سربرنيتسا .. قصة إبادة وتعايش مزيف
إعداد محمد سرحان
بلدة خضراء تزينها أشجار عالية، لكن أشجارها يكسوها الحزن فجذوعها تشربت بدماء الأبرياء، وأوراقها شاحبة كوجوه النساء والفتيات ضحايا الاغتصاب، وأرضها الخضراء مثقلة برفات الآلاف وحقد أسود كان يسكن هاهنا، إنها “سربرنيتسا” تلك البلدة الواقعة شرقي البوسنة التي قتل فيها 8372 مسلماً خلال ثلاثة أيام فقط في عام 1995م في واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ أوروبا الحديث، وفي 11 يوليو من كل عام تتشح بالسواد إذ يتم تشييع رفات الضحايا الذين يجري التعرف على هويتهم.
جرح متجدد
هي قصة خذلان وجرح يتجدد في الـ11 من يوليو من كل عام، إذ يتم جلب الرفات التي جرى التعرف على أصحابها من ضحايا “سربرنيتسا”، إلى مقبرة “بوتوكاري”، وهذا العام تستعد البوسنة لتشييع رفات 35 شخصاً هم من تم تحديد هويتهم، في 11 يوليو الجاري في الذكرى الـ23 للمجزرة، ليكون إجمالي من تم التعرف عليهم ودفنهم حتى هذا العام 6610 من إجمالي 8372 هم ضحايا سربرنيتسا وحدها، كأحد فصول حرب البوسنة 1992- 1995م.
ما الذي حدث؟
في شهادتها حول سربرنيتسا خديجة محمدوفيتش، إحدى الناجيات فقدت زوجها وطفليها تقول: “مع ازدياد التوتر الحاصل بعد إعلان استقلال البوسنة، كان الصرب يغادرون سربرنيتسا، وأطفالنا وحدهم من كانوا يذهبون إلى المدارس، بينما امتنع أطفال الصرب عن الذهاب، وفي الوقت الذي كان الصرب على علم بكل ما يجري، كان المسلمون في غياب تام عن الواقع، إذ فوجئنا بتوغل الصرب في المدن البوسنية في الشرق ومارسوا التطهير العرقي ضد المسلمين، بل إن الصرب الذين كانوا يعيشون في ذات الشوارع والبنايات مع البشناق مارسوا دوراً مشبوهاً في الوشاية بجيرانهم واغتصاب نسائهم، وكأنه كان تعايشاً مثقلاً بالعنصرية!
مع تقدم الصرب، تدفقت أعداد اللاجئين البُشناق من المدن التي سيطر عليها الصرب إلى سربرنيتسا، وهنا تضاعفت الأعداد فيها من 7 أو 10 آلاف إلى حوالي 40 ألف شخص، محاصرين بلا أي مقومات للحياة أو دواء، حتى إن مصاباً كانت حالته تتطلب بتر ساقه وفي ظل غياب أي أدوات طبية اضطروا لبتر ساقه بالمنشار وهو مستيقظ.
منطقة آمنة منزوعة السلاح
في ظل تفاقم المأساة وافقت الأمم المتحدة في أبريل 1993م، على قرار رقم (819) الذي تم بموجبه إعلان “سربرنيتسا” منطقة آمنة منزوعة السلاح تحرسها قوات حفظ السلام، ووُعد السكان بالحماية بالفعل، على أن تتخلى القوات الحكومية البوسنية عن أسلحتها.
“بعد انصياع الحكومة البوسنية لقرار الأمم المتحدة بتسليم السلاح، فوجئنا أن مناطقنا فقط نحن المسلمين أصبحت منزوعة السلاح، بينما يحتفظ الصرب بكل أنواع الأسلحة، انتزعوا أسلحتنا مقابل حماية الأبرياء، في الوقت الذي كان الصرب يحاصرون سربرنيتسا وقواتهم تطوقنا من كل جانب”.. كانت هذه شهادة أحمد أوستيتشك، أحد جنود الجيش البوسني، تكشف ازدواجية الأمم المتحدة وقواتها.
وبينما كان علم الأمم المتحدة يرفرف فوق اللاجئين المحاصرين، كانت قذائف الصرب تصطادهم من وقت لآخر رغم خضوعهم لحماية الأمم المتحدة، فضلاً عن الحصار القاتل إذ كان الصرب يصادرون أغلب المساعدات الغذائية القادمة إلى سربرنيتسا.
حماية أم تواطؤ؟
في أوائل يوليو 1995م تجددت المواجهات وهنا أحضر الصرب أسلحة ثقيلة من صربيا واتجهت ناحية سربرنيتسا تقصفها، ويروي أحمد أوستيتشك في شهادته: “في منتصف الليل أعلن عبر المذياع أن قصفاً سيقوم به حلف “الناتو” على ضواحي سربرنيتسا وسيبقى وسط المدينة فقط هو المنطقة الآمنة، هنا انسحب جنود الجيش البوسني إلى وسط المدينة لكن للأسف كانت خديعة كبرى، فلم يحدث قصفاً من قبل “الناتو”، وكانت المفاجأة أن الصرب هم من تحركوا تجاه سربرنيتسا وبدؤوا هجومهم عليها”، نحن أمام مؤامرة إذاً!
هنا انقسم المحاصرون بالمدينة إلى فريقين أحدهما تسلل إلى الغابات في محاولة للوصول إلى أقرب مدينة يسيطر عليها الجيش البوسني – تبعد 50 كيلومتراً- إلا أن الصرب أعدوا لهم كمائن بالطريق وقتلوا معظمهم ودفنوهم في حفر، بينما الفريق الآخر والنساء والأطفال قصدوا قاعدة الأمم المتحدة في (“بوتوتشاري” أو بوتوكاري) على بعد 5 كيلومترات من سربرنيتسا، مشياً على الأقدام، بعض التقارير تذكر أن نحو 20 ألفاً من الأهالي والجنود قصدوا قاعدة الأمم المتحدة، وحوالي 15 ألفاً فضلوا التسلل في الغابات أملا في الوصول إلى الجيش البوسني.
في انتظار الإبادة
نحن الآن على أبواب “بوتوكاري”، غموض وارتباك، ثمة أشياء تتم في الخفاء.. هنا في بوتوكاري، كانت الوحدة الهولندية العاملة آنذاك ضمن القوات الأممية، يروي أحد الناجين أن الجنود الصرب ارتدوا الخوذات الزرقاء الخاصة بجنود الأمم المتحدة، وفي اليوم السابق على المذبحة، دخل الجنرال راتكو ملاديتش، قائد قوات صرب البوسنة، إلى مكتب قائد الوحدة الهولندية.. نحن الآن في انتظار صفقة مشبوهة.
في اليوم التالي 11 يوليو 1995م، وأمام الكاميرات، خرج ملاديتش ينادي في اللاجئين: “اطمئنوا، لن يمسكم أحد بأذى، يمسح على رؤوس الأطفال ويوزع الحلوى والخبز عليهم”.. هنا صاح الناس فرحين: “شكراً لكم”، وهم لا يدرون أن مصيراً مرّاً ينتظرهم.
بعد ذهاب الكاميرات فصل الجنود الصرب الذكور من سن 14 عاماً فما فوق واقتادوهم، وسمحوا للنساء بالخروج، وهنا لم يُسمع سوى صوت الرصاص ونباح الكلاب فقد قتلوا الذكور جميعاً ودفنوهم بمقابر جماعية.
في شهادته أمام محكمة “لاهاي” الضابط في الجيش الصربي مومير نيكوليتش قال: سألت الجنرال ملاديتش: “ماذا علينا أن نفعل بكل هؤلاء الرجال؟ فأشار إليَّ بطريقة فهمت منها أنهم سيُقتلون جميعاً”.
نبش المقابر
في تقريرها عن مذبحة يربرنيتسا، قالت “المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا سابقاً”: “في شهري سبتمبر وأكتوبر 1995م قام الصرب بنبش 8 مقابر جماعية من جمالي حوالي 21 مقبرة، ونقلوا جثث هذه المقابر الثمانية وأعادوا دفنها في أماكن أخرى، دمروا المقابر لتضييع الأدلة”.
لم أنجبه هكذا!
العديد من الرفات التي جرى اكتشافها أغلبها لم تكن لجثامين كاملة فكثيرا منها عثر على بعض عظامها فقط، الأمر الذي دفع بعض عائلات الضحايا إلى رفض دفن هذه الرفات الناقصة لذويهم ببساطة كانت الأمهات تقول: “لن أدفنه أنا لم أنجبه هكذا”.
دماء موزعة
سربرنيتسا لم تكن وحدها مسرح القتل، فهناك مدن أخرى أعملت فيها إبادة المسلمين، مثل العاصمة “سراييفو” حاصرها الصرب ثلاث سنوات ونصف سنة وقتلوا نحو 10 آلاف شخص، كما قتل قرابة 30 ألفاً في المخيمات، وفي “زفورنيك” في الشرق من أوائل المناطق التي شهدت مجازر، في أبريل 1992م قتل فيها ما يزيد على 3 آلاف، و”بيالينا” قتل فيها نحو 500 شخص، و”فيشيجراد” قتل نحو 1700 بوسني، ولا تزال أعداد لا يستهان بها من جثامين ضحايا حرب البوسنة في عداد المفقودين، لكن سربرنيتسا حظيت باهتمام إعلامي أوسع لا سيما مع الموقف المتواطئ من قبل القوات الأممية، يكفي أن نذكر بأن قوات الأمم المتحدة كانت تشترط على المسلمين تسليم أسلحتهم.
بداية القصة
كانت البوسنة والهرسك إحدى الجمهوريات الست المكونة ليوغسلافيا الاتحادية (صربيا، البوسنة، الجبل الأسود، مقدونيا، سلوفينيا، كرواتيا)، ويتألف سكانها من ثلاث قوميات، هي: البُشناق، والصرب، والكروات، وكلها ترجع إلى العرق السلافي القديم، وهو عرق أوروبي هاجر من مناطق شمال البحر الأسود، واستوطنوا الجنوب وعرفوا بـ”السلاف الجنوبيين”، وهو معنى كلمة “يوغسلافيا”، فكلمة “يوغ” في اللغة البوسنية تعني الجنوب، تجمع بينهم لغة واحدة هي اللغة السلافية “الأم” انحدرت منها لهجات لكن بمقدور كل منهم فهم الآخر.
في عام 1990م أنشأ علي عزت بيجوفيتش مع آخرين حزب “العمل الديمقراطي” الذي فاز بأول انتخابات برلمانية وانتخب بيجوفيتش رئيساً للبوسنة في أواخر 1990م، وفي 29 فبراير والأول من مارس 1992م أجري استفتاء شعبي في البوسنة على الاستقلال عن يوغسلافيا، صوّت غالبية المشاركين فيه لصالح خيار الاستقلال، وفي 6 أبريل اعترف الاتحاد الأوروبي بدولة البوسنة، والولايات المتحدة لحقته بعد يوم بذات الاعتراف، كما تم رفع علم البوسنة أمام مقر الأمم المتحدة في شهر مايو 1992م، لكن هذه النتيجة لم يقبل بها صرب البوسنة أو نظراؤهم ممن تبقوا في يوغسلافيا، فشنوا حرب إبادة ضد المسلمين.
دماء تائهة
قاد هذه الحرب الجنرال العسكري راتكو ملاديتش، وزعيم صرب البوسنة آنذاك رادوفان كراديتش، وراح ضحيتها عشرات الآلاف في ظل غياب إحصاءات دقيقة، وإن كانت تقارير دولية تتحدث عن مائة ألف، وأخرى تحدثت عن 250 ألفاً، إلى جانب اغتصاب أكثر من 50 ألف امرأة وفتاة من مسلمات البوسنة، وأجبر نحو مليونين على ترك منازلهم.
في أواخر نوفمبر 2017م، انتحر القائد العسكري السابق لكروات البوسنة سولوبودان برالياك بتجرعه السم أمام المحكمة الجنائية الدولية بعد رفض قضاتها طعناً قدمه في الحكم بسجنه 20 عاماً عن جرائم الحرب ضد مسلمي البوسنة، فالكروات كانوا حاضرين بمسرح الجريمة أيضاً، إذ يرون أن البشناق المسلمين هم في الأساس كروات وأسلموا، كما فتح الكروات جبهة جديدة ضد المسلمين، رغم أنهم بداية الحرب كانوا مع الجيش البوسني، ثم توحدوا مرة أخرى في مواجهة الصرب.
كان قد سبقه بأيام في ذات الشهر نوفمبر 2017م، إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي حكماً بالسجن المؤبد على القائد العسكري لصرب البوسنة راتكو ملاديتش بعد إدانته بعشر اتهامات بارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب وضد الإنسانية، أما زعيم صرب البوسنة رادوفان كاراديتش فقد صدر ضده حكم بالسجن 40 سنة، كما أن كثيرين من الجناة لم يخضعوا للعدالة.
اتفاقية دايتون
في 14 ديسمبر 1995م وقع كل من علي عزت بيجوفيتش، رئيس البوسنة والهرسك آنذاك، والرئيس اليوغسلافي الصربي سلوبودان ميلوزيفيتش، والرئيس الكرواتي فرانكو توجمان اتفاقاً في قاعدة دايتون الأمريكية، وهو الاتفاق الذي وإن كان قد أنهى الحرب إلا أنه قسم البوسنة إلى قسمين، هما: فدرالية البوسنة والهرسك وتضم المسلمين البشناق وكروات البوسنة، وهي على مساحة 51% من الأرض، وجمهورية صرب البوسنة “صربسكا” على مساحة 49% من الأرض.
وبموجب اتفاقية دايتون، يحكم جمهورية البوسنة والهرسك مجلس رئاسي من 3 أشخاص؛ ممثل للمسلمين وممثل الكروات وممثل لصرب البوسنة، والقرارات الخارجية تتم بالتوافق.
والبوسنة تقع في الشمال الغربي من شبه جزيرة البلقان، مساحتها حوالي 51 ألف كم، وعدد سكانها نحو 4 ملايين، يمثل المسلمون البوشناق تقريباً 51% من السكان، يليهم الصرب 30%، ثم الكروات 15%، بالإضافة إلى قوميات صغيرة.
حقوق على قائمة الانتظار
إن كانت الحياة عادت إلى طبيعتها في البوسنة، وسربرنيتسا، إلا أن كثيراً من السكان الذين تم تهجيرهم لم يعودوا إلى بلداتهم مرة أخرى، كما أن حقوق الضحايا وعائلاتهم لا تزال في طابور الانتظار، يكفي أن نذكر هنا كلمة إحدى ضحايا الاغتصاب في سربرنيتسا قالت: “انتهت الحرب، لكنها بالنسبة لنا نحن الضحايا لا تزال مستمرة”.
(المصدر: مجلة المجتمع)