بقلم ياسر الزعاترة
يبدو أن من ضاقوا ذرعا بالإسلام السياسي ويميلون إلى نظرية “المستنقع والبعوض”؛ الإسرائيلية المنشأ والعابدية (نسبة إلى زين العابدين بن علي) التطوير..؛ يبدو أنهم في عجلة من أمرهم ويريدون حرق المراحل.
نفتح قوسا لنشر إلى طبيعة هذه النظرية لمن لم يسمعوا بها من قبل، وخلاصتها أنك لن تتمكن من قتل البعوض من دون تجفيف المستنقع، وقد اخترعها الصهاينة في التعاطي مع حماس والجهاد، وفشلوا بطبيعة الحال في شطب حاضنتهما الشعبية، خاصة أنها جمعت بين الديني والوطني.
“من كانوا يستخدمون التيار السلفي التقليدي (له مسميات عديدة بحسب البلد.. سلفية علمية، جامية، مدخلية..)، في مواجهة “الإسلام السياسي”، ها هم يكتشفون أن ذلك ليس مجديا ولا مناسبا للنمط الذي يريدونه، والذي يجمع بين الانفتاح الاجتماعي ونظرية الطاعة الكاملة”
أما زين العابدين بن علي فطوّرها بمسمى “نظرية تجفيف الينابيع”، أي محاربة التدين برمته من أجل ضرب “الإسلام السياسي”، فكان أن فوجئ بصحوة عارمة مطلع الألفية، ثم فوجئ بتصاعد المد السلفي الجهادي، قبل أن يفاجئه الربيع العربي بنهاية حكمه.
من تحدثنا عنهم في البداية ينتمون إلى هذه النظرية، وخاصة في طبعتها الأخيرة. وفيما كانوا يستخدمون التيار السلفي التقليدي (له مسميات عديدة بحسب البلد.. سلفية علمية، جامية، مدخلية..)، في مواجهة “الإسلام السياسي”، ها هم يكتشفون أن ذلك ليس مجديا ولا مناسبا للنمط الذي يريدونه، والذي يجمع بين الانفتاح الاجتماعي ونظرية الطاعة الكاملة.
إذ يرفض هذا التيار نمط “الانفتاح الاجتماعي” وإن مَنح الطاعة الكاملة، كما أن انتقال بعض عناصره من مربعهم إلى مربع “التيار الجهادي” ليس مستبعَدا، وقد ثبت ذلك من خلال الوقائع الواضحة.
لذلك كله، بدأ ميل من ذكرنا واضحا إلى نمطين من التدين؛ الأول ذلك الذي تصعب تسميته تدينا بقدر ما يمكن وصفه بأنه خطاب ديني، ويذهب نحو “تمييع” الدين -إن جاز التعبير- وإعادة النظر في الكثير من ثوابته بدعوى التجديد، ويرفع شعار الانفتاح على الآخر، بكل ما تعنيه كلمة الآخر.
بل ستجد عجبا أن بعض مروّجي هذا الخطاب يكادون يلامسون حدود الإلحاد، فيما لا يعرف عن بعضهم أي تدين أصلا، وتخرّج بعضهم من التيارات الإسلامية بمختلف ألوانها.
وفيما يصعب على هذا النمط المشار إليه الوصول إلى الطبقات الشعبية لكونه “نخبوي” الطابع، فإن الحل يأتي من التيار الثاني، وهو التيار الصوفي الذي بدأ يحظى برعايات رسمية في عدد من البلدان، ونرى الكثير من رموزه يتصدرون الفضائيات، كما يتنقلون من بلد إلى آخر، ويحصدون الأموال فيوزعونها على الأتباع، ويعقدون المؤتمرات.
وحين نتحدث عن التيار الصوفي على هذا النحو، فلا يعني ذلك أننا نقف منه موقفا سلبيا من حيث المبدأ، ولسنا من أولئك الذين لا يحلو لهم وصف أتباعه بغير مصطلح “القبوريين”، لأن الصوفية ليست شيئا واحدا، ولها في مواجهة الاستعمار دور مشهود، فضلا عن الحفاظ على الدين في عدد من الدول الأفريقية على سبيل المثال.
وفيما يمكن القول إن جوهر التصوف يتمثل في الزهد والذكر، فإن متابعة بعض رموز هذا التيار ستكشف أنهم من المنعّمين الذين لا يعرفون للزهد طريقا، لكنهم فيما يعني من يدعمونهم يقدمون خطابا يُبعد الناس عن السياسة وقضاياها، بل وعن عموم الشأن العام، وبذلك يريحون، وربما يستريحون إذا جاز القول إن السياسة والاهتمام بالشأن العام لا يورث غير وجع الرأس!!
“مطالب الإصلاح والتقاسم العادل للسلطة والثروة لن يدفنها أحد، حتى ولو انتهى التدين من المجتمع، لأن كثيرين سيتصدّرون المشهد بعد ذلك وسيرفعونها أيضا، وسيلتف الناس من حولهم بكل تأكيد. فمَن يعبّر عن هموم الناس هو الذي سيحظى بثقتهم أياً كانت وجهته”
والحال أن تديناً لا يلتحم بقضايا الناس لا يمكن أن يبقى، وهذا ما يدركه من يذهبون في هذا الاتجاه، بل هذا ما يريدونه في واقع الحال، وفي النهاية يمكن أن ينتهي تيار التصوف إلى ما كان عليه الحال حتى مطلع الربع الأخير من القرن العشرين، قبل أن تصعد الصحوة الجديدة، أي أنه تدين بغير تدين عملي بما في ذلك الفرائض الأساسية؛ اللهم سوى زيارة قبور الأولياء وطلب العون منهم.
لعل المعضلة التي تواجهها هذه الإستراتيجية في هذه المرحلة تتمثل في اتّساع مد الصحوة الدينية، واستحالة تغييب الناس عن الشأن العام في زمن مواقع التواصل، مما يعني أن فرص نجاحها تكاد تكون محدودة، من دون تجاهل ما تملكه السياسة من سطوة على عالم التدين، وقدرتها على التأثير فيه عبر منح المنابر لطرف وحرمان آخر منها.
لذلك كله، يمكن القول إن هذه الإستراتيجية لن يُكتب لها النجاح المأمول من أصحابها، وسيكتشفون أن التدين أعمق جذورا من ضربه بهذه السهولة.
هذا من جانب، أما الجانب الآخر الأهم فيتمثل في أن مطالب الإصلاح والتقاسم العادل للسلطة والثروة لن يدفنها أحد، حتى ولو انتهى التدين من المجتمع، لأن كثيرين سيتصدّرون المشهد بعد ذلك وسيرفعونها أيضا، وسيلتف الناس من حولهم بكل تأكيد. فمَن يعبّر عن هموم الناس هو الذي سيحظى بثقتهم أياً كانت وجهته، لكنه يكون أقرب إليهم كلما اقترب أكثر من مخزون الوعي لديهم.
وهذا هو سر بقاء ما يسمى “الإسلام السياسي” رغم تلك الحرب الرهيبة عليه (شواهد ذلك كثيرة في عدد من الدول خلال المرحلة الأخيرة)، تلك التي تابعناها ولا نزال منذ بداية الربيع العربي.
(المصدر: الجزيرة)