سجايا العلماء
بقلم د. صفية الودغيري
لا تعوِّل في الاحتجاج والاستدلال إلا على الآثار والأعمال، فهي التي تشرح الحقائق وتترجم عن السَّجايا والخَوالِب، من غيركذب ولا محاباة، وبلا مصانعة ولا مُداجاة.
خُذْ بيد عقلك هذا الميزان، وطُفْ به جميع عالم الإنسان، يظهرك على ما في الضّمائر، ويطلعك على مُخَبّآت السّرائر، ويبيِّن لك الرّاجِح من المَرْجوح، والعادل من المَجْروح، بشرط أن تُقيم الوزن بالقسط، ولا تُخْسر الميزان، ولا تطغى فيه، كما أشار إلى ذلك الفرقان الحكيم.
إذا التزمت الشّرط فلا ريب أنّك لا تُقيم وزنًا لكثيرٍ ممّن يزعم الدّهْماء أنّهم يُوازِنون الجبال، ويرجِّحون في الفضل والكمال، وربّما رجَّح في قسطاسك المستقيم من ينقصه وزنه أكثر الأقران والأقتال . – (القِتْلُ : المِثْلُ والنَّظيرُ)_
قلنا: لا يُعَوَّل في الاستدلال على حال الإنسان إلا على أعماله؛ لأنّ الأعمال
تنشأ عن الأخلاق والمَلَكات الاعتقادِيّة والأدبِيّة، ولا أخالُكَ تذهل عن كون الكلام من جملة الأعمال اللِّسانِيّة، ودلالته مقبولة فيما نحن بصدده، من حيث كونه مظهرًا لمعلومات المتكلِّم، ومَجْلى لأخلاقة وآدابه، لا من حيث مدلول الألفاظ في المدح والذَّم، فإنّ هذا هو الذي لا يُعَوَّل عليه، إلا بعد تطبيقه على ما في الخارج وشهادة الأعمال والآثار له.
من علامات علماء السوء الذين يُفْسِدون آداب العامّة وأخلاقهم، ويزعزعون اعتقادتهم وأديانهم، الانتصار لأنفسهم الخبيثة وحظوظهم وأهوائهم الباطلة، بعنوان الانتصار للدّين والغيرة على الحق، فيذمّون من يحسدون، وينالون من دينه وعرضه قولاً أو كتابة، بحيث يوهِم أحدهم سامعَه، أو النّاظِر في كتابته أنّه ينتصر.
للدّين، ويبيِّن الحقّ من الباطل…وينقسم هؤلاء إلى أقسام:
* منهم من لا يذمُّ إلا ما يراه
باطلاً، ومن يعتقد صُدورَ الباطل منه، ومن أدِلّة كذبِه في دَعْواه إذا لم يذم إلا الباطل، حقيقة كونه يأتي بهذه المذمَّة غيبة، ولا ينصح من جاء بالباطل بينه وبينه، وكونه يحبُّ أن تشيع الفاحشة وينتشر الباطل، حيث لم يَسْعَ بمنعه من قِبَل من جاء به، وكونه يمدح صاحب الباطل في وجهه، ويعظِّمه بدلاً من نصيحَتِه وتَقْريعِه، وكونه ينكر ما نسَب له أمام مَذْمومِه أو بعض ذويه، سِيما إذا كان المَذْموم ذا مكانة عالية ومنزلة.
سامية، وكونه يدفن الحسنات ويعلن السَّيّئات، إلى غير ذلك مما لا يخفى على ذوي البصائر، ومنهم من يُريه حسَدُه وهواه الحقَّ باطلاً، والصَّحيح فاسدًا، ويكفيك عمى بصيرته دليلاً على كذبِه في دَعْواه الانتصار للحقّ أو الغيرة على الدّين.
* ومنهم الذين يقولون كذِبًا ويخلقون إِفْكًا، لا يكتفون بإخفاء المحاسن والمَناقِب، وإِبْداء المَساوِئ والمَثالِب، بل يَتزَقَّحون – زَقَحَ القِرْدُ زَقْحاً: صوّت – ويتجَرّمون، ويقولون على الله الكذِب وهم يعلمون (أنّه كذِب): {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19).
ومن علاماتهم أنّهم لا يكادون يعترفون بخطأ، بل يُؤَوّلون لأنفسهم
ولمن يُوافِق قولُه أهواءَهُم، ولو بتحريفِ الكَلٍم عن مواضٍعِه والخروج باللُّغة عن أساليبها، كما يفعلون للغَميزَة والإِزْراء بمن يحسدونه، ومن لا يُطابِق قولُه أغراضَهُم وأهواءَهُم..
من علامات علماء الآخرة وأنصار الحقّ الذين يُهْتدى بهَدْيهِم، وتَصْلُح أحوال
الأمم بالاقتداء بعملهم، أنّهم إذا رأوا معروفًا وخيرًا من أحد إخوانهم يُذيعونَه، ويُنَوِّهون به، ويُثْنون على صاحِبِه بما هو أهلُه، وإذا رأوا سوءًا وأمرًا منكرًا يَسْترونَه وينصحون فاعِلًه، من غير أن يُشْعِروا أحدًا آخر به، فإن أصرَّ على منكَرِه عامِدًا متعمِّدًا، وكان المنكر ممّا يتعَدّى ضرَرُه، حذَّروا منه من يُخْشى عليه منه، سواء كان في غَيْبةِ صاحب المنكر أم في مَشْهدِه، ومن علاماتهم أنّهم يقبلون النّصيحة من أيّ ناصِح، ويُقابِلون عليها بالثّناء والشُّكر، ويرجعون عن الخطأ متى عَلِموا به، ضالَّتهم الحكمة يَنْشدونها حيث وَجَدوا، ويأخذونها حيث وُجِدَت .
كلُّ من نظر في كلامنا هذا يعلم بما أعطيناه من الفرقان أنّ علماء الحقّ أَمْسوا أَنْدَر من الكبريت الأحمر، وأنّ علماء السّوء أعمّ وأكثر، ولا يَغْترَّ بالعَمائِم المُكَوَّرة والأَرْدان – الجمع : أَردان ؛ و أَردِنةالزُّدْنُ : الكُمُّ – المُكَبَّرة والأَذْيال المُجَرَّرَة، وإن كانت محَلَّ غرُور الأكثرين، والعنوان عندهم على العِلم والدّين ..
وإذا تنبَّهْ لعدَمِ الاغْتِرار بالمظاهر، وعَوِّلْ على الاسْتِدلال بالأعمال والمآثر..
المصدر: مجلة المنار: ربيع الثاني 1316هـ- سبتمبر 1898م ، سجايا العلماء ج١/ ٤٦٢
——————
وهنا أحدثك أيها القارئ الفطن بما حاك في صدري، واجتاحني بقوة وجال في خاطري، وتفتق في بواطن نفسي وسرّي، وطاف مع طائف أسراب ما طاف بي من أفكار، وأنا أقرأ هذا النص العميق في لفظه ودلالته، وأعدت قراءته لأتحقق مما بلغني من مدارك إيحاءات لفظه ومرتقى غاياته:
ولقد وقفت ببابه طويلا وأنا أتأمل وأتدبر في مغزى وفحوى خطابه، وأفكر في لبّ مقصده لأبلغ جوهر معناه، ولأرتقي إلى حيث يرتقي أسمى غاياته، فأسرني من ذاك ما أسرني من التّشاكل والتّشابه والترابط الذي أدركته في تكرار المواقف والأحداث وإن اختلف التطابق والتماثل في الزمان والمكان، واختلف السبب والدافع ..
ولكن كما سبق وقيل : أن التّاريخ شاهد عادل، وإن كان لا ينصف دائما ولا غالبا في كل ما يسرده ويكتبه، وما يدونه ويقرره ويحفظه ..
ولكن لا يندر أن يعيد التاربخ نفسه، فيكرّر ما تقدم وسلف من قول وفعل، فيصير في مثل هذا الحال شاهدا صادقا ينطق بلسان حالنا، ويتحدث عن أحوال أبناء عصرنا، فيشهد علينا ويحفظ بما شهد وحفظ عمن تقدّمونا، من كانوا مثلنا أو حالهم أشبه بأحوالنا، ومن صرنا إلى ما صاروا إليه، بل صرنا إلى حال أسوأ مما صاروا عليه ..
حيث صار فينا النّاطق صدقًا وحقًّا وعدلا يستحقُّ التوبيخ والتّقريع، والنّاصِح المخلص الأمين يلحقه الضرر والتجريح والتّحقير ..
وأبناء هذا الزمان هم تائهون في فيافي التّيه والغرور، يقتلون الساعات بلا وازع من ضمير، وينتهكون العمر والزمن في قال وقيل وقلنا وقالوا، وهم زائغون عن محجّة التبصّر بالحق، ولا يعملون بما يجب عليهم به العلم قبل القول والعمل، وحالهم كما قيل :
“لا يعرفون هريرًا من غرير، ولا قبيلاً من دبير” ..
وإن تكلموا أو انتقدوا تعجّلوا هتك السّتر ورفع الحجاب، والسّب والتجريح والشتم، من غير استدلال بحجة أو استناد إلى دليل، ولا رابطة تربط عروة حديثهم برباط متين وقول مبين، ولا مستند لهم إلا اللمز والنقد لأجل النقد والتّحقير، ولا ثبات لهم على واسطة فكر شرطه الإقتصاد والإنصاف، أو رأي سديد رشيد يؤيّد حجتهم، ويقوي عضد طربقتهم وساعد مذهبهم ..
وإن سكتوا فمن عجز وخنوع وضعف، وعدم اهتمام بالوصول إلى نتيجة، أو إدراك غاية أو حقيقة ..
وإن انتقدوا فمن وراء حجاب والعيب فيهم ظاهر مكشوف، أو خلف ظل وبريق خادع، وأسماء ومظاهر وصور لا تمثلهم، وإن استصوبوا فبغير اهتداء إلى الصّواب، وتراهم يمدحون ثم ما يلبثوا أن يذموا من مدحوه، أو يمدحون ما ذموه من غير أن يتثبّتوا أو يتيقّنوا ليميزوا الحق من الباطل، يل يصدقون تارة ويكذبون اخرى، وهو بين يقينهم وشكهم في اضطراب، تغربهم الرسوم والمظاهر، ويتعجلون في إصدار الأحكام وهم لم يقطعوا بعد مجاهل الدنيا ومفاوزها، ويطمحون إلى بلوغ مراقي التقدم والنجاح وهم لم يحلبوا الدهر أشطره، ولا سبروا حلوه ومره، ولا تدرّجوا في معراج التخلّي ثم التّحَلّي ثم التَّرقّي ليدركوا غايات الصلاح في الوصول إلى الفلاح ..
وما تلك إلا نتيجة جهلهم، ونتيجة إصغائهم وتلقيهم عمن هم على عمى وجهل، وفساد واختلال وانحراف، والتحلُّق حول من يزيغون بهم عن طريق الحق والاهتداء، وينفثون في عقولهم وقلوبهم سموم جهلهم وتعصبهم، وحبّ الأثرة وسوء الظن وسوء الأدب، وعدم دراسة العلم الصحيح من مصادره ومنابعه الصافية، وعدم تحصيله عن أهل الاختصاص من علمائه وشيوخه، والابتعاد بهم عن التهذيب والتربية الحقَّة، وعن الإرشاد إلى السبيل القويم والمنهاج الحق، والاكتفاء بسلب إرادتهم بشقشقة لسانهم والتكلف في كلامهم، ولوك ألفاظهم المصنعة المنمقة، الموهِمَة بالعلم والدّراية، ولا مطمح لهم في تعليمهم ولا في تهذيبهم إلا إدراك الترقّي الشخصي ولو عن طريق التّنافس المقيت والتّحاسد البغيض، وغمط الحقوق وعدم أداء الواجبات، والادّعاء الكاذب بغير حق، والمزاحمة بالمناكب في المراتب بغير أهلية ولا استحقاق، والافتخار بما يوجب الذل والعار، وعدم الاعتراف بجميل ولا بإحسان، وعدم الانقياد لمن يصدع بالحق، وتفريق الكلمة وتشتيت الآراء، والاكتفاء من العلم بالقول ولا عمل، ومن الفعل باللباس الفاخر والمظهر الباهر، والتَّحلّي بما يستنزف إغراء الأبصار والبصائر، وبغير فعل يستحق الإشادة، ولا التحلّي المفتخر بعظام الأفعال وجلائل الأعمال، ولا التزام
بشرط الإنصاف، وصفاء الفكر من شوائب التحيز وشطحات الأهواء، ومزالق الاستبداد ..
ونسوا كما تناسوا أن العز والفخار لا يكون إلا بارتقاء قمم الهمم العالية لا الاقتصار على الرّمم البالية، وان التقاط الحكمة تكون حيثما وجدت لسان حق وصدق، ووجدت إخلاصا في الإنجاز والعمل، ووجدت الاتحاد في القلوب والعقول على حسن الاستقبال والتلقي، وعلى بلوغ معارج الوصول في الترقّي .
وأن لا يصدق في حقهم حد قول القائل:
أنادي فلا ألقى مجيبًا سوى الصدى…فأحسب أن الحي ليس بآهل
وإنما تدرك الحقيقة بالبحث ومزاحمة الكواكب بالمناكب، لا بالنوم على أعتاب الأحلام، وتوسد وسائد من خبال وخيال، ولا بالركض خلف السراب، وإنما تتولد المعرفة والحقيقة بازدواج دُرِّ الأفكار، وتصادم زند البصيرة، حتى يصدع لسان الحق، ويتبارى المنافسون في القول والفعل..
(المصدر: هوية بريس)