مقالاتمقالات مختارة

سجن الدولة.. ودولة السجن!

بقلم محمد إلهامي

 

سجن الدولة.. ودولة السجن!

من الأمور المعروفة والتي لا تحتاج حتى نقاشا في وسط باحثي العلوم السياسية أن نظام الدولة هو هو نفسه نظام السجن.. (بغض النظر الآن عن موقفهم منها، فالأغلب يقبلون به باعتباره “النظام” الذي بدونه تكون فوضى، وبعضهم يعترض عليه).

ولذلك تقاس كفاءة نظام الدولة بقدر قدرته على التحكم والسيطرة في كل التفاصيل التي تجري داخل حدود الدولة، يساوي تماما تماما، كما تقاس قدرة وكفاءة نظام السجن على معرفته وتحكمه في كل تفاصيل الوضع داخل حدود الأسوار.

لا بد للدولة من معرفتها التعداد الدقيق للمواطنين (أو المساجين، لا فرق) ومتابعة أنشطتهم الاقتصادية وإدارة نظام حياتهم وفق المنظومة الإدارية التي تسجل كل التفاصيل: الولادة والتطعيمات الصحية ودخول المدارس والدرجات العلمية والشهادات الدراسية والمهنة وحتى الموت.. سلسلة من التصاريح والأختام يبدأ بتصريح إجراء عملية الولادة في المستشفى وينتهي بتصريح الدفن!

الفارق بين الأنظمة السياسية في الحرية كالفارق بين أنظمة السجون في معاملة المساجين.. فهناك من السجون ما تتسع فيه ساعات التريض، ويسمح فيه بالتلفاز والألعاب الرياضية والاجتماع بين المساجين ودخول الكتب… إلخ، وهناك من السجون ما أقصى أمل المسجون فيه أن يتنفس الهواء نصف ساعة أو يرى الشمس أو يشرب ماءا غير ملوث أو يحصل على علاجه الضروري.

(لمرة أخرى، وللتنبيه: هذا الآن مجرد وصف للواقع.. بغض النظر عن الموقف من قبوله أو رفضه)

إذا وُلِد الإنسان في السجن، وورث عن أبويه طبيعة الحياة في السجن، الطعام والشراب والثياب ووقت التريض والتعامل مع الحراس… إلخ! فمثل هذا سيكون تصور الحياة في نفسه هو تصور السجن.. فإذا قيل له خارج هذا السجن حياة بلا أسوار ولا رقابة دائمة ولا سجانين ولا نظام موحد للطعام والشراب.. إذا قيل له هذا فإنه ينزعج من مجرد تصور الفوضى التي يحيا فيها الهمج والرعاع خارج السجن.. ويعسر عليه قبول حياة بلا نظام ولا ترتيب ولا رقابة دائمة!

هذا ببساطة واقعنا نحن خارج السجن.. داخل الدولة!

من نشأ في ظل الدولة الحديثة يرى أنها وسيلة التحضر والتقدم والرقي والنظام، وأن الدولة ونظامها هي روح الحياة وصلبها، وأن الحياة بغير دولة تتحكم في التفاصيل هي حياة همجية متخلفة تسودها المعارك الدائمة الهمجية القبلية المتوحشة!

فإذا تفاجأ بأن عمر هذه الدولة الحديثة في عالمنا الإسلامي لا يتجاوز مائتي عام في أقدم بلادها دخولا في نمط الحداثة، وأن عمرها في كل الدنيا لا يتجاوز خمسة قرون على أقصى تقدير، وأن العالم كله عاش وأنتج حضاراته وعلومه وتراثه الثقافي وأن كل ما تفخر به أمة من الأمم من تاريخها إنما كان في ظل دولة لا تتحكم في حياة الناس وتفاصيلها.. إذا تفاجأ بهذا كان كالسجين الذي ظن السجن من ثوابت الكون وطبائع الحياة!!

وعلى كل حال..

من الممكن فهم وقبول أن يكون هذا هو موقف السجين في السجن النظيف المتمتع بمعايير حقوق الإنسان، الذي يسع الإنسان فيه أن يشاهد التلفاز ويلعب الرياضة ويطالع الانترنت ويمارس القراءة والكتابة.. فمثل هذا السجين يتمتع بحياة نموذجية تماما طالما أنه فقد الشعور بالحرية!

أما أن يتخذ نفسُ الموقف سجين لا يجد في سجنه لا طعاما صالحا ولا هواء نقيا ولا علاجا ضروريا ولا معاملة جيدة.. فهذا كيف يُفهم موقفه؟!

أنا أخبرك كيف يُفهم موقفه..

هذا سجين عملت على عقله وسائل الإعلام وخدمة السلطان من المفكرين والمثقفين والفنانين وغيرهم بكل سبيل لكي تزرع في قلبه وعقله أن هذا هو النظام، وهذه هي الدولة، والأمل في تحسن الأحوال سيكون قريبا، ويجب أن نتحمل، وهؤلاء الذين يقاومون إنما يريدون هدم أسوار السجن (هدم الدولة! تخيل!)، وكيف أنها كارثة ضخمة مريعة مُرَوِّعة لو هُدِمت أسوار السجن (الدولة) وأصبحنا في الفراغ (الفوضى)!

فإن لم يقتنع بطول تكرار الأفكار، فلا بأس بالمخدرات: كرة قدم هنا، وفضائح فنانين هناك، ومسلسلات وأفلام وبرامج فكاهية ومقالب… إلخ!

فإن نجا من هذا وهذا فالجنود المسلحون يقومون بالواجب.. أولئك الذين تتضخم أجسادهم بالمال الحرام (مال المساجين المنهوب منهم حفظا لأسوار السجن) كما تتضخم أسلحتهم وأنظمتهم الرقابية!

هل تحسب أن هذا الكلام من المبالغات؟!

لا بأس.. إن لم يكن الواقع قد أقنعك بشيء، فيقينا هذه الكلمات لن تؤثر فيك بحال..

لكن عليك أن تجيب عن سؤال واحد: ما الفارق بين علاقة السيسي بالشعب وبين علاقة رئيس السجن بالمساجين؟!

(المصدر: جريدة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى