرير رأي معين لأجل أنه وافق سير الفكرة التي سيطرت عليه وهو لا يشعر بذلك .
وتجد بعض الأشخاص الذين أعجبوا بعالم أو مفكر يميلون إلى التسليم بأقواله والسير مع نَفَسه الفكري بحجة أنه قدم من الأدلة ما أقنعهم , ولو راجعوا أنفسهم بصدق لربما أدركوا أنهم واقعون تحت سطوة الأفكار وهم لم يشعروا بذلك .
وفي المقابل تجد من أبغض شخصا أو انصرف قبله عنه يرد كل ما يصدر عنه ويقلل من أهمية ما يقرره , بحجة أنه لم يقدم من المبررات ما يقنعه بذلك , ولو راجع نفسه بصدق لربما أدرك أنه واقع تحت سطوة الأفكار وهو لم يشعر بذلك .
ويتظاهر الإنسان في مواقف كثيرة بأنه لم يقتنع بالقول ولم يدعو إليه إلا بعد أن قتله بحثا وتفكيرا وتحليلا , وأنه استطاع بذلك أن يتجرد للفكرة نفسها , ولم يقع تحت تأثيرها , ولم يقصر في تحريرها , ولو حاول أن يجلس مع نفسه ويحاصرها بالأسئلة الجريئة والصادقة لربما توصل إلى أنه هو الذي وقع في شبكة سيطرة الأفكار , وأن الفكرة التي شعر بأنه المتحكم فيها هي التي تحكمت فيه سير ذهنه وطبيعة النتيجة التي توصل إليها .
وهذه السطوة ليست من الأمور المتخيلة وإثبات تأثيرها بتلك الصورة ليس من المبالغة , فكم مرت بالإنسان من نماذج تكشفت فيها سطوة الأفكار على عقول كبيرة بشكل ظاهر , فكم خاض الإنسان من حوارات وكم قرأ من مقالات يظهر فيها المحاور والكاتب أنه اعتنق فكرته بناء على الدليل المقنع وأنه هو الذي يسيرها كيف يشاء , ولكن يتبدى للمراقب الحصيف أنه قابع تحت سطوة الفكرة وخاضع لنشوتها ومستسلم لرونقها وهو لا يشعر .
وهذه السطوة من المداخل النفسية الخفية التي تحتاج من الشخص المخلص مع ربه والصادق مع نفسه والجاد في فكره وعمله أن يراجع نفسه في كل لحظة وفي كل حال , حتى يتحقق من عقله هل دخل تحت هذه السطوة التي تفقد الإنسان الاستقلال والتجرد للحق وهل أصيب بالدخول تحت تأثيرها , أم أنه سلم من ذلك كله ؟!!
وقد تفطن الشيخ عبدالرحمن المعلمي لمعنى سطوة الأفكار وأدرك تأثيرها على مسيرة الفكر وعلى عقلية الشخص , فقال في مقولة معبرة :” مسالك الهوى أكثر من أن تحصى و قد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي فيلوح لي فيها معنى ، فأقرره تقريراً يعجبني ، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى ، فأجدني أتبرم بذاك الخادش و تنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه و غض النظر عن مناقشة ذاك الجواب ، و إنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته ، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس ، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش ؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش و لكن رجلاً آخر أعترض علي به ؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه” ( التنكيل 2/212) .
إن كل من يتهم بعلم الأمة وفكرها عليه أن يسأل نفسه ويحاصرها بالأسئلة الصريحة والجريئة التي تكشف له عن مدى دخوله تحت سطوة الفكرة واستجابته لتأثيراتها , هذا ما يستوجبه كمال الإخلاص والتجرد وصدق التعلق بالله تعالى وصرامة المنهج وصلابته .
من الصفحة الشخصية (فيسبوك) للدكتور سلطان العميري.