مقالاتمقالات مختارة

زمن تغيير الجيل أربعون سنة

زمن تغيير الجيل أربعون سنة

بقلم محمد إلهامي

لماذا الذل من بين الطبائع هو الأخطر والأعمق أثرا؟

ولماذا كرر الله في كتابه ضرب المثل بفرعون وبني إسرائيل؟

لماذا جبن بنو إسرائيل عن أن يدخلوا الأرض المقدسة رغم أنهم قد وعدوا بالنصر وبعد أن شاهدوا المعجزة بأعينهم ويقودهم نبي من أولي العزم من الرسل؟

ماذا نستفيد نحن – أمة محمد  – من هذا كله؟

لماذا حرم الله عليهم الأرض المقدسة أربعين سنة؟ … لماذا أربعون سنة تحديدا؟

”المذلّة والانقياد كاسران لسورة العصبيّة وشدّتها فإنّ انقيادهم ومذلّتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلّة حتّى عجزوا عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة واعتبر ذلك في بني إسرائيل لمّا دعاهم موسى عليه السّلام إلى ملك الشّام وأخبرهم بأنّ الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك وقالوا ﴿ … إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا … (22) أي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيّتنا وتكون من معجزاتك يا موسى ولمّا عزم عليهم لجّوا وارتكبوا العصيان وقالوا له ﴿… فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا … (24)﴾ وما ذلك إلّا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة كما تقتضيه الآية وما يؤثّر في تفسيرها وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذّلّ للقبط أحقابا حتّى ذهبت العصبيّة منهم جملة مع أنّهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى من أنّ الشّام لهم وأنّ العمالقة الّذين كانوا بأريحا فريستهم بحكم من الله قدّره لهم”

هذه القصة من أبلغ القصص التي ضربها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم لنا، تعرفون قصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، وهي أكثر ورودا في القرآن الكريم لأن بني إسرائيل كانوا نموذجا ومثلا ضربه الله لأمة محمد ﷺ؛ بني إسرائيل هنا سنجد أنهم عاشوا في الذل تحت الفراعنة، وعاشوا في الذل يعني بلغوا من انكسار نفسهم، ومن ذهاب مناعتهم، ومن انحلال قوتهم، إلى الحد الذي كان فرعون يستطيع أن يأمر فيه بقتل الأولاد الرضع وهؤلاء لا يدافعون، يعني هذا قدر هائل من الظلم، ومع هذا القدر الهائل من الظلم لم يكن عندهم من المدافعة والممانعة والجرأة ما يدفعون به الذبح عن أولادهم، هؤلاء الذين ركب وتعمق وترسخ فيهم شأن الظلم، هؤلاء لما جاءهم موسى عليه السلام ضجروا منه و ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا … (129)﴾، يعني هم مع كل هذا الذل لم يفرحوا بالمخلص المنقذ الذي جاءهم، وإنما كرهوه لما كان قاد جاءهم به من الإيذاء على يد فرعون، رغم أنه نبي من عند الله؛ ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ … (83)﴾ (الذرية: هم الشباب من قومه) أنظر في حال بني إسرائيل، كل أنواع وكل مسببات الثورة والمقاومة تدفعهم إلى أن يثوروا: الظلم الشديد، القتل الذي يصل إلى حد قتل أبنائهم، وجود المنقذ، ومع ذلك لم يثوروا ومع ذلك كانوا عقبة وعائقا، ولما نجاهم الله تبارك وتعالى من فرعون، فما إن عبروا البحر بالمعجزة الهائلة، حتى قالوا يا موسى اجعل لنا إلاها كما لهم آلهة، هم من كثرة ذلهم لم يتصوروا أن يؤمنوا بإله لا يرونه، ولا يشاهدون بطشه، ولا يحسون بقهره؛ هم كانوا يرون فرعون، ويعرفون فرعون، ويرون سوط فرعون، وجنود فرعون، لكن لا يستطيعون أن يؤمنوا بإله لا يرون سطوته؛ ولذلك كانت بنوا إسرائيل لا تستقيم إلا لموسى، يعني هذا العنت لكن موسى بقوته المشهورة كان هو الذي يستطيع أن يستقيم له بنوا إسرائيل بنوع من هذه القوة، فلما غاب عنهم موسى ثلاثين ليلة استضعفوا هارون وكادوا يقتلونه وعبدوا العجل، وهارون قال: ﴿ … قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي … (150)﴾ ولما جاء موسى استناموا وعادوا وحرق موسى العجل ونسفه؛ حتى نصل إلى هذه المرحلة الشديدة الوضوح، الشديدة الدلالة، أن الله تبارك وتعالى وعدهم أنهم إذا دخلوا الباب على هؤلاء القوم الذين هم في المدينة المقدسة فإن الله سينصرهم، ومع ذلك: قوم عاشوا في الذل سنين، نجاهم الله من فرعون بمعجزة هائلة رأوها بأعينهم، يقودهم نبيان، ووعدهم الله بالنصر شرط أن يتشجعوا ويخوضوا هذه الحرب، ومع ذلك رفضوا و ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا … (22)﴾ ثم قالوا إذا كنت تريد أن تقاتل: ﴿… فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)﴾، لذلك فرض الله عليهم التيه أربعين سنة. التيه الذي فرضه الله عليهم أربعين سنة ما حكمته؟، يقول ابن خلدون:

”فعاقبهم الله بالتّيه وهو أنّهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشّام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها العمران ولا نزلوا مصرا ولا خالطوا بشرا كما قصّه القرآن لغلظة العمالقة بالشّام والقبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه ويظهر من مساق الآية ومفهومها أنّ حكمة ذلك التّيه مقصودة وهي فناء الجيل الّذين خرجوا من قبضة الذّلّ والقهر والقوّة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيّتهم حتّى نشأ في ذلك التّيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسأم بالمذلّة فنشأت بذلك عصبيّة أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتّغلّب ويظهر لك من ذلك أنّ الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر”

التقط ابن خلدون حكمة التيه أربعين سنة في أنه المقصود منه هو ذهاب هذا الجيل الذي تعود على الذل، وأن ينشأ جيل آخر في التيه، في الصحراء، في القفر، في البداوة، في الخشونة، ليست عليهم الأحكام، يعني ليست عليهم سطوة الفراعنة الذين كانوا في مصر ولا عليهم سطوة العماليق الذين كانوا في الشام، هؤلاء حين ينشؤون في البداوة وفي الخشونة، ولا يكونون محكومين بالقهر والسطوة والسلطة، فإنهم ينشؤون وقد اكتسبوا بأسهم ومنعتهم وصار لهم الشجاعة والإقدام خلقا وطبعا فنجوا بهذا مما نشأ فيه آباؤهم. وبالفعل هذا الجيل الجديد الذي نشأ في الخشونة والبداوة رغم أنه لم يرى مسببات الثورة التي كانت في فرعون (يعني لم يأتي أحد ويقتل أبناءهم) ولم يكن عندهم حين فتحوا وعد من الله بالنصر لهم كما كان الوعد لجيل آبائهم، وقادهم نبي وهو يوشع ابن نون ولم يكن على قدر موسى عليه السلام (فموسى عليه السلام هو من أولي العزم من الرسل)؛ إذا نعرف من هنا أن السنن ليست عملية رياضية وليست عملية منطقية، طبائع البشر ليست عملية رياضية، يعني نحن نتوقع أن الجيل الذي عانى من القهر وعانى من الذل جاءته فرصة للنجاة أن هذا الجيل هو الذي ينجوا وهو الذي يقاتل، وهو الذي يدافع عن نفسه، لأنه ذاق الذل وذاق الظلم، ولكن الواقع أن سمة الذل قد رسخت فيهم، لدرجة أن الجيل الذي فتح الأرض المقدسة هو الجيل الذي لم يقع به الظلم، ولم تقهره سطوة الأحكام، ولم يكن موعودا بالنصر على النحو الذي كان موعودا به آباؤهم من قبلهم. من هنا نرى بعض الأشياء التي يجب أن نهضمها لكي نستفيد منها: من الخطر الشديد أن يطول الظلم على أمتنا من الخطر الشديد أن يطول الظلم، إطالة الظلم تساوي استنبات الذل، والذل أمر لا يزول إلا بالجيل ولا يزول بمجرد زوال الظلم، يعني هؤلاء بنوا إسرائيل زال عنهم الظلم لكن لم يزل عنهم الذل؛ الأمر الثاني هو أن بعض الصفات يجب أن نقاوم وجدوها منذ اللحظة الأولى، يعني خلق الظلم والقهر والسطوة والإخافة هذه يجب أن تواجه من اللحظة الأولى لأن رسوخ هذا يساوي رسوخ العيوب والصفات السيئة لجيل، أن توجد لحظة ثورة أو توجد لحظة فارقة للخروج من الظلم هذه اللحظة لابد من الإمساك بها، لأن فشل اللحظة الفارقة لا يعوض بعد سنة أو سنتين، وإنما يعوض بعد جيل لأن ترسخ الحكم فيمن غلب (كما شرحناه في حلقة سابقة) يؤدي إلى ترسخ الذل والانقياد فيمن غلِب وقهِر، ثم نستفيد بعد ذلك أن الخشونة والبداوة، ومقارعة الصعاب هذه من الأمور الضرورية لكل شعب ولكل طليعة تبحث عن التغيير. خلو النفس من أخلاق الشجاعة والاقدام والخشونة هذا دليل أو مؤشر على أن المكتسبين لهذه الصفات لا يستطيعون أن يقوموا بعملية التغيير.

للشاعر الجاهلي قريط بن أنيف قصيدة مشهورة ومن شهرتها ومن قوتها بدأ بها أبو تمام ديوان الحماسة؛ هذه القصيدة فيها المعنى الذي نتناوله هنا من أن خلق الذل وعدم المدافعة وعدم المطالبة أمر لا يغني فيه عدد ولا مدد، قد تكون الناس كثيرة العدد لكن ليست عندهم هذه النفسية التي تدفعهم لمقاومة ومجابهة ما يراد بهم؛ فهذا الشاعر قريط بن أنيف يمدح بني عمه الذين هم بنوا مازن لأنه لما اعتدي على إبله بني ذهل بن شيبان لم يقم قومه بنوا العنبر بالمدافعة عنه، فيقول:

لو كنتُ مِن مَازِنٍ لم تَسْتَبِحْ إِبِلِي

بنو الَّلقِيطَةِ مِن ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَا

إذن لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ

عندَ الحَفِيظةِ إِنْ ذو لُوثَةٍ لانَا

لكنَّ قومِي وإِنْ كانوا ذَوِي حسب

ليسوا مِن الشَّرِّ في شيءٍ وإِنْ هَانَا

يَجْزُونَ مِن ظُلْمِ أَهْلِ الظَّلْمِ مَغْفِرَةً

ومِن إِساءَةِ أَهْلِ السَّوءِ إِحْسَانَا

فليت لي بهم قومًا إذا رَكِبُوا

شَدُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا ورُكْبَانَا

لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُمْ

في النَّائِبَاتِ على ما قال بُرْهَانَا

(المصدر: موقع البوصلة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى